يقولون تكلم حتى أراك، وقد تكلم اللواء عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية، كثيرا حتى قلنا ليته سكت، ليحتفظ بعضنا له بصورة رجل الدولة القدير الذى تنتظر منه مصر الكثير فى فترة انتقالية تعقب رحيل مبارك.
إذا كان اللواء عمر سليمان يظن أن ثورة 25 يناير قد قامت ضد شخص حسنى مبارك فإنه يخطئ كثيرا، لأنها تفجرت ضد نظام سياسى بأكمله يتعالى على المصريين ويتعامل معهم بوصفهم قاصرين لا يستحقون أن يتمتعوا بكل ما تتمتع به شعوب الأرض من حقوق وحريات، لذلك فهو لا يقدم للبلاد خيرا عندما يرى أننا شعب غير مؤهل للديمقراطية لأننا بنص تصريحه «لم نتعلم بعد ثقافة الديمقراطية»، وهو تصريح يعيد البلاد كلها إلى نقطة ما تحت الصفر التى عاشت فيها ثلاثين سنة، بينما لو كان قد نزل إلى ميدان التحرير أو أرسل كاميرات أمينة تصور له ما يجرى هناك لأدرك أن المصريين شعب عظيم حقا لأنه تمكن دون عون من أى سلطة حاكمة أن ينشئ مجتمعا ديمقراطيا يتعايش فيه مئات الآلاف سلميا كل يوم دون فتنة طائفية أو سرقة أو تحرش أو انفلات، ثم إذا كان هذا رأى عمر سليمان فى المصريين فلماذا إذن يتبنى مشاريع إصلاح سياسى ودستورى من أجل شعب غير مؤهل للديمقراطية.
لا أدرى كيف ستتحقق مصلحة مصر على يدى عمر سليمان فى هذا الوقت الذى تلتهب فيه العواطف من هول الظلم والفساد والجبروت عندما يقول لكريستيان أمانبور، مراسلة تليفزيون «إى. بى. سى»، إنه يأمل أن يعترف من سماهم «الأشخاص الموجودين فى ميدان التحرير بأنهم لم يعملوا لمصلحة البلد»، وعندما يصر على أنهم «مدعومون من أجانب»، وعلى أنه لم يُقتَل أحد برصاص بندقية أو قناصة، بينما لو طلب تقارير دقيقة لجاءته شهادات من أهالى شهداء قتلوا برصاص خسيس فى رؤوسهم وصدورهم، لماذا يصر سيادة النائب على فكرة أن ثورة المصريين هى التى تدفع إلى الفوضى؟، بينما الجميع يعلم أن الفوضى خُلقت عمداً لإحباط هذه الثورة، وأن الخطر الذى يتهدد مصر ليس ثورة المصريين وإصرارهم على نيل حقوقهم كاملة، بل هو عناد شخص واحد يقامر بمستقبل البلاد كلها.
فى لقائه مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، قال سيادة النائب عن العالم المصرى الدكتور أحمد زويل «مع احترامى الشديد لهذا العالم، فإن الدكتور زويل بعيد جدا عن المجتمع المصرى ولا يعلم كيف يتحرك، ولم يخرج من فندق ماريوت، وكل لقاءاته تتم فى هذا الفندق، فكيف أعتمد عليه»، وبغض النظر عن لهجة التعالى الموجودة فى حديثه عن عالِم قدم لمصر أكثر مما قدمه كل رموز نظام مبارك، فإن السؤال يبقى: إذا كانت إقامة الدكتور زويل فى أمريكا تبعده عن المجتمع المصرى، وهذا غير صحيح بالمناسبة، فما الذى يبعدكم عن معرفة المجتمع المصرى وأنتم لا تقيمون فى فندق ماريوت، وهل يفترض أن يشعر الناس بالثقة عندما تقولون لهم إنكم كنتم تعلمون بثورة شباب الـ«فيس بوك» قبل قيامها بعام كامل وقيل لكم إنه سيشارك فيها مائة ألف شخص، هل هذا الكلام يفترض به أن يطمئن حتى الذين لا يتفقون مع هذه الثورة ومطالبها، ولماذا الإصرار على الخلط فى أحاديثه بين النظام والدولة فى حين لم يقل أقل المتظاهرين وعيا إنه يريد إسقاط الدولة، بل تحدث الجميع عن إسقاط نظام فاسد حكم أعظم دولة فى التاريخ فصنع بها ما لم يصنعه أعدى أعدائها.
يقول سيادة النائب فى لقائه مع رؤساء تحرير الصحف «كيف أنزل إلى ميدان التحرير ولا توجد قيادة أتحدث معها، لو نزلت وتحدثت مع أحد الأشخاص فسيقول آخرون بميدان التحرير لزملائهم أنتم خائنون»، ولا أدرى لماذا لم يقم بسؤال سيادة المشير محمد حسين طنطاوى، وزير الدفاع، عن المرتين اللتين نزل فيهما إلى ميدان التحرير والتقى بالمتظاهرين وعاملوه بكل الاحترام الذى يليق بالمؤسسة العسكرية، فخر المصريين وحامية تراب الوطن، لا أدرى هل شاهد سيادة النائب صورة اللواء حسن الروينى، قائد المنطقة المركزية، التى نشرت على صدر صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية منذ أيام وهو يقبل بأبوية حانية رأس أحد المتظاهرين الملتحين، وهى صورة تستحق أن تُخلّد فى سجل التلاحم بين الجيش والشعب. لم يقم أحد فى ميدان التحرير بتخوين أحد، وإنما تضايق الكثيرون من المتظاهرين من أسلوب اختيار أفراد دون غيرهم بشكل غير ديمقراطى للحديث باسم ثورة شعبية ديمقراطية.
وبالتأكيد كان الجميع سيسعدون لو رأوا نائب رئيس الجمهورية يأتى إليهم فى ميدان التحرير ليستمع إليهم مباشرة دون تقارير تنقل إليه معلومات تتهمهم بأنهم مدعومون من أجانب ولديهم أجندات، مستعد أن أحلف على المصحف أن الجميع كانوا سيرحبون بعمر سليمان أجمل ترحيب لو جاء مبكرا إلى التحرير، ولو اختار منهج الاحتواء بدلا من أسلوب التهديد المبطن بأن «الدولة لن تتحمل المزيد من الاعتصام»، وكان سيسمع بأذنيه أن كل مطالب المتظاهرين مرهون تحققها بمطلب واحد هو رحيل الشخص الذى أصبح رمزا لنظام غير كفء وغير محترف واستنفد كل فرص التغيير والإصلاح، حتى إنه عندما جاءت لحظة الحقيقة لم يختر أن يواجهها بل اختار أن يضحى بأناس هو الذى منحهم السلطة والمناصب وهو الذى ظل يساندهم حتى اللحظة الأخيرة.
كنت آمل أن ينحاز اللواء عمر سليمان إلى قيم الحداثة والعصرية، خصوصا وهو الرجل الذى قضى سنوات على رأس مؤسسة تتعامل بأسلوب حديث وعصرى وتطور نفسها وأداءها يوما بيوم، لذلك استغربت أن يصر فى كل أحاديثه على فكرة الرئيس الأب الرمز ويعتبر أن ثقافة المصريين ضد فكرة تنحية الرئيس، ويصر على تكرار تذكير المصريين ببطولة الرئيس فى حرب أكتوبر، متناسيا أن هذه البطولة وحدها هى التى منحت مبارك شرعية الحكم لأكثر من ربع قرن، فماذا فعل بها الرئيس ولماذا لم يستخدمها فى ترسيخ العدل والتقدم والكرامة بين المصريين، وفى أى شرع أو قانون يمكن أن تلغى بطولة الرئيس مسؤوليته السياسية عن تردى أحوال البلاد وقتل المتظاهرين الأبرياء، ولماذا الإصرار على تجاهل أن ملايين المتظاهرين يريدون للرئيس أن يرحل عن منصبه لا عن وطنه، لا يريدون له حتى أن يتعرض لما تعرض له من قبله بطل من أبطال حرب أكتوبر هو الفريق سعد الدين الشاذلى الذى رحل عن وطنه لسنوات طويلة.
لا أدرى لماذا مازلت أحمل فى داخلى اعتقادا بأن رسالة الثورة قد وصلت إلى النائب عمر سليمان، وأن تصريحاته غير الموفقة تلك وراءها رغبة إنسانية فى مساندة رئيس خدم معه سنين طويلة وارتبط به إنسانيا، وأن رجل مخابرات مثله لا يمكن أبدا ألا يكون قد عرف الحقيقة كاملة، بالطبع لن يكون لاعتقادى هذا أى معنى إذا استمر سيادة النائب فى تلك السلسلة من التصريحات التى تعيد إنتاج ما عشناه طيلة الثلاثين عاما الماضية، وفى كل الأحوال أعتقد أن نائب رئيس الجمهورية سيجد نفسه هو وكل كبار قيادات السلطة فى مصر مضطرين فى الأيام القادمة للإجابة عن سؤال مصيرى وحاسم: ولاؤنا لمن؟ للشعب المصرى أم لشخص أيا كانت محبتهم له؟.
يا سيادة النائب: لم يعد المصريون شعبا قاصرا بحاجة إلى فرعون أيا كان، لقد التحقوا بركب العصر أخيرا، ولن يستطيع أحد أن يعيدهم إلى الوراء ثانية أيا كانت التضحيات.
تحيا مصر.
belalfadl@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات