من بين مئات الآباء الذين اختفى أبناؤهم فى مراحل مختلفة من الثورة، يحمل والدان اثنان على الأقل فى قلبيهما قصتين دراميتين. أحدهما معلوم والآخر مجهول. أحدهما يعلم والآخر لا يعلم. أحدهما يسأل والآخر يتساءل. فأما الأول فقد حفيت قدماه بحثاً عن ابنه حتى وجد نفسه فى مشرحة يتنقل بين الجثث. لكن هذه كانت قد تحللت وتشوهت إلى الحد الذى لا يصلح معه حتى قلب الأب وحنين الدم فى التعرف على الشخصية.
يساعدنا العلم إذن فيقوم الخبراء بإجراء اختبار الجينات الوراثية «DNA»، الذى يقودهم إلى تعيين جثة بعينها. يحملها الأب باكياً مفطوراً ويدفنها فى مقابر العائلة. استراح قلبه على الأقل لأنه لمَّ عظام ابنه وصلى عليها وسأل الله أن يرحم روحه وتقبَّل العزاء من الأهل والأصدقاء. لكن عليه الآن أن يعيش مع حقيقة أنه فقد ابنه شهيداً، مثلما يحتسبه لدى الله، من شهداء الثورة وإن كان لا يعلم تماماً أين ومتى وكيف استشهد.
تمر أيام قليلة قبل أن يزوره زائر يحمل له رسالة عتاب: «لماذا لا تسألون عنى؟ أحتاج إليكم وأحتاج إلى بعض النقود لشراء الطعام من كانتين السجن». هكذا يفجّر الزائر قنبلة فى وجه الأب. «ابنى؟ ابنى مات يا ابنى وأنا دفتنه بإيدى». فى رحلة طويلة من البيت إلى السجن، تحتاج إلى مثل ألفريد هيتشكوك كى يرسم لنا منحنياتها، تعصف الأفكار بعقل الرجل وتتملكه مشاعر متناقضة تتسع معها حدقتا عينيه وهو لا يرى أمامه ولا حوله. يزيد خفقان قلبه وقد اقترب من السجن، وحين يدخله يكاد يتوقف قلبه عن الخفقان وهو يجهش بالبكاء: «ابنى».
من إذن ترتاح عظامه الآن فى مقابر الأسرة؟ نستطيع الآن أن نتخيل أباً آخر واحداً على الأقل وهو يتساءل فى حُرقة: «أترى تكون تلك عظام ابنى أنا الذى اختفى ولم يقل لى أحد أين هو؟».
هذه جريمة كبرى. وبغض النظر عن كونها إهمالاً جسيماً أو عمداً مغرضاً فإنها تجعلنا ننتقل من مبدأ الثقة إلى أن يثبت العكس إلى مبدأ الشك إلى أن يثبت العكس، وشتان بين المبدأين. وما يدعم هذا الانتقال مثلاً هو أننا أثبتنا بالدليل القاطع المخالفة القانونية الواضحة لوضع رموز النظام المتهمين بالفساد فى سجن واحد على اتصال ببعضهم البعض وبالعالم الخارجى بصورة تؤثر بكل تأكيد على فرصة المحقق فى الوصول إلى الحقيقة ومن ثم إلى العدالة. ورغم ذلك لم يحدث شىء.
كنا نريد أن نغمض أعيننا ونشعر بالثقة والأمان ونحن نترك كلاً يؤدى عمله حتى إن أخطأ عن غير عمد، لكن مؤشرات كثيرة تقودنا الآن إلى أن نعتقد أن من واجبنا اليوم تجاه أنفسنا وتجاه بلادنا أن ننتقل إلى مبدأ الشك فى كل شىء إلى أن نرى العكس بأمهات أعيننا شاخصاً أمامنا لا لبس فيه.. ولم نكن نريد لهذا الانتقال أن يحدث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات