September 27th, 2012 9:12 am
انتكاسة أخرى طالت ملف كوريا الشمالية مع حلول ربيع 2009، حيث قامت
بيونج يانج، رغم الضغوط الدولية، بعملية إطلاق قمر صناعى، والتى صُوّرت
على أنها اختبار للصاروخ الأطول مدى لدى كوريا الشمالية، وهى العملية التى
وصفها الرئيس «باراك أوباما» بأنها «استفزازية»، وطالب مجلس الأمن باتخاذ
إجراء إزاءها.
وفى الثالث عشر من إبريل أدان مجلس الأمن كوريا الشمالية جراء هذه العملية، وهى الإدانة التى ردت عليها كوريا الشمالية بغضب متوقع، حيث أعلنت اعتزامها مقاطعة المحادثات السداسية بصورة نهائية. ومرة ثانية كان على مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مغادرة كوريا الشمالية.
وتزامنت تلك التطورات مع تعرض كوريا الشمالية لأزمة متفاقمة تتعلق بوصول الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما أدى إلى تقليل الكميات الضئيلة من الأرز التى كانت الحكومة توفرها للمواطن الكورى، والتى لم تكن تتناسب مع الحد الأدنى للتغذية السليمة. فى الوقت نفسه كانت صحة الزعيم الكورى تتداعى، وكانت خلافاته مع القيادات الكورية العسكرية حول خلافة ابنه له فى الحكم تتصاعد مع رغبة كبار العسكريين فى اغتنام الفرصة للوصول إلى الحكم. وكان ذلك يعنى أن حدوث أية مواجهة خارجية كان يمكن أن يوفر ذريعة لقيام المتشددين فى كوريا الشمالية بعمل درامى.
وبحلول 25 مايو 2009 كانت كوريا الشمالية قد أجرت ثانى تفجير نووى لها بنجاح، ورغم أن التفجير كان صغيرًا حسب معايير الأسلحة النووية فإنه فى كل الأحوال كان أكبر كثيرًا من التفجير الأول. وتمت إدانة التفجير من قِبل مجلس الأمن ومن قِبل الأعضاء الخمسة الآخرين فى المحادثات السداسية التى كانت متوقفة بصورة كاملة عند وقوع هذه الأحداث.
ظهرت على السطح مرة أخرى قصة برنامج تخصيب اليورانيوم المزعوم، وهذه المرة فى صورة منشأة متكاملة للتخصيب، كشفت عنها كوريا الشمالية بكل فخر فى نوفمبر من عام 2010 لأحد أهم الخبراء الأمريكيين، «سيجفريد هكر»، وهو أستاذ فى جامعة ستانفورد وكان يرأس معمل لوس الأموس الوطنى. أطلع الكوريون «هكر» وزملاءه على غرفة متطورة للغاية وقاعة تخصيب مزودة بما قال المسؤولون الكوريون إنه 2000 جهاز طرد ينتج بالفعل اليورانيوم منخفض التخصيب. وكانت المنشأة تقع فى مركز سابق لتصنيع الوقود، مما أوضح أن منشأة التخصيب هذه بُنيت بعد إبريل 2009، وهى آخر مرة وجد فيها المفتشون الدوليون فى كوريا الشمالية. ودعت سرعة البناء على هذا النحو الكثيرين إلى أن يستنتجوا أن لدى كوريا الشمالية مواقع أخرى بالتأكيد تُجرى بها عمليات تخصيب اليورانيوم. وكان هذا الكشف دليلا مذهلا آخر على عبث محاولات احتواء انتشار الأسلحة والطموحات النووية من خلال المواجهة، والعقوبات، والعزلة.
■ ■ ■
وبالنسبة لى، كان الاختبار النووى الثانى لكوريا الشمالية أكثر إحباطا من الأول. فلقد قطعنا شوطا فى ملف كوريا الشمالية خلال العامين الماضيين. وبالنظر إلى سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن التفجير جاء فى وقت كان يحدونا فيه، أكثر من أى وقت فى الماضى القريب، أمل أكبر تجاه نزع السلاح النووى فى العالم.
لكن أكبر مصدر للإحباط والغضب كان متابعة هذه السلسلة من المد والجَزْر فى علاقة كوريا الشمالية بالغرب. كانت تصرفات وردود أفعال كوريا الشمالية متوقَّعة إلى حد كبير. وعندما كانت بيونج يانج طرفا فى حوار هادف كان الموقف أفضل بكثير. لكن عندما توقف الحوار، وحدثت الإهانات، وأعيد تقديم سياسة العزلة، تدهور الوضع كثيرًا. إن الموضوع بسيط بطريقة أكثر مما هو متصور. فإدانة مجلس الأمن لإطلاق كوريا الشمالية لتلك الصواريخ جعلت الوضع أسوأ مما كان. وربما كانت كوريا الشمالية قد تعمدت أن تستفز الإدارة الأمريكية الجديدة فى محاولة لجذب الانتباه والحصول على معاملة أفضل من تلك التى كانت تلقاها من إدارة «بوش». وكان من المؤكد أن كوريا الشمالية ستبالغ فى رد فعلها، كما فعلت فى كل المواقف السابقة. وقد سألت نفسى: هل أصبح الدبلوماسيون والسياسيون يركزون فقط على قضية اليوم وحدها وينسون الغاية الكبرى من كل ذلك، ألا وهى نزع السلاح النووى؟ وفى كل الأحوال فسواء كان مجلس الأمن يتعامل مع كوريا الشمالية أم أى قضية أخرى لمنع انتشار السلاح النووى، فإن المجلس كان يبدو دائمًا إما منقسما على نفسه، وإما محدودا جدّا فى خياراته، فلا يقدم سوى البيانات الواهية أو الأفعال التى تؤتى بنتائج غير مقصودة. وفى أزمة تلو الأخرى نجد أن المواقف التى يتخذها مجلس الأمن ردّا على تهديد انتشار السلاح النووى كانت جوفاء وغير ذات أثر. وبالطبع فحتى يصبح للمجلس تأثير قوى، فإنه يجب القيام ببعض المواءمات الضرورية، مثل: التركيز على الأسباب الجوهرية لمشكلة انعدام الأمن وليس فقط على أعراضها، والسير بسرعة وواقعية أكبر فى التعامل مع عدم امتثال الدول لاتفاقياتها، والتدخل المبكر وليس بعد وقوع الكارثة، واتخاذ إجراءات فعالة تستهدف الأنظمة الحاكمة المعنية، وليس المدنيين الأبرياء، وأخيرا، الثبات على المبدأ وعدم الكيل بمكيالَيْن فى المواقف المتشابهة. وهذه التعديلات الضرورية تبدو أكثر حتمية عند التعامل مع برنامج نووى مثل برنامج الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الفصل الخامس: إيران: 2003 – 2005
لغز «التقية»
يبدو أن دراما التحقق من القدرات النووية الجارية فى بلدين فى نفس الوقت لم تكن كافية، ففى منتصف عام 2002، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى تلقى معلومات عن أزمة جديدة. فقد جاءت صور الأقمار الاصطناعية التى تم التقاطها لمبنى صناعى ضخم غير واضح المعالم فى مدينة «ناتانز» الواقعة بإقليم أصفهان بإيران والتى توحى بأن هذا المبنى ربما يكون مستخدمًا لأغراض تخصيب اليورانيوم.
وفى منتصف أغسطس عقد ممثلون عن المجلس الوطنى للمقاومة فى إيران، وهو كيان إيرانى سياسى معارض، مؤتمرًا صحفيًّا فى واشنطن ليعلنوا عن قيام طهران ببناء منشأة نووية سرّا فى «ناتانز».
وبدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التحقيق فى الأمر، وفى شهر سبتمبر، وخلال المؤتمر العام للوكالة بحثت عن غلام رضا آغازاده للتحدث معه. وآغازاده رجل ضئيل البنية شديد الجدية، يشغل منصبين: فهو نائب لرئيس الجمهورية الإيرانية، كما أنه فى الوقت نفسه مدير للمنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران.
وعلى هامش الاجتماع انفردت بآغازاده وسألته عن حقيقة المنشأة التى تم تصويرها فى «ناتانز»، وما إذا كانت فعلا تُستخدم لأغراض التخصيب؟ مقترحًا أنه ربما يجب أن نقوم بزيارة لهذا الموقع للتحقق من حقيقة ما يدور فيه.
وقد رد آغازاده بابتسامة! قائلا: «بالطبع سنوجه لكم الدعوة قريبا، وعندئذ سيتم إيضاح كل شىء». ولم أجد فى ما قاله آغازاده شيئا يطمئننى.
ومما زاد الشكوك هو تأخر تلك الدعوة لزيارة «ناتانز»، والتى توالت الحجج لتبرير هذا التأخير بدءا من غياب الرئيس الإيرانى خامنئى عن البلاد فى مهمة عمل بالخارج، أو إصابته بوعكة صحية، أو أن المواعيد المقترحة لا تتناسب وجدول مواعيد كبار المسؤولين فى إيران. واستمرت هذه المماطلة لشهور متتالية.
وفى خلال هذه الشهور كنت قد التقيت وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول» و«ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية. وخلال هذا اللقاء أخبرتهما بأن السياسة الأمريكية إزاء إيران، والتى تقوم بالأساس على استخدام المقاطعة والعقوبات على طهران لمنعها من تطوير أسلحة نووية، ليست فى رأيى بالسياسة المُجدية.
فقد كان اعتقادى أنه لا فائدة ترجى من مجرد توقيع عقوبات على بلدٍ ما لسعى هذا البلد لامتلاك سلاح نووى فى غياب التعامل مع الأسباب الحقيقية التى أدت إلى السعى لذلك. كما أشرت إلى أن هذا النهج لا يمثل سياسة حقيقية ولا حتى يمثل استراتيجية بالمعنى البراجماتى للكلمة.
وقلت لـ«باول» و«آرميتاج» إن كل ما يمكن توقعه من هذا النهج هو تأخير قيام الدولة المعنية، فى هذه الحالة إيران، بتطوير السلاح النووى الذى تسعى له. ولم يعلق «باول» على ما قلت، لكن «آرميتاج» أبدى موافقته. واعتقدت عندئذ أن هذا دليل على أنهما ربما يتدبران فى ما قلت وهو ما قد يدعو للتفاؤل.
وفى الوقت ذاته كنت أدرس ملفات تعامل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع بلاد مثل الأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا. لقد تمكنت الأرجنتين والبرازيل من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتطوير دورة الوقود النووى، وذلك على الرغم مما تعرضتا له من تضييق على وارداتهما عبر سنوات طويلة. أما جنوب إفريقيا، والتى تعرضت لنفس القدر من التضييق فقد تمكنت من أن تطور دورة الوقود النووى بما يكفى لأن تُصنّع سلاحا نوويّا، وإن كانت قد اختارت بعد ذلك أن تتخلى طواعية عن هذا السلاح.
ووجدت أن أهم درس يجب تعلمه من خبرات التعامل مع هذه التجارب أن محاولة منع دولة ما من الحصول على التكنولوجيا النووية ذات الطبيعة الحساسة إنما يستفز الحماسة الوطنية لدى هذه الدولة، ويجعل هدف الوصول إلى تلك التكنولوجيا أولوية قومية تسعى لها هذه الدولة بكل طاقتها.
وفى النهاية، قررت طهران دعوتنا لزيارة إيران فى الأسبوع الثالث من فبراير من عام 2003 ولم يكن ذلك بالموعد المناسب على الإطلاق. ففى الوقت ذاته كانت كوريا الشمالية قد انسحبت لتوها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكان مجلس الأمن يشهد انقسامًا كبيرًا حول استخدام القوة فى العراق، وبدا أن وقوع هجمة عسكرية على العراق أصبح وشيكا. من ناحية أخرى فإن فِرق التفتيش التابعة للوكالة كان لديها أعباء تفوق طاقتها. ولكن الوقت كان قد حان للحصول على أجوبة للأسئلة التى طُرحت حول ما يجرى فى «ناتانز»، فقررت الذهاب برفقة «بيير جولدشميدت»، وهو عالم نووى بلجيكى كان نائبا للمدير العام للوكالة لشؤون الضمانات، و«أوللى هاينونين».
وفى أول مقابلة أجريناها فى طهران أقر آغازاده والفريق المعاون له بأن المبنى قيد التساؤل فى «ناتانز» هو بالفعل منشأة كبيرة لتخصيب اليورانيوم، لكنهم أصروا على أنه لم يتم بناؤه بغرض إخفائه عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف أنه بناء على اتفاق الضمانات المبرم مع الوكالة فإنهم ليسوا ملتزمين بإبلاغها إلا قبل إدخال المواد النووية بـ180 يومًا إلى المنشأة، ومن ثَمَّ فإن موقفهم سليم، حيث لم يتم إدخال أى مواد نووية إلى المنشأة، ولم يتم فيها أى عمليات تخصيب.
وفى اليوم التالى توجهنا إلى «ناتانز»؛ وهى بلدة جبلية صغيرة معروفة ببساتينها ويحيط بها عدد من المواقع الدينية. رافقنا فى هذه الزيارة آغازاده ونائبه محمد سعيدى وعدد كبير من المهندسين والفنيين الإيرانيين. وتوقفنا فى البداية أمام مبنى بلا معالم واضحة لونه لون الرمال ويشبه المستودع، وعندما دخلناه وجدنا قاعة كبيرة مقسمة إلى ستة أجزاء، وقد ذكر أغازادة أن تلك القاعة هى منشأة تجريبية لتخصيب اليورانيوم. وقد تم تجميع عشرين جهاز طرد بالفعل، لكن كل جزء من الأجزاء الستة فيها يمكن أن يسع 164 جهازا، أى بعدد إجمالى يقرب من الألف، ثم توجهنا بعد ذلك إلى طابق تحت الأرض فى البناء نفسه، حيث وجدنا قاعة مدهشة، كانت فارغة تماما، لكنها يمكن أن تسع أكثر من خمسين ألف جهاز طرد. ولم يتردد آغازاده أو معاونوه فى تقديم الإجابات عن الأسئلة الفنية التى طرحناها عليهم فى هذا الصدد.
أوضحت لنا هذه الزيارة أمرين رئيسيين، الأول يتعلق بمدى الطموح النووى لإيران وهو ما يتطلب إعادة تقييم كاملة لطريقة التعامل معها من قِبل الوكالة، لأن ما رأيناه فى «ناتانز» يتجاوز بكثير المفاعل النووى الذى قدمته روسيا لإيران فى بوشهر، الذى تعاقدت فيه على توريد الوقود النووى. لكن منشأة «ناتانز»، عندما يتم تشغيلها بصورة كاملة ستكون قادرة على تزويد مفاعلَيْن أو ثلاثة مفاعلات قدرة 1000 ميجاوات بالوقود. فما المنشآت الأخرى التى تخطط لها المنظمة الإيرانية أو تقوم ببنائها؟ أما الأمر الثانى فيتعلق بطبيعة المعلومات التى قدمها آغازاده حول المنشأة التى زرناها فى إيران والتى أصر على أن طهران قد قامت ببنائها وتجهيزها معتمدة كلية على القدرات الإيرانية دون اللجوء إلى أى جهات خارجية، وأنها لم تبدأ بعد فى استخدام أى مواد نووية فى الاختبارات التى جرت فى هذه المنشأة، وهو الأمر الذى لم يكن خبراؤنا على يقين كامل من صدقه.
وقد تعززت هذه الشكوك خلال اللقاء الذى جمعنى مع الرئيس سيد محمد خاتمى، الرئيس الإيرانى الودود الذى يجيد الحديث بلغات أجنبية عديدة، وكان رئيسا للمكتبة الوطنية، والذى وصل إلى الحكم فى عام 1997 على أساس برنامج للإصلاحات الاجتماعية، وبقى متمتعا بشعبية كبيرة رغم عدم تمكنه من الوفاء بكامل وعوده فى إطلاق حرية التعبير وتقوية أسس المجتمع المدنى. كما كان معروفا دوليّا بدعوته إلى حوار الحضارات. وقد شارك فى لقائنا مع الرئيس الإيرانى، سفير إيران فى فيينا على أكبر صالحى الذى خلف آغازاده فى ما بعد فى ترأس المنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران. وقد تولى صالحى عملية الترجمة.
وفى البداية رحّب بى خاتمى ترحيبًا حارّا، ثم تحدث باللغة العربية لدقائق قليلة وهى اللغة التى يجيدها بوصفه دارسًا للقرآن ثم انتقل إلى الفارسية، وقام صالحى بترجمة كلماته التى أكد فيها أنه ليس فى المنشأة الكائنة فى «ناتانز» ما يدعو لقلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأنها استخدمت فقط الغاز الخامل فى تشغيل أجهزة الطرد المتتابعة. لكن خاتمى تحدث بتفاصيل فنية متخصصة حول تبريد أجهزة الطرد بدون استخدام مواد نووية، وجدتها غير متطابقة مع خبراته وطبيعة دراسته واهتماماته. ورغم أننى كنت أتفهم رغبة خاتمى فى التأكيد على أن إيران لم تخرق تعهداتها القانونية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن ذلك لم يُجِب عن التساؤلات التى دارت فى ذهنى حول طبيعة حديثه الفنى، لكن الأشهر التالية قدمت بعض الإيضاحات.
كانت المعلومات الاستخباراتية قد أفادت بوجود مصنع لإنتاج أجهزة كهربائية فى منطقة قريبة من طهران اختبر فيها الإيرانيون عددا من أجهزة الطرد مماثلة لتلك الموجودة فى «ناتانز». ولم يكن المصنع منشأة نووية، وأكد لنا الإيرانيون أنه لم يتم فيه سوى «دراسات محاكاة». فإذا صح ذلك فإنهم يكونون فى حدود حقهم فى عدم إبلاغ الوكالة به. لكن كيف لنا أن نتأكد من ذلك إذا لم يُسمح لنا بالتحقق مما يقولون. وقعنا إذن فى المأزق التقليدى. فعدم الإخطار بأن هذا المصنع يقع ضمن المنشآت النووية يحول دون حق الوكالة من الناحية القانونية فى تفتيش هذا المبنى بناء على مجرد الاشتباه، لأن إيران لم تكن موقِّعة على البروتوكول الإضافى لمعاهدة منع الانتشار النووى الذى يسمح لمفتشى الوكالة بتفتيش أماكن لم تعلن عنها الدولة. وفى ضوء ما كانت تعلنه إيران دائما من أنها تتبع سياسة تقوم على الشفافية الكاملة فى تعاملها مع الوكالة فقد طلبنا من السلطات الإيرانية أن تسمح لنا بزيارة المصنع محل التساؤل وبأخذ عينات للمسح البيئى. كانت تلك هى الوسيلة الوحيدة للتحقق مما تقوم به إيران فى هذا المصنع.
وبعد فترة قبلت إيران على مضض بقيام مفتشى الوكالة بزيارة المصنع، لكنها لم تسمح لهم بأخذ العينات المطلوبة للمسح البيئى، ولكن بعد عدة أشهر وافقت إيران على السماح للمفتشين بأخذ عينات بيئية (باستخدام قطع من القماش تمسح بها أسطح محددة)، وهو ما قاموا به بالفعل، لكنهم لاحظوا وجود تعديلات واضحة فى المصنع خلال هذه الزيارة بالمقارنة لما كان عليه فى زيارتهم الأولى، وقد أدى ذلك إلى قلقهم من أن يؤثر ذلك على دقة تحليلاتهم. ومع هذا، فإن تحليل العينات أكد أن هناك ما يدل على استخدام مواد نووية فى اختبارات أجهزة الطرد. وفى ضوء هذا فإن إيران قد ضُبطت متلبسة بمخالفتها لالتزاماتها القانونية طبقا لاتفاق الضمانات مع الوكالة.
ومع الوقت بدأ مزيد من التفاصيل فى الظهور على السطح، ومن ذلك التماثل الكبير بين الأجهزة الموجودة فى منشأة «ناتانز» مع مثيلات لها فى دول أوربية على الرغم مما قاله الإيرانيون من أن هذه المنشأة تم بناؤها وإعدادها اعتمادا على القدرات الإيرانية الوطنية وبدون اللجوء إلى أى مساعدة من أى جهة خارجية. غير أنه بمواجهة المسؤولين الإيرانيين عن نتائج التحليل قرروا أن بعض مكونات الأجهزة المستخدمة فى منشأة «ناتانز» وفى المصنع تم استيرادها، وأن النتائج الإيجابية للتحليل ربما ترتبط باستخدامات سابقة لهذه الأجهزة فى بلد المنشأ. وفى الواقع أننا وجدنا في ما بعد أن تكنولوجيا أجهزة الطرد الموجودة فى إيران جاءت بالكامل من دول أخرى.
ولم تكن مسألة استيراد إيران أجهزة الطرد لمنشأة «ناتانز» من عدمها مسألة ثانوية، لأنه كان من شأن الإجابة عن هذا السؤال أيا كانت الإجابة أن تتحصل الوكالة على معلومات تحتاج إليها بشدة، فإذا كانت إيران اعتمدت حصريّا على قدراتها فإن ذلك يعنى أن برنامج البحث والتطوير النووى أوسع بكثير من ذلك الذى أقرت به إيران، وأن عملية البحث والتطوير ربما تكون قد شملت بعض النشاطات النووية غير المعلن عنها من قِبل طهران. أما فى الحالة الثانية فإن ذلك يعنى أن بلدا أو بلدانا أخرى هى التى زودت إيران بهذه التكنولوجيا.
بموازاة ذلك تم الكشف عن كميات من اليورانيوم غير المخصب التى استوردتها إيران من الصين فى معمل جابر بن حيان بمركز طهران للبحوث النووية. ولم يكن قد سبق لإيران أن أخبرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن هذا المعمل أو عن هذه الكمية من اليورانيوم غير المخصب. وعلى الرغم من وجود بعض المؤشرات على أن عملية التحويل التى خضع لها هذا اليورانيوم توحى بأنه يُستخدم بالأساس لأغراض سلمية إلا أن المفتشين وجدوا فى المخازن ثلاث أسطوانات من غاز اليورانيوم «UF4» وهو مادة التلقيم اللازمة للتخصيب وكانت كمية الغاز فى إحداها ناقصة. وبسؤال الإيرانيين عن ذلك قالوا إن الغاز لا بد أنه تسرب. ولقد أدركت مبكرًا أننا بصدد التعامل مع فريق يبدو مستعدّا للمراوغة لتحقيق أهدافه، وعلى هذا فإن علينا أن لا نقبل بأى تأكيدات يقدمها الإيرانيون بدون الحصول على الأدلة المادية على هذه التأكيدات. صحيح أن التحقق أمر يدخل فى صميم عمل الوكالة فى كل الأحوال، إلا أنه بدا أكثر ضرورة فى هذه الحالة، ولا سيما وأن هذا النهج من المراوغة والخداع حظى بتأييد ومساندة أعلى المستويات فى الحكومة الإيرانية.
ففى مايو 2003، قام آغازاده بإلقاء كلمة أمام مجلس السفراء المعتمدين فى فيينا، حيث أكد أن بلاده لم تستخدم أى مواد نووية فى تجربة أجهزة الطرد لديها.
لقد التقيت بالعديد من المسؤولين الإيرانيين بجانب الرئيس خاتمى وآغازاده، ومهدى كروبى رئيس البرلمان الإيرانى وعلى أكبر رافسنجانى، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، والرئيس الإيرانى السابق. ولقد كانوا جميعا شخصيات لها هيبة وقدرة على الحديث الرصين، وبدوا لى جميعا أن لديهم معلومات دقيقة حول تفاصيل برنامج التخصيب، وقد أكدوا جميعا فى حديثهم معى أن البرنامج النووى الإيرانى مقصور على الأغراض السلمية فقط.
وربما كان رافسنجانى أكثر هؤلاء فى الحنكة السياسية، ولقد أخبرنى فى لقاء له فى القصر الذى يقيم به أنه رجل اختبر الحروب ورأى ويلاتها ورأى ضحايا الأسلحة الكيميائية من أبناء بلده خلال الحرب العراقية الإيرانية، وهو لا يمكن له أن يكون داعية لحوار الحضارات، وأن يدعو فى الوقت نفسه لتطوير سلاح نووى.
وفى الثالث عشر من إبريل أدان مجلس الأمن كوريا الشمالية جراء هذه العملية، وهى الإدانة التى ردت عليها كوريا الشمالية بغضب متوقع، حيث أعلنت اعتزامها مقاطعة المحادثات السداسية بصورة نهائية. ومرة ثانية كان على مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية مغادرة كوريا الشمالية.
وتزامنت تلك التطورات مع تعرض كوريا الشمالية لأزمة متفاقمة تتعلق بوصول الفقر إلى مستويات غير مسبوقة، وهو ما أدى إلى تقليل الكميات الضئيلة من الأرز التى كانت الحكومة توفرها للمواطن الكورى، والتى لم تكن تتناسب مع الحد الأدنى للتغذية السليمة. فى الوقت نفسه كانت صحة الزعيم الكورى تتداعى، وكانت خلافاته مع القيادات الكورية العسكرية حول خلافة ابنه له فى الحكم تتصاعد مع رغبة كبار العسكريين فى اغتنام الفرصة للوصول إلى الحكم. وكان ذلك يعنى أن حدوث أية مواجهة خارجية كان يمكن أن يوفر ذريعة لقيام المتشددين فى كوريا الشمالية بعمل درامى.
وبحلول 25 مايو 2009 كانت كوريا الشمالية قد أجرت ثانى تفجير نووى لها بنجاح، ورغم أن التفجير كان صغيرًا حسب معايير الأسلحة النووية فإنه فى كل الأحوال كان أكبر كثيرًا من التفجير الأول. وتمت إدانة التفجير من قِبل مجلس الأمن ومن قِبل الأعضاء الخمسة الآخرين فى المحادثات السداسية التى كانت متوقفة بصورة كاملة عند وقوع هذه الأحداث.
ظهرت على السطح مرة أخرى قصة برنامج تخصيب اليورانيوم المزعوم، وهذه المرة فى صورة منشأة متكاملة للتخصيب، كشفت عنها كوريا الشمالية بكل فخر فى نوفمبر من عام 2010 لأحد أهم الخبراء الأمريكيين، «سيجفريد هكر»، وهو أستاذ فى جامعة ستانفورد وكان يرأس معمل لوس الأموس الوطنى. أطلع الكوريون «هكر» وزملاءه على غرفة متطورة للغاية وقاعة تخصيب مزودة بما قال المسؤولون الكوريون إنه 2000 جهاز طرد ينتج بالفعل اليورانيوم منخفض التخصيب. وكانت المنشأة تقع فى مركز سابق لتصنيع الوقود، مما أوضح أن منشأة التخصيب هذه بُنيت بعد إبريل 2009، وهى آخر مرة وجد فيها المفتشون الدوليون فى كوريا الشمالية. ودعت سرعة البناء على هذا النحو الكثيرين إلى أن يستنتجوا أن لدى كوريا الشمالية مواقع أخرى بالتأكيد تُجرى بها عمليات تخصيب اليورانيوم. وكان هذا الكشف دليلا مذهلا آخر على عبث محاولات احتواء انتشار الأسلحة والطموحات النووية من خلال المواجهة، والعقوبات، والعزلة.
■ ■ ■
وبالنسبة لى، كان الاختبار النووى الثانى لكوريا الشمالية أكثر إحباطا من الأول. فلقد قطعنا شوطا فى ملف كوريا الشمالية خلال العامين الماضيين. وبالنظر إلى سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن التفجير جاء فى وقت كان يحدونا فيه، أكثر من أى وقت فى الماضى القريب، أمل أكبر تجاه نزع السلاح النووى فى العالم.
لكن أكبر مصدر للإحباط والغضب كان متابعة هذه السلسلة من المد والجَزْر فى علاقة كوريا الشمالية بالغرب. كانت تصرفات وردود أفعال كوريا الشمالية متوقَّعة إلى حد كبير. وعندما كانت بيونج يانج طرفا فى حوار هادف كان الموقف أفضل بكثير. لكن عندما توقف الحوار، وحدثت الإهانات، وأعيد تقديم سياسة العزلة، تدهور الوضع كثيرًا. إن الموضوع بسيط بطريقة أكثر مما هو متصور. فإدانة مجلس الأمن لإطلاق كوريا الشمالية لتلك الصواريخ جعلت الوضع أسوأ مما كان. وربما كانت كوريا الشمالية قد تعمدت أن تستفز الإدارة الأمريكية الجديدة فى محاولة لجذب الانتباه والحصول على معاملة أفضل من تلك التى كانت تلقاها من إدارة «بوش». وكان من المؤكد أن كوريا الشمالية ستبالغ فى رد فعلها، كما فعلت فى كل المواقف السابقة. وقد سألت نفسى: هل أصبح الدبلوماسيون والسياسيون يركزون فقط على قضية اليوم وحدها وينسون الغاية الكبرى من كل ذلك، ألا وهى نزع السلاح النووى؟ وفى كل الأحوال فسواء كان مجلس الأمن يتعامل مع كوريا الشمالية أم أى قضية أخرى لمنع انتشار السلاح النووى، فإن المجلس كان يبدو دائمًا إما منقسما على نفسه، وإما محدودا جدّا فى خياراته، فلا يقدم سوى البيانات الواهية أو الأفعال التى تؤتى بنتائج غير مقصودة. وفى أزمة تلو الأخرى نجد أن المواقف التى يتخذها مجلس الأمن ردّا على تهديد انتشار السلاح النووى كانت جوفاء وغير ذات أثر. وبالطبع فحتى يصبح للمجلس تأثير قوى، فإنه يجب القيام ببعض المواءمات الضرورية، مثل: التركيز على الأسباب الجوهرية لمشكلة انعدام الأمن وليس فقط على أعراضها، والسير بسرعة وواقعية أكبر فى التعامل مع عدم امتثال الدول لاتفاقياتها، والتدخل المبكر وليس بعد وقوع الكارثة، واتخاذ إجراءات فعالة تستهدف الأنظمة الحاكمة المعنية، وليس المدنيين الأبرياء، وأخيرا، الثبات على المبدأ وعدم الكيل بمكيالَيْن فى المواقف المتشابهة. وهذه التعديلات الضرورية تبدو أكثر حتمية عند التعامل مع برنامج نووى مثل برنامج الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الفصل الخامس: إيران: 2003 – 2005
لغز «التقية»
يبدو أن دراما التحقق من القدرات النووية الجارية فى بلدين فى نفس الوقت لم تكن كافية، ففى منتصف عام 2002، بدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى تلقى معلومات عن أزمة جديدة. فقد جاءت صور الأقمار الاصطناعية التى تم التقاطها لمبنى صناعى ضخم غير واضح المعالم فى مدينة «ناتانز» الواقعة بإقليم أصفهان بإيران والتى توحى بأن هذا المبنى ربما يكون مستخدمًا لأغراض تخصيب اليورانيوم.
وفى منتصف أغسطس عقد ممثلون عن المجلس الوطنى للمقاومة فى إيران، وهو كيان إيرانى سياسى معارض، مؤتمرًا صحفيًّا فى واشنطن ليعلنوا عن قيام طهران ببناء منشأة نووية سرّا فى «ناتانز».
وبدأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التحقيق فى الأمر، وفى شهر سبتمبر، وخلال المؤتمر العام للوكالة بحثت عن غلام رضا آغازاده للتحدث معه. وآغازاده رجل ضئيل البنية شديد الجدية، يشغل منصبين: فهو نائب لرئيس الجمهورية الإيرانية، كما أنه فى الوقت نفسه مدير للمنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران.
وعلى هامش الاجتماع انفردت بآغازاده وسألته عن حقيقة المنشأة التى تم تصويرها فى «ناتانز»، وما إذا كانت فعلا تُستخدم لأغراض التخصيب؟ مقترحًا أنه ربما يجب أن نقوم بزيارة لهذا الموقع للتحقق من حقيقة ما يدور فيه.
وقد رد آغازاده بابتسامة! قائلا: «بالطبع سنوجه لكم الدعوة قريبا، وعندئذ سيتم إيضاح كل شىء». ولم أجد فى ما قاله آغازاده شيئا يطمئننى.
ومما زاد الشكوك هو تأخر تلك الدعوة لزيارة «ناتانز»، والتى توالت الحجج لتبرير هذا التأخير بدءا من غياب الرئيس الإيرانى خامنئى عن البلاد فى مهمة عمل بالخارج، أو إصابته بوعكة صحية، أو أن المواعيد المقترحة لا تتناسب وجدول مواعيد كبار المسؤولين فى إيران. واستمرت هذه المماطلة لشهور متتالية.
وفى خلال هذه الشهور كنت قد التقيت وزير الخارجية الأمريكى «كولين باول» و«ريتشارد آرميتاج» مساعد وزير الخارجية. وخلال هذا اللقاء أخبرتهما بأن السياسة الأمريكية إزاء إيران، والتى تقوم بالأساس على استخدام المقاطعة والعقوبات على طهران لمنعها من تطوير أسلحة نووية، ليست فى رأيى بالسياسة المُجدية.
فقد كان اعتقادى أنه لا فائدة ترجى من مجرد توقيع عقوبات على بلدٍ ما لسعى هذا البلد لامتلاك سلاح نووى فى غياب التعامل مع الأسباب الحقيقية التى أدت إلى السعى لذلك. كما أشرت إلى أن هذا النهج لا يمثل سياسة حقيقية ولا حتى يمثل استراتيجية بالمعنى البراجماتى للكلمة.
وقلت لـ«باول» و«آرميتاج» إن كل ما يمكن توقعه من هذا النهج هو تأخير قيام الدولة المعنية، فى هذه الحالة إيران، بتطوير السلاح النووى الذى تسعى له. ولم يعلق «باول» على ما قلت، لكن «آرميتاج» أبدى موافقته. واعتقدت عندئذ أن هذا دليل على أنهما ربما يتدبران فى ما قلت وهو ما قد يدعو للتفاؤل.
وفى الوقت ذاته كنت أدرس ملفات تعامل الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع بلاد مثل الأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا. لقد تمكنت الأرجنتين والبرازيل من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لتطوير دورة الوقود النووى، وذلك على الرغم مما تعرضتا له من تضييق على وارداتهما عبر سنوات طويلة. أما جنوب إفريقيا، والتى تعرضت لنفس القدر من التضييق فقد تمكنت من أن تطور دورة الوقود النووى بما يكفى لأن تُصنّع سلاحا نوويّا، وإن كانت قد اختارت بعد ذلك أن تتخلى طواعية عن هذا السلاح.
ووجدت أن أهم درس يجب تعلمه من خبرات التعامل مع هذه التجارب أن محاولة منع دولة ما من الحصول على التكنولوجيا النووية ذات الطبيعة الحساسة إنما يستفز الحماسة الوطنية لدى هذه الدولة، ويجعل هدف الوصول إلى تلك التكنولوجيا أولوية قومية تسعى لها هذه الدولة بكل طاقتها.
وفى النهاية، قررت طهران دعوتنا لزيارة إيران فى الأسبوع الثالث من فبراير من عام 2003 ولم يكن ذلك بالموعد المناسب على الإطلاق. ففى الوقت ذاته كانت كوريا الشمالية قد انسحبت لتوها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكان مجلس الأمن يشهد انقسامًا كبيرًا حول استخدام القوة فى العراق، وبدا أن وقوع هجمة عسكرية على العراق أصبح وشيكا. من ناحية أخرى فإن فِرق التفتيش التابعة للوكالة كان لديها أعباء تفوق طاقتها. ولكن الوقت كان قد حان للحصول على أجوبة للأسئلة التى طُرحت حول ما يجرى فى «ناتانز»، فقررت الذهاب برفقة «بيير جولدشميدت»، وهو عالم نووى بلجيكى كان نائبا للمدير العام للوكالة لشؤون الضمانات، و«أوللى هاينونين».
وفى أول مقابلة أجريناها فى طهران أقر آغازاده والفريق المعاون له بأن المبنى قيد التساؤل فى «ناتانز» هو بالفعل منشأة كبيرة لتخصيب اليورانيوم، لكنهم أصروا على أنه لم يتم بناؤه بغرض إخفائه عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأضاف أنه بناء على اتفاق الضمانات المبرم مع الوكالة فإنهم ليسوا ملتزمين بإبلاغها إلا قبل إدخال المواد النووية بـ180 يومًا إلى المنشأة، ومن ثَمَّ فإن موقفهم سليم، حيث لم يتم إدخال أى مواد نووية إلى المنشأة، ولم يتم فيها أى عمليات تخصيب.
وفى اليوم التالى توجهنا إلى «ناتانز»؛ وهى بلدة جبلية صغيرة معروفة ببساتينها ويحيط بها عدد من المواقع الدينية. رافقنا فى هذه الزيارة آغازاده ونائبه محمد سعيدى وعدد كبير من المهندسين والفنيين الإيرانيين. وتوقفنا فى البداية أمام مبنى بلا معالم واضحة لونه لون الرمال ويشبه المستودع، وعندما دخلناه وجدنا قاعة كبيرة مقسمة إلى ستة أجزاء، وقد ذكر أغازادة أن تلك القاعة هى منشأة تجريبية لتخصيب اليورانيوم. وقد تم تجميع عشرين جهاز طرد بالفعل، لكن كل جزء من الأجزاء الستة فيها يمكن أن يسع 164 جهازا، أى بعدد إجمالى يقرب من الألف، ثم توجهنا بعد ذلك إلى طابق تحت الأرض فى البناء نفسه، حيث وجدنا قاعة مدهشة، كانت فارغة تماما، لكنها يمكن أن تسع أكثر من خمسين ألف جهاز طرد. ولم يتردد آغازاده أو معاونوه فى تقديم الإجابات عن الأسئلة الفنية التى طرحناها عليهم فى هذا الصدد.
أوضحت لنا هذه الزيارة أمرين رئيسيين، الأول يتعلق بمدى الطموح النووى لإيران وهو ما يتطلب إعادة تقييم كاملة لطريقة التعامل معها من قِبل الوكالة، لأن ما رأيناه فى «ناتانز» يتجاوز بكثير المفاعل النووى الذى قدمته روسيا لإيران فى بوشهر، الذى تعاقدت فيه على توريد الوقود النووى. لكن منشأة «ناتانز»، عندما يتم تشغيلها بصورة كاملة ستكون قادرة على تزويد مفاعلَيْن أو ثلاثة مفاعلات قدرة 1000 ميجاوات بالوقود. فما المنشآت الأخرى التى تخطط لها المنظمة الإيرانية أو تقوم ببنائها؟ أما الأمر الثانى فيتعلق بطبيعة المعلومات التى قدمها آغازاده حول المنشأة التى زرناها فى إيران والتى أصر على أن طهران قد قامت ببنائها وتجهيزها معتمدة كلية على القدرات الإيرانية دون اللجوء إلى أى جهات خارجية، وأنها لم تبدأ بعد فى استخدام أى مواد نووية فى الاختبارات التى جرت فى هذه المنشأة، وهو الأمر الذى لم يكن خبراؤنا على يقين كامل من صدقه.
وقد تعززت هذه الشكوك خلال اللقاء الذى جمعنى مع الرئيس سيد محمد خاتمى، الرئيس الإيرانى الودود الذى يجيد الحديث بلغات أجنبية عديدة، وكان رئيسا للمكتبة الوطنية، والذى وصل إلى الحكم فى عام 1997 على أساس برنامج للإصلاحات الاجتماعية، وبقى متمتعا بشعبية كبيرة رغم عدم تمكنه من الوفاء بكامل وعوده فى إطلاق حرية التعبير وتقوية أسس المجتمع المدنى. كما كان معروفا دوليّا بدعوته إلى حوار الحضارات. وقد شارك فى لقائنا مع الرئيس الإيرانى، سفير إيران فى فيينا على أكبر صالحى الذى خلف آغازاده فى ما بعد فى ترأس المنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران. وقد تولى صالحى عملية الترجمة.
وفى البداية رحّب بى خاتمى ترحيبًا حارّا، ثم تحدث باللغة العربية لدقائق قليلة وهى اللغة التى يجيدها بوصفه دارسًا للقرآن ثم انتقل إلى الفارسية، وقام صالحى بترجمة كلماته التى أكد فيها أنه ليس فى المنشأة الكائنة فى «ناتانز» ما يدعو لقلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأنها استخدمت فقط الغاز الخامل فى تشغيل أجهزة الطرد المتتابعة. لكن خاتمى تحدث بتفاصيل فنية متخصصة حول تبريد أجهزة الطرد بدون استخدام مواد نووية، وجدتها غير متطابقة مع خبراته وطبيعة دراسته واهتماماته. ورغم أننى كنت أتفهم رغبة خاتمى فى التأكيد على أن إيران لم تخرق تعهداتها القانونية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن ذلك لم يُجِب عن التساؤلات التى دارت فى ذهنى حول طبيعة حديثه الفنى، لكن الأشهر التالية قدمت بعض الإيضاحات.
كانت المعلومات الاستخباراتية قد أفادت بوجود مصنع لإنتاج أجهزة كهربائية فى منطقة قريبة من طهران اختبر فيها الإيرانيون عددا من أجهزة الطرد مماثلة لتلك الموجودة فى «ناتانز». ولم يكن المصنع منشأة نووية، وأكد لنا الإيرانيون أنه لم يتم فيه سوى «دراسات محاكاة». فإذا صح ذلك فإنهم يكونون فى حدود حقهم فى عدم إبلاغ الوكالة به. لكن كيف لنا أن نتأكد من ذلك إذا لم يُسمح لنا بالتحقق مما يقولون. وقعنا إذن فى المأزق التقليدى. فعدم الإخطار بأن هذا المصنع يقع ضمن المنشآت النووية يحول دون حق الوكالة من الناحية القانونية فى تفتيش هذا المبنى بناء على مجرد الاشتباه، لأن إيران لم تكن موقِّعة على البروتوكول الإضافى لمعاهدة منع الانتشار النووى الذى يسمح لمفتشى الوكالة بتفتيش أماكن لم تعلن عنها الدولة. وفى ضوء ما كانت تعلنه إيران دائما من أنها تتبع سياسة تقوم على الشفافية الكاملة فى تعاملها مع الوكالة فقد طلبنا من السلطات الإيرانية أن تسمح لنا بزيارة المصنع محل التساؤل وبأخذ عينات للمسح البيئى. كانت تلك هى الوسيلة الوحيدة للتحقق مما تقوم به إيران فى هذا المصنع.
وبعد فترة قبلت إيران على مضض بقيام مفتشى الوكالة بزيارة المصنع، لكنها لم تسمح لهم بأخذ العينات المطلوبة للمسح البيئى، ولكن بعد عدة أشهر وافقت إيران على السماح للمفتشين بأخذ عينات بيئية (باستخدام قطع من القماش تمسح بها أسطح محددة)، وهو ما قاموا به بالفعل، لكنهم لاحظوا وجود تعديلات واضحة فى المصنع خلال هذه الزيارة بالمقارنة لما كان عليه فى زيارتهم الأولى، وقد أدى ذلك إلى قلقهم من أن يؤثر ذلك على دقة تحليلاتهم. ومع هذا، فإن تحليل العينات أكد أن هناك ما يدل على استخدام مواد نووية فى اختبارات أجهزة الطرد. وفى ضوء هذا فإن إيران قد ضُبطت متلبسة بمخالفتها لالتزاماتها القانونية طبقا لاتفاق الضمانات مع الوكالة.
ومع الوقت بدأ مزيد من التفاصيل فى الظهور على السطح، ومن ذلك التماثل الكبير بين الأجهزة الموجودة فى منشأة «ناتانز» مع مثيلات لها فى دول أوربية على الرغم مما قاله الإيرانيون من أن هذه المنشأة تم بناؤها وإعدادها اعتمادا على القدرات الإيرانية الوطنية وبدون اللجوء إلى أى مساعدة من أى جهة خارجية. غير أنه بمواجهة المسؤولين الإيرانيين عن نتائج التحليل قرروا أن بعض مكونات الأجهزة المستخدمة فى منشأة «ناتانز» وفى المصنع تم استيرادها، وأن النتائج الإيجابية للتحليل ربما ترتبط باستخدامات سابقة لهذه الأجهزة فى بلد المنشأ. وفى الواقع أننا وجدنا في ما بعد أن تكنولوجيا أجهزة الطرد الموجودة فى إيران جاءت بالكامل من دول أخرى.
ولم تكن مسألة استيراد إيران أجهزة الطرد لمنشأة «ناتانز» من عدمها مسألة ثانوية، لأنه كان من شأن الإجابة عن هذا السؤال أيا كانت الإجابة أن تتحصل الوكالة على معلومات تحتاج إليها بشدة، فإذا كانت إيران اعتمدت حصريّا على قدراتها فإن ذلك يعنى أن برنامج البحث والتطوير النووى أوسع بكثير من ذلك الذى أقرت به إيران، وأن عملية البحث والتطوير ربما تكون قد شملت بعض النشاطات النووية غير المعلن عنها من قِبل طهران. أما فى الحالة الثانية فإن ذلك يعنى أن بلدا أو بلدانا أخرى هى التى زودت إيران بهذه التكنولوجيا.
بموازاة ذلك تم الكشف عن كميات من اليورانيوم غير المخصب التى استوردتها إيران من الصين فى معمل جابر بن حيان بمركز طهران للبحوث النووية. ولم يكن قد سبق لإيران أن أخبرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن هذا المعمل أو عن هذه الكمية من اليورانيوم غير المخصب. وعلى الرغم من وجود بعض المؤشرات على أن عملية التحويل التى خضع لها هذا اليورانيوم توحى بأنه يُستخدم بالأساس لأغراض سلمية إلا أن المفتشين وجدوا فى المخازن ثلاث أسطوانات من غاز اليورانيوم «UF4» وهو مادة التلقيم اللازمة للتخصيب وكانت كمية الغاز فى إحداها ناقصة. وبسؤال الإيرانيين عن ذلك قالوا إن الغاز لا بد أنه تسرب. ولقد أدركت مبكرًا أننا بصدد التعامل مع فريق يبدو مستعدّا للمراوغة لتحقيق أهدافه، وعلى هذا فإن علينا أن لا نقبل بأى تأكيدات يقدمها الإيرانيون بدون الحصول على الأدلة المادية على هذه التأكيدات. صحيح أن التحقق أمر يدخل فى صميم عمل الوكالة فى كل الأحوال، إلا أنه بدا أكثر ضرورة فى هذه الحالة، ولا سيما وأن هذا النهج من المراوغة والخداع حظى بتأييد ومساندة أعلى المستويات فى الحكومة الإيرانية.
ففى مايو 2003، قام آغازاده بإلقاء كلمة أمام مجلس السفراء المعتمدين فى فيينا، حيث أكد أن بلاده لم تستخدم أى مواد نووية فى تجربة أجهزة الطرد لديها.
لقد التقيت بالعديد من المسؤولين الإيرانيين بجانب الرئيس خاتمى وآغازاده، ومهدى كروبى رئيس البرلمان الإيرانى وعلى أكبر رافسنجانى، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، والرئيس الإيرانى السابق. ولقد كانوا جميعا شخصيات لها هيبة وقدرة على الحديث الرصين، وبدوا لى جميعا أن لديهم معلومات دقيقة حول تفاصيل برنامج التخصيب، وقد أكدوا جميعا فى حديثهم معى أن البرنامج النووى الإيرانى مقصور على الأغراض السلمية فقط.
وربما كان رافسنجانى أكثر هؤلاء فى الحنكة السياسية، ولقد أخبرنى فى لقاء له فى القصر الذى يقيم به أنه رجل اختبر الحروب ورأى ويلاتها ورأى ضحايا الأسلحة الكيميائية من أبناء بلده خلال الحرب العراقية الإيرانية، وهو لا يمكن له أن يكون داعية لحوار الحضارات، وأن يدعو فى الوقت نفسه لتطوير سلاح نووى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات