الأقسام الرئيسية

«المصري اليوم» تكشف أزمة مياه الشرب فى أسيوط: ٨٠% من السكان يعتمدون على الآبار والتعقيم فى محطات التنقية معطل

. . ليست هناك تعليقات:
تحقيق مروى ياسين ٣١/ ٥/ ٢٠١١

النيل الذى يشطر مدينتهم إلى نصفين، لم يتذوقوا مياهه يوما، ولم يمثل لهم أكثر من كونه نهرا يغير من طبيعة المكان الجبلية، يشربون مياها ملوثة بالشوائب والحديد والمنجنيز، ولم تتوقف صنابير المياه عن إمدادهم بالبكتيريا يومياً، ومثل قوة الجبال التى تحاصرهم من الجانبين يصمد سكان «أسيوط «أمام تلك المأساة لعشرات السنين دون حل جذرى ينقذهم من زحف أمراض الكلى المختلفة على أبنائهم وذويهم، ينصتون إلى وعود المسؤولين بأمل، ويأس يتسلل إليهم كلما تذكروا وعودا أطلقها المسؤولون السابقون فى شركة مياه الشرب والصرف والصحى بالمحافظة، وقبل أن يتحروا الصدق فى كلامهم يتذكرون العهود التى قطعت دون تحقيق.

مع قدوم الليل يخلد الجميع إلى النوم إلا أم محمد، فلديها مهمة أخرى اعتادتها يوميا منذ سنوات طويلة، تسارع نحو صنابير المياه لتملأ الزجاجات الفارغة، تفتح أم محمد «الحنفية» وتأخذ بعضا من المياه فى كوب زجاجى وتنظر إلى لونه وتشتم رائحته، فإذا ما كانت المياه «مقبولة» نسبيا، سعت لملء الزجاجات، ولكنها تفضل أن تفعل ذلك ليلا حتى يكون هناك متسع من الوقت لترسب العكارات أسفل كل زجاجة، هذه خطوة أولية تنهيها بترشيح المياه بشكل بدائى، فتفرغ المياه النقية فى إناء خاص بمياه الشرب وتبقى الترسبات فى مكانها.

معظم ساعات الليل التى تقضيها أم محمد فى فصل المياه عن الشوائب والعكارات وتستخلص منها مياها تشربها هى وصغارها بدرجة من الاطمئنان. وتنقية المياه وترشيحها بشكل بدائى عادة تتحدث عنها «أم محمد» بلكنة صعيدية بسيطة فتقول: «من يومنا والمية مش كويسة.. بس هنعمل إيه، مافيش قدامنا غيرها.. كل الناس هنا تعبانة بالكلى اللى جاله فشل كلوى واللى خلاص العلاج مابقاش ينفع معاه».

«أم محمد» يداهمها بين الحين والآخر المغص الكلوى، ولا تجد فى ذلك غضاضة فكل من حولها من الصغار والكبار يشكون نفس الألم، لكن الأزمة تأتى مع كبار السن الذين ترسبت فى بطونهم الأملاح الزائدة وكونت حصاوى ومنهم من ساءت حالته وانتهت بإصابته بالفشل الكلوى، ومنهم من يعيش بالمسكنات والأدوية علّه ينتهى من تلك الآلام يوما ما.

«أم محمد» سيدة مسنة، تجاوزت الخمسين بعامين تعيش فى قرية «موشا» التى لا يعرف سكانها سبيلا للمياه النقية، فمياههم تشوبها الأملاح والحديد والمنجنيز ومحطات المعالجة لا تستطيع القيام بتطهيرها ما يسمح للبكتيريا بأن تترسب فى أحشائهم بسهولة.

«موشا» قرية من بين عشرات القرى بمحافظة أسيوط يبلغ عدد سكانها نحو ٣ ملايين مواطن، منهم من لديه قناعة بأن التلوث سببه الرئيسى عدم وجود شبكات صرف صحى، ويسعى أغلبهم لإنشاء ما يسمى «القايسون» وهو عبارة عن مواسير تدفع بمياه الصرف الصحى داخل جوف الأرض لمسافات تبعد عن السطح بما يقرب من ٢٠ متراً تقريبا، والأزمة الكبرى أن مياه الشرب التى تصلهم تأتيهم من آبار ارتوازية، أى أن الحصول على مياه الشرب يأتى من جوف الأرض الذى يضم بداخله مياه الصرف الصحى فتأتى مياه الشرب مختلطة بها.

محطات المياه الارتوازية فى القرى تعانى خللا فى منظومة الكلور التى تم تركيبها مؤخرا ولم يتجاوز عمرها عامين، ويرجع المتخصصون الأسباب التى دفعتهم لتركيبها إلى ثبوت النسب العالية من المنجنيز والحديد، إضافة إلى تلوث المياه بكتيريولوجيا، وبعض المحطات التى تم تركيب المنظومة بها خلل كبير، الأمر الذى أدى إلى اغلاقها وذهبت المياه إلى المواطنين بكل ما فيها من بكتيريا وملوثات.

محطة مياه منشأة همام لا تختلف كثيرا عن باقى محطات القرى المجاورة، فمنظومة الكلور توقفت عن العمل، بعدما فشل المسؤولون فى تشغيلها وضبط كميات الكلور المستخدمة، يقول أحدهم: «المنظومة فيها عيوب فنية خطيرة فنسبة الكلور المسموح بها ١٠٠ فقط نتيجة لعيوب المنظومة، والنسبة قد تصل إلى ٤٠٠ وهو ما قد يتسبب فى تسمم المياه ولذا لا أستطيع إيقاف النسبة إلا من خلال غلق المنظومة كاملة والسماح لتدفق المياه دون تعقيم نظرا لخطورة الموقف».

التصريح الذى قاله فنى التشغيل يكشف مدى خطورة المياه التى يتناولها أهالى القرية فإذا أراد المسؤولون تعقيمها تلوثت بنسب الكلور الزائدة وأن تركوها كما هى ظلت محتفظة بتلوثها البكتيريولوجى والكيميائى.

التلوث الذى شاب المياه فى قرى أسيوط لم تسلم منه المستشفيات الطبية وبات الاطباء يشكون منها ويؤكدون أن نسبة مصابى الفشل الكلوى بأسيوط فى تزايد مستمر.

يقول الدكتور مسعود عبدالكريم، مدير مستشفى البدارى المركزى: «نسبة مصابى الكلى فى تزايد مستمر. والسبب الرئيسى هو تلوث المياه»، ويضيف: «مفيش نقطة مية كويسة. المياه غير مطابقة للمواصفات، ونسبة الإصابات التى تتردد على المستشفى بعد اوقات العمل الرسمية جميعها أمراض متعلقة بالكلى، خاصة المغص الكلوي»، ويشير إلى أن الإصابة بالمغص الكلوى هى بداية الأزمة، فالمئات من المواطنين يصابون بالمغص الكلوى. وهناك من يصاب بحصاوى ويتطلب علاجه شهوراً. ويزداد الأمر سوءا مع تزايد حالات المصابين بالفشل الكلوى».

ويؤكد عبد الكريم أن أعداد المصابين بالفشل الكلوى الذين يترددون على وحدة الكلى الصناعى ٧٠ مريضا ويوجد بقائمة الانتظار ٧، فى حين أن هناك حالات كثيرة من المصابين بالفشل الكلوى بالمحافظة يجرون عمليات غسل الكلى فى مستشفيات الجامعة ومستشفى المبرة الذى يتبع التأمين الصحى ومستشفى أسيوط العام، ويذكر أن أعداد ماكينات الغسيل الكلوى فى مستشفى البدارى ١٣ ماكينة تحتاج فى عمليات الغسل لمياه نقية وهو ما يصعب توفيره إلا من خلال محطة معالجة خاصة بوحدة الغسيل الكلوى التى تتعرض للأعطال بصورة مستمرة، ويضيف: «يتم استهلاك ٨ لترات كلور كل أسبوعين ونصف لتر أكسجين وخل لتنظيف تنكات المياه وتغيير ١٢ فلتراً كل ستة أيام»، ويرجع أسباب تزايد المصابين بالفشل الكلوى إلى الشوائب التى لا تخلو منها مياه الشرب.

وللمياه رائحة وطعم يختلفان عن غيرها من المناطق الأخرى، وهو ما كشفت عنه مقولة يتداولها المواطنون بدرجة من السخرية: «الميه عندنا غيرت طعم الكوكولا»، ولا يجد أحمد سيد ذو الخمسين عاما حلا لأزمة المياه التى تأتيهم فى منطقة نزلة عبدالله، سوى تركيب فلاتر بشقته فى محاولات يائسة لتعقيم المياه، لكن الفلاتر سرعان ما تتعرض للتلف وتحتاج إلى تغيير المرشح والذى سرعان ما يتعرض للتلف نتيجة كثرة الشوائب.

الكثيرون من سكان عزبة عبدالله يؤكدون أن المياه بها نسب كبيرة من الحديد والمنجنيز والأمونيا، وهو ما أكدته نجاح محمد إحدى سكان المنطقة وتعمل إدارية بشركة مياه الشرب والصرف الصحى بأسيوط: «فى منطقة نزلة عبدالله توجد ١١ بئراً ارتوازية غير مطابقة للمواصفات، نظرا لارتفاع نسب المنجنيز والحديد والأمونيا».

ويؤكد بعض المسؤولين بشركة مياه الشرب والصرف الصحى، أن شبكات المياه تزداد سوءا يوما بعد يوم، والمحطات الارتوازية لا تجد تعقيما يكفى للتخلص من البكتيريا، وأن ٨٠% من مياه الشرب بالمحافظة تعتمد على الآبار الارتوازية، و٢٠% يعتمد على المحطات المرشحة الجديدة، والتى تحتوى على عيوب فنية تنذر بتوقفها فى أى لحظة.

يقول أحد المسؤولين بمحطة مياه الشرب فى البدارى: «المحطة تم تسليمها بعيوب فنية كبيرة قد تؤدى إلى إيقافها فى أى لحظة»، ويضيف أحد العاملين بالمحطة أن الغرف الرشاحة بها خلل فى الإنشاء يتسبب فى رشح المياه خارج المبنى، وهو ما قد يمثل عائقا أمام عمل المحطة»، فيما يؤكد أحد الفنيين أن هناك غرفاً داخلية لعملية ضبط التعقيم والترشيح بها مشكلة تتعلق بالتصميم ذاته، ففى صالة الغسيل المسؤولة عن غسل الفلاتر الموجودة بالمرشحات، تمر أسلاك الكهرباء بالمياه الجوفية دون سبب معروف ما يدل على أن هناك خطأ فى التصميم قد يتسبب فى توقف المحطة، وأشار إلى أن المحطة أنشئت لضخ ١٨٠٠ لتر فى الثانية، وهو ما لم يحدث، فعلى حد تعبيره فإن المحطة لا تعمل بكامل طاقتها وتتوقف يوميا عن العمل لأسباب فنية وفى المقابل يتم ضخ المياه داخل الشبكات من المحطات الارتوازية التى تمثل خطورة كبيرة على صحة المواطنين.

ورصدت تقارير قطاع المعامل وضبط الجودة فى بيان تحليلى لعينات مياه الشرب خلال الفترة من يناير إلى نهاية مارس من العام الجارى أن عدد محطات المياه غير المطابقة للمواصفات على مستوى المحافظة يبلغ نحو ٧٤٦ محطة ارتوازية غير مطابقة كيميائيا، أى أن نسبة المعدلات المسمح بها من الحديد والمنجنيز والأمونيا تزيد على الحد المسموح به، وأكدت أن ٢٤ محطة ارتوازية غير مطابقة بكتيريولوجيا، وهذه النتيجة تعنى وجود نسبة كبيرة من البكتيريا، وأن محطات المياه النقالى والسطحى وهى ٨٩ محطة غير مطابقة كيميائيا، وأشارت إلى وجود نحو ٣٩٩ عينة غير مطابقة كيميائيا فى مياه الشبكات، و٩٢ عينة غير مطابقة بكتيريولوجيا.

ويؤكد الدكتور محمد عاطف، كيميائى فى شركة المياه بمعمل أسيوط الجديد، أن نسبة الحديد المسموح بها طبقا للمواصفة القياسية لمياه الشرب لسنة ٢٠٠٧ ينبغى ألا تزيد على ٠.٣%، كما أن المنجنيز يجب ألا تتجاوز نسبته ٠.٤% ويؤكد أن أى زيادة لها فى المياه تتسبب فى زيادة نسبة الأملاح المترسبة فى الكلى ما يؤدى إلى الإصابة بالفشل الكلوى مع كثرة الترسبات يوميا، ويشير إلى أن وجود أمونيا فى التحاليل الكيميائية يعنى تلوث المياه بكتيريا، مؤكدا أن النسبة المسموح بها ٠.٥% وقد تؤدى زيادتها إلى الإصابة بفيروسات عديدة، خاصة أن الأمونيا بها مشتقات عدة مثل النترات والنيتريت وهذه مواد تمثل خطورة كبيرة على صحة المواطنين.

فى المقابل، يؤكد المهندس عادل عاشور، المسؤول بشركة مياه الشرب والصرف الصحى، أنه لا توجد أزمة، فنسبة المياه غير المطابقة للمواصفات بأسيوط تصل إلى ٠.٣% فقط، ويضيف: قمنا بتركيب منظومات للكلور من أجل تعقيم المياه فى جميع شبكات المحافظة ومشكلة تغير طعم المياه تعود إلى أن غالبية مياه الشرب جوفية فى الأساس». ويؤكد دياب أحمد، الذى لم يتجاوز الأربعين، وداهمته أمراض الكلى منذ سنوات، واظب خلالها على تناول الأدوية والمسكنات للالم، أن حالته الصحية تدهورت بسبب تلوث المياه، وبلغت ذروتها حينما عجزت كليتاه عن أداء وظائفهما، لتكشف له التحاليل الطبية عن إصابته بالفشل الكلوى، ليتحول مسار علاجه من مهدئات ومسكنات للألم إلى الذهاب الدورى لوحدة الغسيل الكلوى بالمستشفى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer