«الآن نستطيع أن نحذف من همومنا همًّا، وهو استمرار تدهور حال السياسة الخارجية المصرية وتردى مكانتها الإقليمية والدولية. وصلتنى هذه الكلمات من قارئة مهتمة بالشأن العام ومنغمسة مثل مئات الألوف من بنات جنسها فى الأنشطة التى فجرتها الثورة. كانت الآنسة أو السيدة الكريمة التى بعثت بهذه الكلمات تعلق على اللقاء التليفزيونى الذى أجرته منى الشاذلى مع نبيل العربى.
أحسنت كاتبة التعليق حين اعتبرت السياسة الخارجية المصرية التى أدارها الرئيس المتنحى كانت همًّا من هموم البلد، وحين قررت أن تصريحات الوزير الجديد خلال الساعتين اللتين أطل فيهما على ملايين المصريين والعرب. خلفت انطباعا بأنه يفهم مصالح مصر فهما مختلفا يقترب من فهمنا لها، وأنه يعبر عن رؤى هى فى الحقيقة أكثر صدقا وصدقية من رؤى كثيرة تعرضنا لسلبياتها خلال ثلاثة عقود. أخلص سريعا من هذه المقدمة إلى أن اللقاء كان متميزا فى إدارته، تألقت فيه العاشرة مساء وعادت إلينا متألقة سياسة مصر الخارجية.
لا أنكر أننى كمشاهد انتظرت اللقاء بكثير من الشعور بالتفاؤل، ولا أظن أننى كنت وحيدا أو ضمن قلة مندسة، وعندى من الأسباب ما يؤيد ظنى أختار منها ثلاثة: أولها أن الكثير من المصريين لمسوا عن قرب قدر التحسن الذى طرأ على سمعة مصر فى الخارج، سواء كان الخارج بعيدا فى أقصى الشرق والغرب أو أقرب جدا فى بلاد العرب والمسلمين والأفارقة. أهل هذه البلاد شاهدوا مصر وقد أزالت تجاعيد الكآبة والحزن وظهرت على حقيقتها جميلة وناعمة ومسالمة وراغبة فى استئناف العطاء العفيف. وصلتنا أخبار هذه السمعة أو لمسناها وكنا فى انتظار من يعلن لنا أن دبلوماسية مصر سوف تركب هذه السمعة وتنطلق.
ثانى الأسباب. كنا قد سمعنا من خلال أصدقاء لوزارة الخارجية فى خارجها وأصدقاء لنا فى داخلها، أن الوزارة تعيش حالة انتعاش الأمل. كنت فى السنوات الماضية أقابل العديد من الدبلوماسيين الذين كانوا على الدوام متألمين للنقد الذى يوجه للدبلوماسية المصرية بسبب أدائها القاصر. كانت قلاع مصر الخارجية تسقط قلعة بعد أخرى ولا نسمع دفاعا أو تبريرا مقنعا. «كنا نحذر بعض أولى الأمر فيهم من أن هذا السقوط، وقد استمر أطول مما يجب، شارك فى تجذير قضايا خطيرة كالفتنة الطائفية وهجرة العقول وفقدان الثقة فى قدرة الوطن على البقاء والاستمرار واستعادة حرية قراره».
ثالث سبب من أسباب التفاؤل الذى لازم انتظار مشاهدات ومشاهدى لقاء منى ونبيل، هو أن المصريين قد تسيسوا. فبفضل تعدد المطالب من جانب قطاعات الشعب وتعدد التنازلات من جانب قطاعات السلطة وكثافة المناقشات الدائرة فى كل أنحاء مصر وبفضل تعدد الثورات المتلاحقة فى عدد من الدول العربية تسيّس المصريون وأصبحوا أقدر وأقوى رغبة فى متابعة التطورات السياسية الخارجية واستيعابها والتفاعل معها. هكذا كان حال الناس يوم اللقاء. انتظروه متفائلين وخرجوا منه مرتاحين ومطمئنين. وحسب ما جاء فى رسالة القارئة خرجوا من اللقاء وقد انزاح من همومهم همٌّ كبير.
أعرف قيمة الشعور بالتفاؤل وضرورة التبشير به، وبخاصة فى أوقات الأزمات الحادة كتلك التى نمر بها، وأعرف أيضا وأقدر دور نبيل العربى وزملائه وكل من دعّم مواقفه الوطنية، ولكن أعرف فى الوقت نفسه أن عقبات كبرى ستبقى ماثلة لفترة قادمة أمام القائمين على تخطيط السياسة الخارجية وتنفيذها ويحتاج قهرها إلى جهود وطنية. أول عقبة هى إسرائيل.
لم تكن إسرائيل راضية عن قيام ثورة فى مصر أو رحيل حسنى مبارك، وبالتأكيد هى غير راضية الآن عن الدعوة الملحة لرحيل النظام. أقامت إسرائيل الدنيا فور نشوب الثورة وبخاصة حين اتضح لها أن أغلب الثوار ينتمون إلى طبقة كان الظن أن الغرب وإسرائيل امتلكوا زمامها. ضغطت على العالم كله ليحصل لها من مصر على تأكيدات بأن اتفاقاتها مع إسرائيل لن تمس ولسان حالها يقول فليغير المصريون ما شاءوا إلا ما يتصل بإسرائيل، بمعنى آخر، أن تستمر مصر كنزا إستراتيجيا لأمن إسرائيل.
أتصور أن وزير الخارجية المصرى بمقالاته قبل الثورة وتصريحاته بعدها أكد لإسرائيل مخاوفها إذا كانت قد فهمت منها ما فهمه المصريون والعرب جميعا. فهمنا أن مصر لن تمس الاتفاقيات إلا إذا اتضح لها أن إسرائيل مستها قبل مصر أو لم تنفذ التزاماتها فيها. فهمنا أيضا أن مصر سوف تعتبر استمرار الاستيطان وتقييد حريات أهل غزة وفرض الحصار عليهم إجراءات تتعارض والاطار العام الذى اتفق عليه الطرفان. ونفهم، ونصر على الفهم، أن مصر فى أى وقت قادم لن تحقق لإسرائيل مطلبها «العنصرى والفاشى» بأن يكون لها دون غيرها من دول العالم علاقات «فوق الطبيعية» مع مصر. إذا كان هذا ما فهمناه من الوزير الجديد ولا بد أنه وصل إلى فهم حكام إسرائيل، فيجب أن نتوقع أزمات تفتعلها حكومات إسرائيل تتعمد من ورائها إحراج مصر وتعطيل تنفيذ برامج الإصلاح وتعقيد أمورنا الداخلية والإقليمية.
ثانيا: كان الوزير واضحا وقاطعا فى استجابته للرأى العام المصرى الذى لم يقتنع يوما بجدوى تدهور علاقات مصر بإيران. طموحات إيران لم تكن فى أى يوم أحد هواجس المصريين الذين عرفوا أنها طموحات مشروعة يجب أن تقابلها طموحات مصرية وعربية وتركية أيضا مشروعة. لم يكن مقبولا موافقة حكومة مصر على تكليف صادر لها من دولة أخرى لتتصدر صداما مع إيران، ولم يكن مقنعا الإدعاء بأن الإيرانيين يخططون لإقامة هلال شيعى، وهى الفكرة السخيفة التى أطلقتها كل من عمان والقاهرة فى آن واحد وجلبت على الحكومة المصرية سخرية قادة الفكر والسياسة.
إن إعلان مصر عن نيتها الانتقال من سياسة المواجهة مع إيران إلى سياسة الحوار والتعاون قد تغضب دولا عربية هى نفسها تقيم علاقات تعاون مع إيران ويتزاور وزراء خارجيتها والمسئولون الكبار ويتواصل ازدهار التجارة البينية بين شاطئى الخليج: العربى والفارسى.
ثالثا: احتار ثوار مصر حيرة لا تقل عن حيرة العالم بأسره فى محاولة فهم السياسة الخارجية للرئيس أوباما إزاء ربيع العرب. هناك بالقطع ملامح بالرضا على وجه واشنطن، إذ تبدو الحال العربية فى وضع لم يحلم رئيس أمريكى منذ أيام الرئيس وودرو ويلسون بأن يتحقق بهذ الشكل وهذه الوتيرة. فجأة سمعت أمريكا العرب كافة يتحدثون عن الديمقراطية، وفجأة تشاهد أمريكا أكثر العرب عددا وقد ثاروا يزيحون حكاما مستبدين وفاسدين، ولكن ليس كل ما كان ولسون وبوش، وأوباما نفسه يحلم به، يلاقى القبول فى دهاليز ومكاتب وزارة الدفاع الأمريكية، أو فى ندوات ومؤتمرات جماعات الضغط الصهيونية. نعرف جيدا كم بذل الكثيرون فى الولايات المتحدة من جهود وأموال من أجل أن تكون مصر ذليلة وتابعة ومستكينة، وإن تدثرت بعباءة التحالف الاستراتيجى مع أمريكا والعلاقات الأمنية مع إسرائيل وعضوية حلف الاعتدال العربى.
رابعا: بالعقل والعاطفة معا أستطيع أن أقرر بكل ثقة أن أنظمة حكم فى بلاد عربية بعينها لن ترحب بثورات سياسية واجتماعية جديدة فى العالم العربى، ولن تعيش مرتاحة فى مستقبل استقرت فيه ثورات عربية هى الآن ناشبة، هذه الحكومات لن تطمئن وستبذل جهودها وجهود غيرها للحيلولة دون استقرار هذه الثورات، وإن استقرت الثورات وشكلت حكومات «ثورية»، يصير متوقعا أن تحشد بعض هذه الدول من مواردها ما يكفى لمنع هيمنة هذه القوى الثورية الجديدة على النظام الإقليمى العربى وتسييره.
كل عقبة من هذه العقبات، وكلها مجتمعة أو متحالفة، تهدد سلامة ثورة مصر وأمنها. لا شك عندى فى أنه إذا أصاب هذه الثورة مكروه عادت مصر تابعة ومستكينة. لذلك أعتقد إن أول واجبات مؤسسات الثورة، وفى مقدمتها دبلوماسيتها، دعم الثورات العربية الأخرى باعتبارها تمثل خط الدفاع الخارجى للثورة المصرية، والعمل على توسيع تحالفات مصر الخارجية وإقامة، وبسرعة متناهية، علاقات أوثق بالدول والقوى الناهضة فى النظام الإقليمى والنظام الدولى، وفى الوقت نفسه التأكيد على أن مصر الثورة لن تسعى عمدا إلى تصدير ثورتها أو إقامة تحالفات إقليمية تقوم على قواعد الثورة ومبادئها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات