تونس (CNN)-- رغم مرور أربعة أشهر على الثورة في تونس، مازال المشهد الإعلامي فيها يبدو ضابيا ويعاني من التخبط وعدم وضوح الرؤيا، بل إن البعض يرى أن الثورة التي أحدثت انقلابا على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي لم تمس الإعلام الذي تغير شكله، لكنه مازال محتفظا بمضمونه رغم تمتعه بالحرية وغياب القيود التي كانت تكبله خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.
وكانت وزارة الداخلية التونسية قد وافقت مؤخرا على منح تراخيص لـ88 مطبوعة (صحيفة ومجلة) في البلاد، فيما أكدت مصادر لموقع CNN بالعربية أن الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال بدأت بدراسة 74 طلبا لإحداث إذاعات في البلاد، الأمر الذي يعتبره البعض بداية عهد جديد للإعلام الحر في تونس.
لكن "مراقبون أعتبروا أن زيادة وسائل الإعلام لن يخدم الخطاب الإعلامي الذي لم يتحرر حتى الآن من عقلية الماضي."
إعلام إشاعات
الإعلامي رضا الكافي، مدير موقع كابيتاليس "kapitalis" الإلكتروني، يرى أن الإعلام التونسي تغير في المحتوى لكن الشكل مازال كما كان خلال حكم بن علي.
ويضيف: "الإعلام التونسي لم يتحرر من موروث الماضي.. فالمؤسسات الإعلامية مازالت على حالها، بنفس الأشخاص ونفس الفاعلين، لكن الذي تغير هو المحتوى، بمعنى أن ولاء الإعلام كان في السابق لبن علي، والآن أصبح للثورة.. لكن الممارسات والأساليب والمغالطات هي نفسها."
وتابع موضحا: "كان الإعلام في الماضي لشتم المعارضين، اليوم هو لشتم عائلة بن علي وأصحابه، لكن العقلية والذهنية والأسلوب نفسه."
ويؤيد الكافي مقوله "إعلام إشاعات" التي يُنعت بها الإعلام التونسي هذه الأيام، مشيرا إلى وجود "مخالفات يومية لقواعد العمل الصحفي في الإعلام المرئي والمسموع والمطبوع على السواء، وخاصة بالنسبة لنشر الأخبار دون التأكد من صحتها."
ويرى أن الإعلام الذي يروج للإشاعات لن يساهم في استقرار الوضع السياسي والأمني في البلاد، "بل أن الإعلام في تونس يساهم يشكل سلبي في عملية التحول (الديمقراطي)، وهذا يطرح الكثير من التساؤلات حول مدى قابلية تغيير المشهد الإعلامي الحالي في البلاد".
ويشدد الكافي على أن "المشهد الإعلامي في تونس مازال ممسوك من طرف الأشخاص والمؤسسات التي اشتغلت لسنوات عديدة مع بن علي، وبالتالي مصالحها مرتبطة إلى حد كبير، ربما ليس فقط بشخص بن علي وأصهاره، وإنما بالمنظومة الإدارية والسياسية التي كانت قائمة في عهده، وبالتالي ليست هناك إرادة فعلية للتغيير."
ثورة في الإعلام
من جانب آخر، ثمة من يرى أن المواطن التونسي غائبا أو مغيبا عن المشهد الإعلامي في بلاده، ويعتقد أن الخطاب الحالي لا يلبي طموحاته في الحرية والديمقراطية التي أقام الثورة لأجلها، مما يجعله يلجأ لوسائل الإعلام العربية والدولية لمتابعة أخبار بلاده.
الإعلامية بسمة بوذكري، الإعلامية في التلفزيون التونسي، تقول: "التونسي مازال يستقي أخباره من القنوات الإخبارية العربية والدولية لأنه حتى الآن مازال يميل إلى تصديق المعلومات التي يستقيها من الخارج، لأن ثقته مهتزة بالإعلام المحلي."
وتدعو بوزكري إلى إحداث ثورة في الإعلام تواكب الثورة السياسية والاجتماعية التي أدت لسقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، مشيرة إلى أن الإعلام الحالي مازال يتخبط بين الوضع السابق والحالي، ولم يحدد أجندته حتى الآن.
وتضيف:"الثورة لم تمس الإعلام، ربما صارت 'رجّة' في أذهان الإعلاميين لكن على مستوى هيكلة الإعلام، كمؤسسات، إدارة، رؤساء تحرير، ومشرفين على القطاع، فلم يحدث أي تغيير."
لكنها ترى أن ثورة الإعلام التونسي مرتبطة باستقرار الوضع العام في البلد، مشيرة إلى أن الإعلام التونسي "مازال يتخبط بين عقلية حكمته لعقدين وطموح لعدد من الإعلاميين الشباب أو بعض الفاعلين في القطاع لخلق إعلام جديد يواكب الواقع الحالي."
وتستدرك قائلة: "المسألة تحتاج لوقت، لأنه من غير المعقول أن نطالب بإحداث ثورة في قطاع كامل بين ليلة وضحاها."
وتؤكد أن قطاع الإعلام متشعب جدا ومرتبط أيضا بالنظام السياسي، و"إذا كان البلد مازال في مرحلة انتقالية على الصعيد السياسي فطبيعي جدا أن يمر (الإعلام) بهذه المرحلة.. ولكن الخطير هو عدم وجود مؤشرات تدل على الطريق الذي سيسلكه الإعلام التونسي مستقبلا."
الحرية لا تعني الفوضى والتشهير
ورغم أن ثورة 14 كانون الثاني/يناير حررت الإعلام التونسي من القيود الكثيرة التي كانت تكبله لربع قرن تقريبا، لكن البعض يعتقد لأن فتح الباب على مصراعيه أمام وسائل الإعلام جعلها تتخبط في مستنقع من الفوضى واللامسؤولية، وتصفية حسابات سياسية أو شخصية مع خصومه في بعض الأحيان.
الإعلامي التونسي المخضرم منصف المؤذن، قال إن الصحفي التونسي يتمتع الآن بحرية كبيرة ويستطيع الحديث في جميع المواضيع بدون قيود، مشيرا إلى أن "التجاوزات الحاصلة في الوقت الحالي ليست من الإعلاميين بل من ضيوف الإعلاميين، فالرأي العام لم يفهم حتى الآن الخطوط الحمراء، ولكن تجد الرجل ( الضيف) يطل على شاشة التلفزيون ويشتم الناس، وهذه ليست حرية إعلام."
ويُقر المؤذن، الذي كان أمينا عاما لجمعية الصحفيين التونسيين لفترة طويلة، ببعض الإيجابيات التي يتمتع بها الإعلام التونسي في الوقت الحالي، ويقول: "هناك تركيز الآن على الأحداث وليس الأشخاص وهذا مهم جدا، كما أنك تستطيع أن تستمع إلى جميع الأطراف، يميني- شيوعي- إسلامي، وهذا أمر إيجابي."
لكن المؤذن، الذي عاصر فترة حكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، يستبعد أن يبقى الوضع الحالي للإعلام على حاله بعد الانتخابات.
ويشير إلى أن السنوات الأولى من حكم الرئيس بن علي تميزت بهامش حرية كبير للإعلام ما لبث أن تبدد لاحقا.
ويضيف: "نستطيع الحديث عن واقع الإعلام التونسي عندما يصبح لدينا حكومة وبرلمان منتخب، وعندها نرى إن كان سيحافظ على شكله الحالي أم لا .. عموما الإرادة السياسية هي الضامن الوحيد لذلك، وإذا بقي الإعلام التونسي على هذا الخط، من حيث الحرية والانفتاح على الآخر، فتونس بخير."
قانون جديد يواكب الثورة
على الجانب الآخر، ثمة جهود حثيثة لإصلاح الإعلام التونسي وجعله مواكبا للمرحلة الجديدة التي أفرزتها الثورة، فضلا عن إصلاح قانون الإعلام الذي يتضمن أحكاما بالسجن يصل مجموعها إلى نصف قرن إزاء مخالفات قد يرتكبها الصحفي خلال أداء عمله.
الإعلامي كمال العبيدي، مدير الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال في تونس، علق على هذا الجانب بالقول: "بدأنا العمل على أساس مهمة واضحة تتمثل بالاستماع إلى الصحفيين لتحديد العقبات التي تحول دون القيام بعملهم بحرية والالتزام بميثاق شرف المهنة الصحفية، ونحاول تقديم مقترحات وتوصيات للسلطة أو النظام الديمقراطي المنتظر لإصلاح الإعلام."
ويشير العبيدي إلى أن الهيئة تحاول الاستفادة من تجارب دول عدة مرت بتجربة مشابهة لتونس، مثل البرتغال وإسبانيا وجنوب إفريقيا وأندونيسيا ودول أوروبا الشرقية "لمعرفة خطوات فك الارتباط بين الإعلام والسلطة، وكيفية تحرير الإعلام الذي كان أداة لخدمة الحزب الحاكم وتضليل الرأي العام."
ويقول العبيدي، إن اللجنة بصدد مناقشة مشروع قانون جديد للإعلام التونسي، أعدته اللجنة الفرعية التابعة للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، بإشراف مجموعة من الخبراء في القانون، مشيرا إلى سحب مشروع القانون الذي أعدته اللجنة في منتصف شهر آذار/مارس الماضي، لأن الهيئة الوطنية للإعلام ونقابة الصحفيين رأت فيه تراجعا كبيرا لحرية الصحافة.
ويضيف: "هذا المشروع الذي تم سحبه من قبل اللجنة الفرعية هو أسوأ من قانون الصحافة المعمول به في تونس منذ سنوات، وأسوأ من بعض قوانين الصحافة في عدد من الدول العربية، ولهذا تم الاتفاق مجددا مع اللجنة الفرعية لصياغة مشروع جديد يتلاءم مع المعايير الدولية لحرية التعبير."
ويتابع العبيدي قائلا: "لحد الآن هناك بعض البنود التي لدينا عليها تحفظ ونأمل أن يتم تعديل هذا المشروع بما يحمي الصحافة والصحفيين من انتهاكات لمعايير دولية، ويجعل الصحفي يقوم بعمله في جو من الطمأنينة ولا يعود لمرحلة الرقابة الذاتية، وهي سلاح خطير لا يخدم الإعلام ولا يخدم حق الرأي العام في إعلام منصف ونزيه يساعد المواطنين على معرفة ما يجري في بلدهم بكافة المجالات."
تفاؤل بمستقبل الإعلام رغم العقبات
وشهدت تونس خروج آخر صحفي من السجن، وهو فاهم بوكدوس، بعد أربعة أيام من سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وهو ما اعتبره البعض بداية جديدة لإعلام أكثر حرية.
لكن اعتداء قوات الامن التونسية بالضرب على 15 صحفيا خلال تغطيتهم لتظاهرات قبل أكثر من شهر أعاد للأذهان الحقبة السابقة من حكم الرئيس المخلوع، التي تميزت بالتضييق الكبير على الإعلام.
ويقول العبيدي: "لأول مرة في تاريخ تونس منذ استقلالها، شاهدنا أعوان أمن يلاحقون صحفيين ويضربونهم بالعصي،" مشيرا إلى أن أعضاء الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام التقوا برئيس الوزراء الباجي قائد السبسي، وأكدوا له أنه "لا يمكن أن يتم إصلاح الإعلام في ظل الاعتداء على الصحفيين وحرية الصحافة ولا بد من التحقيق في قضايا الاعتداء على الصحفيين."
ويضيف قائلا: "حرية الصحافة لن تُهدى على طبق من فضة ، والذي يبعث على الخوف أنه مازالت هناك قوى تريد السيطرة على حرية الصحافة، فالمشرفين على المؤسسات غير مؤمنين بالتغيير، وليس هناك اجتماعات تحرير لتقييم العمل الصحفي، ومازالت العديد من المؤسسات الإعلامية تعامل الصحفي وكأنه موظف عليه تلقي التعليمات."
ويتابع: "لا يمكن أن يتقدم البلد إذا ظل الإعلام مكبلا وظلت الرقابة الذاتية، وظل الخوف يقيد الصحفي ويجعله يعزف عن القيام بعمله بحرية."
ورغم ذلك، بدى العبيدي متفائلا بمستقبل الإعلام التونسي، الذي يرى أنه "سيتحرر من قيود الماضي ويصبح رائدا على المستوى المحلي والدولي."
ويضيف العبيدي قائلا: "مثلما كانت تونس رائدة في مجال طي صفحة الاستبداد، لدينا ثقة بأن الصحفيين التونسيين قادرون على إعادة بناء إعلام جديد في ظل مناخ الحرية، الذي نأمل أن يستمر لنتمكن من إيجاد خطاب إعلامي جديد يواكب الواقع الحالي ويقطع مع الحقبة السابقة."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات