الأقسام الرئيسية

الثورة في أزمة

. . ليست هناك تعليقات:

Thu, 29/11/2012 - 21:44

أثناء زياراتي الدورية لمصر منذ اندلاع الثورة، أصابتني دهشة بالغة من تدهور الخطاب العام ومن اختباء المعسكرات الأيديولوجية المختلفة داخل فقاعات فكرية، حيث يقوم الجميع بترويج أكثر الإشاعات غرابة عن الخصوم ثم يتعاملون معها على أنها حقائق.
حتى وقت قريب، كان الأثر الرئيسي لهذا الميل المؤسف هو الرطان الصاخب والأخلاق السيئة. لكنه الآن يضع النظام السياسي على شفا أزمة خطيرة.
وبينما لا زالت توجد إمكانية للوصول إلى حل وسط، إلا أن الأحداث الأخيرة لا تترك إلا مجالا محدودا للتراجع.
هذا بالتحديد هو الحال بشأن الإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس الجمهورية يوم 22 نوفمبر الماضي، فهذا الإعلان لم يضع القوى السياسية في مصر في مواجهة بعضها البعض فقط، بل إنه خلق انشقاقا عميقا في مؤسسات الدولة كذلك.
فمؤسستا الرئاسة والقضاء دخلتا في مواجهة، حيث يصور كل طرف غريمه بشكل هزلي.
كان الرئيس مرسي يستجيب لمشاكل حقيقية عندما حصن قراراته والجمعية التأسيسية من الرقابة القضائية.
فلقد كان للإخوان المسلمين الدور الأكبر في اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور، ولكنهم فعلوا هذا على أساس من الالتزام الكامل بالقواعد التي تمت صياغتها العام الماضي.
والحقيقة أنه ليس من الواضح إن كانت المعارضة سترضى بأي حل وسط بخصوص تشكيل الجمعية أو بخصوص جدول أعمالها.
ولذلك فإن شكوى الإخوان – أن كثيرا من معارضيهم رفضوا السماح لنتائج الانتخابات البرلمانية بأن تلعب دورا في اختيار كتاب الدستور أو في توجيه مضمونه – لها أساس قوي.
وفي هذا السياق، لعب القضاء دور الملاذ الواضح للمعارضة، حيث أن أحكاما قضائية سابقة كانت قد حلت البرلمان والجمعية التأسيسية الأولى. والآن، شرعية الجمعية التأسيسية مطروحة للمرة الثانية أمام المحكمة الدستورية العليا.
ومن ناحية أخرى، فإن الدور الذي لعبه بعض القضاة في الانتخابات الرئاسية، وإسداءهم النصح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومساهماتهم في الحوار العام، كل هذا ترك مساحة كبيرة من عدم الثقة في الأوساط الإخوانية.
لكن رغم تشككه في القضاء، إلا أن الرئيس لا يرى نفسه من حيث المبدأ خصما لاستقلال القضاء – ففي نهاية المطاف كل الأعضاء الكبار في تيار استقلال القضاء يشغلون الآن مناصب رفيعة في حكمه: نائب الرئيس ووزير العدل ورئيس الجمعية التأسيسية.
ولكن، والحق يقال، فإن لغة الرئيس في الدفاع عن إعلانه الدستوري كانت نافدة الصبر. وفي الموازاة، فإن كثيرا من قيادات حزب الحرية والعدالة فشلوا في لجم ألسنتهم عند التحدث عن المحكمة الدستورية العليا على وجه الخصوص.
وللأسف، يذكرنا دفاع مرسي عن قراراته المدفعوعة بهدف حماية الديمقراطية بالتعليق المنسوب إلى جندي أمريكي خلال حرب فيتنام: «لقد أصبح ضروريا أن ندمر القرية من أجل إنقاذها.»
كان الرئيس واضحا في شرح السبب الذي من أجله احتاج إلى إعلان نوفمبر: كان خائفا  من كون المحكمة الدستورية على وشك الانقضاض على الثورة من خلال حل الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى، وربما أيضا إعلان أغسطس الدستوري الذي أزاح سيطرة العسكر على النظام السياسي.
والسؤال الآن: هل المحكمة الدستورية مؤسسة مكونة من حفنة من أتباع المجلس العسكري  أو من أراجوزات اختارهم حسني مبارك؟
إجابتي هي لا.
صحيح أن كل أعضاء المحكمة كانوا بالفعل من الناحية الشكلية مختارين من جانب الرئيس مبارك. لكن صحيح كذلك أن أغلبهم تم ترشيحهم من جانب القضاة أنفسهم. أما تعيينهم على يد مبارك، فقد كان إجراء شكليا فقط.
كان رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق فاروق سلطان بالفعل اختيارا مباشرا لمبارك. ولكن كان يحظى  بصوت واحد فقط في المحكمة. وقد أحيل للمعاش في الصيف الماضي وحل محله شخص آخر تم اختياره بواسطه قضاة المحكمة أنفسهم.
أنا لا أرغب في الإيحاء بأن أساليب النظام القديم لم تترك أثرها على المحكمة نهائيا. فلقد كانت هناك طرقا غير مباشرة تم من خلالها ترويض المحكمة التي كانت جريئة على عهد رئيسها الأسبق خلال التسعينيات عوض المر.
ولكن الحقيقة هي أن قضاة المحكمة هم بالفعل جماعة متنوعة أكثر كثيرا مما هو ظاهر للعيان. بعض هؤلاء لعب أدوارا عاما مرموقة، ولكن معظمهم يتحدثون فقط من خلال أحكامهم، وهي الأحكام التي تصدرها المحكمة ككل ولا تصدر من خلال قضاة منفردين، وهو ما يعني أن الأصوات المعارضة  أو الأقلية ليست معروفة.
هذا بالتحديد ما يجعل من الصعب قراءة ميول قضاة المحكمة الدستورية. وهو بالتبعية ما يجعل من السهل على نقادهم قراءة دوافع شريرة في أفعال المحكمة. وهو بالضبط ما فعلوه حين حكمت بحل البرلمان.
لا شك أن حل البرلمان كان مكلفا سياسيا لمصر. فلقد عمق من شكوك الإسلاميين وحرم البلاد من واحد من المؤسسات القليلة المتبقية التي توفرت من خلالها الفرصة للقوى المتعارضة للالتقاء والوصول إلى اتفاقات.
ولكن نقاد حكم حل المحكمة لم يدركوا عنصرين عندما حكموا عليه بأنه لعبة سلطة من جانب المجلس العسكري أو بقايا النظام القديم.
فأولا،  بذل الحكم جهدا كبيرا حتى يتجنب الاستناد على إعلان المجلس العسكري الدستوري الصادر في مارس 2011. صحيح أن المحكمة اعترفت بهذا الإعلان. لكنها مع ذلك تعاطت معه بدرجة من النفور.
وثانيا، فقد اعتمد أسلوب ومضمون الحكم بقوة على الفقه القضائي المميز لأيام نهاية الثمانينيات والتسعينيات – تلك الأيام المجيدة للقاضي عوض المر، عندما لعبت المحكمة دور الملاذ لأولئك الساعين لأخد الحقوق والضمانات الإجرائية الغامضة في دستور 1971 مأخذ الجد.
فالحقيقة أن الحكم لم يسر على هدي اتجاهات المجلس العسكري. لكن توقيته كان في الأغلب مسألة دفاع عن النفس – على الأقل من وجهة نظر القضاة.
وبخصوص هذا الحكم، فإنه من الصعب تجنب الانطباع أن المحكمة تشعر أنها مهددة بصعود الإخوان. ولكن هذا الشعور لا يرجع بالأساس إلى عوامل أيديولوجية، بل إلى التخوف من أن تكون المحكمة هدفا محتملا لهجوم الإخوان المسلمين.
فلقد تحركت في قضية حل البرلمان في غضون ساعات، رغم أنها استغرقت سنوات في أحكام سابقة شبيهة. فعل القضاة هذا وهم واعون تماما أن البرلمان كان يناقش تشريعا يقلص سلطة المحكمة ويعيد تشكيل أعضائها. ولذا فبمعنى ما، كان الموقف ساعتها مثل مبارزة ينتصر فيها الشخص الذي يسحب مسدسه أولا.
وربما كانت حقيقة أن المحكمة سحبت سلاحها أولا في المبارزة التي جرت في يونيو هي التي دفعت مرسي إلى الإسراع بسحب سلاحه الأسبوع الماضي. فهو لم يحل المحكمة – رغم الشائعات المنتشرة أنه كان ينتوي هذا – بل تركها حية، ساعيا فقط إلى حرمانها من ولايتها في القضايا التي يهتم بشأنها أكثر من غيرها.
كيف سترد المحكمة؟ لا فكرة لدي.
ففي سلسلة من الأحكام في أكتوبر الماضي، تعاملت المحكمة مع إعلان مارس 2011 الدستوري على أنه الوثيقة الحاكمة في مصر.  وقد كانت هذه خطوة ذات مغزى تجنبتها المحكمة في يونيو الذي سبقه.
لم تشر المحكمة إلى أي تعديلات لاحقة لإعلان مارس 2011 قام بها المجلس العسكري أو مرسي. ولكن كذلك لم يكن هناك سبب للقيام بذلك، حيث أن تلك التعديلات تناولت مجالات ليست ذات صلة بالقضايا التي نظرتها المحكمة في تلك الفترة.
وكنتيجة لذلك، فإن المحكمة أصبحت الآن رسميا معترفة بشكل علني بإعلان مارس 2011 الدستوري. ولكنها ظلت على صمتها فيما يخص الإضافات اللاحقة، بما في ذلك الإضافتين التي قام بهما مرسي في أغسطس ونوفمبر.
ويمكن تبرير التعامل مع إعلان مارس 2011 الدستوري كوثيقة حاكمة – بالرغم من أنه صدر بإرادة عسكرية فقط – بالحجة القائلة أن المجلس العسكري كان السلطة العملية في البلاد. وهنا علينا أن نشير إلى سوابق في التاريخ الدستوري المصري لما يشار إليه أحيانا بـ«الشرعية الثورية».
حظي المجلس العسكري بمثل هذه الشرعية بدءا من فبراير 2011. لكنه فقدها عند نقطة ما. أما فيما يتعلق بالرئيس مرسي، فقد ادعى عمليا امتلاكه هذه السلطة عندما أصدر إعلانه الدستوري في أغسطس الماضي. والحقيقة أنه إذا كانت هناك سلطة عملية تمارس «الشرعية الثورية» اليوم، فهي محمد مرسي كرئيس للجمهورية.
ولكن ليس من الواضح إن كانت المحكمة الدستورية ستعترف بوجود تلك السلطة الآن.
الحقيقة أنه يبدو أن المحكمة لديها ميل إلى أخذ السياق السياسي العام في الاعتبار حين تصدر أحكامها. وعلى ذلك فإن التصاعد الحالي لمعارضة قرارات مرسي ربما يعطيها المساحة السياسية التي تحتاجها حتى تضع الإعلان الأخير موضع المساءلة إذا كان لديها مثل هذه الرغبة.
ظني أن هناك قضاة في المحكمة لن يترددوا في إصدار حكم كهذا. ولكن هناك أيضا قضاة حذرون سوف يعتبرون هذا فعلا متهورا. وفي كل الأحوال، فإن سجل المحكمة يعطي الانطباع أنها من الممكن أن تدافع عن نفسها عندما تشعر أنها تتعرض للهجوم.
ونلاحظ في هذا السياق أن الوضع السياسي الحالي غير مستقر، وسوف تحتاج المحكمة ليس فقط دعما سياسيا، ولكن أيضا مساندة من محكمة أخرى حتى تحصل على قضية ذات صلة تمكنها من إصدار حكم بشأن الإعلان الدستوري الأخير.
والأكيد أن حكما يتحدى مباشرة محاولة الريس الواضحة لإقصاء المحكمة سوف يكون تصادميا بامتياز.
والواقع أن إلغاء إعلان مرسي الأخير سوف يكون أمرا معقدا قانونيا وسياسيا. فإذا ما حاولت المحكمة الهجوم على هذا الإعلان، فسوف يكون صعبا (ولكن أيضا ليس مستحيلا) فعل هذا دون وضع إعلان أغسطس السابق عليه موضع المساءلة.
أما إلغاء إعلان أغسطس، فهو سوف يستدعي المجلس العسكري للعودة إلى السلطة.
من الممكن أن تكون هناك وسائل لتجنب مثل هذه النتيجة. ولكني أذكر هذا فقط حتى أشير إلى حقيقة أنه حتى محكمة دستورية ذات ميل تصادمي سوف تجد نفسها أمام مسار قانوني شديد التعقيد.
كيف وجدت مصر نفسها في مثل هذا الموقف الاستقطابي، هذا الموقف الذي يبدو أنه يكافئ الأفعال المتهورة، ويضخم من أثر الأصوات الصدامية، ويغلق الطريق أمام الحلول الوسط؟
أعتقد أن الخطأ لا يكمن بالأساس في نوايا الفاعلين، تلك التي تتصف بقصر النظر أكثر من اتصافها بالنوايا السيئة، ولكنه يكمن في سلسلة من الأخطاء التي ارتكبت في المرحلة الانتقالية التي تم التخطيط لها العام الماضي.
فقد تم ملء مناطق غموض حساسة – مثل التسلسل الدقيق لإجراءات التحول الديمقراطي وطبيعة سلطات البرلمان وكيفية تعديل الإعلان الدستوري ومعايير اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية –  بقرارات عشوائية اتخذها فاعلون خائفون من خصومهم في سياق استقطابي.
ولكن في حين أن الأزمة ليست نتاج دوافع الفاعلين بشكل كامل، فإن المصريين لن يجدوا سبيلا للتقدم للأمام إلا إذا وجد قادتهم الدافع لحل خلافاتهم من خلال التوصل إلى حلول وسط. فعملية كتابة الدستور أصابها عطب شديد، لكن لا زال من الممكن إصلاحها.
فمن الممكن أن تبلور المعارضة حزمة من المطالب ليست مبنية على إنكار حق الإسلاميين في حصد ثمرة نصرهم الانتخابي أو على الإصرار على إسقاط الرئيس. أما الرئيس، فيمكنه أن يتراجع عن أجزاء من القرارات الديكتاتورية التي اتخذها في الأسبوع الماضي.
ظني أن المكونات الرئيسية للوصول إلى حل وسط لم يتم تدميرها بعد.
-------------------------------------------------------------------
ناثان براون..  أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer