بقلم د. حسن نافعة ٢٧/ ٢/ ٢٠١١
خرجت جماهير الشعب المصرى مرة أخرى يوم الجمعة الماضى إلى الشوارع والميادين الرئيسية فى معظم أنحاء الجمهورية، خاصة ميدان التحرير بالقاهرة، لتوجيه رسالتين إلى كل من يهمه الأمر. الرسالة الأولى: مفادها أن شعب مصر لم يعد مطمئنا للطريقة التى تدار بها البلاد منذ تنحى الرئيس السابق عن السلطة، ويخشى من أن يؤدى الاستمرار فى النهج الحالى إلى الالتفاف حول مطالب الثورة وإجهاضها فى نهاية المطاف. والرسالة الثانية: للتأكيد على أن الثورة لاتزال مشتعلة، وأن الشعب مصمم على مواصلتها والمضى قدماً فى الطريق الذى بدأه إلى أن يتمكن من إسقاط النظام القديم، بكل رموزه وسياساته وآلياته وعدم الاكتفاء بالإطاحة برأسه، وإرساء أسس نظام ديمقراطى جديد غير قابل للارتداد يخلو من كل المظاهر والآليات التى أفرزت تحالف الفساد والاستبداد ومكنت له فى الماضى. وكان بوسع كل من ذهب بنفسه إلى ميدان التحرير أمس الأول أن يتأكد بنفسه من مدى إصرار الشعب المصرى على عدم السماح لأحد بأن يسرق منه ثمار ثورته مهما بلغت التضحيات، وأن يتأكد من مدى ثقته بنفسه بعد أن استطاع تفجير وصناعة واحدة من أعظم الثورات فى تاريخ الشعوب وأكثرها تحضراً وإلهاماً. يعود عدم اطمئنان الشعب المصرى للطريقة التى تدار بها البلاد منذ تنحى الرئيس السابق إلى أسباب عدة أهمها: ١- السماح للرئيس السابق وعائلته ليس فقط بالبقاء فى مصر ولكن أيضا بممارسة، حسب ما يتردد بقوة فى الشارع السياسى، نفس نمط الحياة الرئاسية المعتادة، بما فى ذلك بقاء الحرس الجمهورى على ما هو عليه وخضوعه لقيادة الرئيس المباشرة. والأهم من ذلك استمرار التفاف عدد من رموز النظام القديم حول رئيسهم المخلوع وقيامهم بتقديم تقارير منتظمة له حول تطور الأوضاع فى البلاد رغم خطورة التهم المنسوبة إليهم، وفى مقدمتها: أ- إصدار الأوامر باستخدام العنف ضد المتظاهرين، والذى راح ضحيته ما يقرب من ٥٠٠ شهيد وأكثر من خمسة آلاف جريح، وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بما فى ذلك ممارسة التعذيب حتى الموت. ب- التآمر لإحداث الفتنة وإثارة الاضطرابات فى البلاد، بإصدار أوامر إلى أجهزة الأمن بالانسحاب من مواقعها وفتح السجون والمعتقلات واستخدام المجرمين المحترفين والبلطجية والبغال والحمير فى ترويع المواطنين. ج- ممارسة كل أنواع الفساد واستغلال النفوذ والتربح على نحو أدى إلى نهب ثروات البلاد وإفقار العباد. ولأنه لا يوجد أى مبرر لترك الطغاة والمفسدين طلقاء هكذا، فمن الطبيعى أن تثور شكوك حول احتمال انخراطهم فى الإعداد لثورة مضادة لاستعادة السيطرة على زمام الأمور، خصوصا أن أذناب النظام لاتزال تسيطر على أغلب مواقع السلطة الفعلية فى البلاد. ٢- غموض مصدر الشرعية الذى تستند إليه سلطة الحكم فى المرحلة الراهنة. فثورة ٢٥ يناير هى التى أجبرت رئيس الدولة السابق على التنحى ونقل السلطة إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والذى يفترض أن يحكم باسم الشرعية الثورية. غير أن بيان المجلس رقم ٥ احتوى على رسائل وإشارات متناقضة بعضها يوحى بأنه يعمل بمقتضى الشرعية الدستورية وبعضها الآخر يوحى بأنه يعمل بمقتضى شرعية النظام القديم. فقد أعلن البيان تعطيل العمل بأحكام الدستور، وحل مجلسى الشعب والشورى، وتولى إدارة شؤون البلاد بنفسه «بصفة مؤقته لمدة ستة أشهر أو انتهاء انتخابات مجلسى الشعب والشورى ورئيس الجمهورية» منح نفسه خلالها حق إصدار مراسيم وقوانين، وكلها إشارات توحى بأنه يتصرف بمقتضى الشرعية الثورية. غير أن البيان عاد وكلف حكومة الفريق أحمد شفيق بـ«الاستمرار فى إدارة البلاد حتى تشكيل حكومة انتقالية»، دون أن يحدد موعدا لذلك، وتشكيل لجنة لـ«تعديل بعض مواد الدستور وتحديد قواعد الاستفتاء عليها من الشعب»، وهى إشارات توحى باستمرار العمل وفق قواعد وآليات النظام القديم. ليس من الواضح ما إذا كان التعديل الوزارى الأخير قد غير من طبيعة حكومة أحمد شفيق وحولها من «حكومة تسيير أعمال» إلى «حكومة انتقالية». فحكومة تسيير الأعمال هى بطبيعتها غير قابلة للتعديل، لأنها منتهية الصلاحية وسقطت بسقوط رئيس الدولة الذى حلفت اليمين أمامه وتنحيه عن السلطة، وأصبحت مفوضة بالإدارة، وليس بالحكم، إلى أن يتم تشكيل حكومة جديدة. وهنا كان أمام رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الاختيار بين بديلين، الأول: تشكيل حكومة انتقالية برئاسته مع احتفاظه بمنصب وزير الدفاع، ٢- تكليف أى شخصية مدنية أو عسكرية يختارها رئيس المجلس، بما فى ذلك الفريق شفيق نفسه، بتشكيل حكومة انتقالية كان يفترض أن يشغل فيها شخص آخر منصب وزير الدفاع. ولأن رئيس المجلس الأعلى لم يلجأ إلى أى من هذين البديلين، مفضلا إدخال تعديل وزارى واسع النطاق، فقد أصبحنا أمام وضع أقل ما يقال فيه إنه شديد الغرابة وشديد الغموض أيضا. فنحن اليوم إزاء وزارة حلف رئيسها ونصف أعضائها اليمين الدستورية أمام رئيس مخلوع، بينما حلف نصف أعضائها الجدد اليمين الدستورية أمام رئيس مؤقت للبلاد يحكم باسم الشرعية الثورية فى وزارة لم يحلف رئيسها اليمين أمامه ولازال يشغل فيها منصب وزير الدفاع، وبالتالى تستمد سلطتها من نظام قديم سقط!. فإذا ما نحينا الجوانب الدستورية والقانونية جانبا وألقينا نظرة عامة على الحكومة الراهنة، والتى يفترض أنها لم تعد حكومة «تسيير أعمال» وإنما حكومة «انتقالية»، فسوف نكتشف أنها مجرد امتداد للنظام السابق. فمن حيث التشكيل يلاحظ: ١- أن رئيسها كان ولايزال أحد الأصدقاء المقربين لرئيس الدولة المخلوع: ٢- أن أغلب وأهم أعضائها والممسكين بأهم مفاتيحها هم من رجال النظام السابق. ٣- أن الأعضاء الجدد، خاصة المستقلين منهم أو المنتمين لأحزاب «معارضة» لا تملك أى سلطات حقيقية تمكنها من صنع السياسات وليس لديها سوى صلاحيات «فنية» تضفى على النظام الساقط والمتهالك مسحة جمالية محدودة التأثير. وإذا اتفقنا على أن مهمة المرحلة الانتقالية تنحصر، من منظور الشرعية الثورية، فى القيام بوظيفتين أساسيتين، هما إزالة ما تبقى من رموز وسياسات النظام القديم والتأسيس لنظام جديد، فمن المستحيل إقناع الشعب بأهلية وقدرة الحكومة الحالية على القيام بأى منهما، لأن ذلك يتطلب: أولا: أن تتمتع السلطة القضائية باستقلال كامل، وهو أمر يستحيل توافره فى ظل احتفاظ المستشار ممدوح مرعى بمنصبه كوزير للعدل. فمن المعروف للجميع أنه حصل على منصبه مكافأة لدور قام به كرئيس للجنة العامة لانتخابات الرئاسة عام ٢٠٠٥، والتى شكلت مهزلة بكل المقاييس، وأن المهمة الأساسية التى كلف للقيام بها عند تعيينه وزيرا للعدل انحصرت فى العمل على تصفية ومحاصرة الدور المتصاعد لأندية القضاة والتى كانت تصدح بالمطالبة باستقلال القضاء والإشراف الكامل على العملية الانتخابية. ثانيا: أن يتم الإفراج عن المعتقلين والمحتجزين السياسيين، وإعادة هيكلة المنظومة الأمنية فى البلاد على نحو يفضى إلى التحقيق الفعلى لأهداف الشعار الجديد- القديم (الشرطة فى خدمة الشعب). وتلك أهداف يصعب تحقيقها فى ظل وزير جديد للداخلية يبدو أن مسوغات اختياره للمنصب انحصرت فى وجود خلاف قديم مع وزير الداخلية السابق، وهو اعتبار لا يكفى لضمان قيامه بالدور المطلوب لإعادة الاعتبار إلى وزارة الداخلية وتأهيلها لأداء واجبها فى خدمة المواطنين والعمل على استتباب الأمن والسلام الاجتماعى. فمشكلة وزارة الداخلية لم تكن تتعلق بالسمات الشخصية لحبيب العادلى بقدر ما كانت تتعلق بتوجهات نظام لم ينشغل بأى قضية قدر انشغاله بتأمين بقائه فى الحكم وحراسة مشروعه لتوريث السلطة. ثالثا: إدخال تعديلات جذرية على جميع القوانين المقيدة لحرية حركة المجتمع المدنى، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب وتمكينها من ممارسة جميع الأنشطة المجتمعية والسياسية الطبيعية وطرح برامجها ورؤاها بما يساعد على خوض الانتخابات المحلية والتشريعية والرئاسية القادمة فى جو مختلف عما سارت عليه الأمور طوال العهود السابقة. وتلك مهمة لا يبدو أنها تحتل أولوية متقدمة على جدول أعمال حكومة يبدو أن همها الأول عودة الأمور بأسرع ما يمكن إلى الحالة التى كان عليها المجتمع المصرى قبل ٢٥ يناير. رابعا: استعادة حقوق وكرامة وثروات الشعب المصرى، بتقديم المسؤولين عن انتهاك حقوقه أو المساس بكرامته أو تبديد وسرقة أصوله وممتلكاته إلى محاكمات عادلة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا فى ظل حكومة مستقلة تماما من الناحية السياسية لم يكن لرئيسها أى صلة أو ارتباطات مصلحية من قريب أو بعيد بالحزب الوطنى أو بأجهزة الدولة، وهو شرط لا يتوافر على أى نحو فى الحكومة الحالية. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن أحدا لم يكلف نفسه عناء تقديم تفسيرات تقنع الشعب المصرى بحقيقة الأسباب التى دفعت المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى التمسك إلى هذا الحد بالفريق أحمد شفيق بالذات لقيادة المرحلة الانتقالية، وحرص رئيس الوزراء على الاحتفاظ فى حكومته الانتقالية ببعض الوجوه المستفزة، والتى تثير استياء الجميع، والإبقاء على أطقم المحافظين ورؤساء الجامعات وقيادات المؤسسات الصحفية القومية، لالتمسنا العذر لكل من تساوره الشكوك بشأن توجهات المرحلة الحالية وتولدت لديه قناعة واضحة بوجود محاولة للالتفاف على الثورة وإجهاضها. لاحظت من خلال حواراتى مع العديد من الشباب والشيوخ فى ميدان التحرير يوم الجمعة الماضى أنه رغم الثقة الكبيرة فى المؤسسة العسكرية، والتى لاتزال قائمة، فإن الفجوة بدأت تتزايد بشكل مقلق بين توقعات الناس وطموحاتهم، من ناحية، وما يجرى على أرض الواقع، من ناحية أخرى. كما لاحظت فى الوقت نفسه أن الأغلبية الساحقة تبدو على استعداد لتأجيل مطالبها الفئوية ومنح المؤسسة العسكرية ما تحتاجه من الوقت لإعادة ترتيب البيت المصرى فى هدوء، وبما يكفل تهيئة المجتمع المصرى لانطلاقة كبرى نحو المستقبل. غير أن أحداً لا يفهم سر هذا التسامح المريب وغير المبرر مع رموز النظام القديم، ويخشى الجميع من محاولة للانقضاض على الثورة يرى البعض أنها ربما تكون وشيكة. غير أن هذه المخاوف والشكوك لم تفت أبدا فى عضد المتظاهرين وإصرارهم على تحقيق كل أهداف الثورة مهما بلغت التضحيات والذهاب فى هذا المنحى إلى أبعد مدى. تلوح فى مصر الآن بارقة أمل حقيقية للاستفادة من طاقات الشعب المصرى، والتى تفجرت فى ثورة ٢٥ يناير، لبناء دولة عصرية قوية. غير أن القوى المستفيدة من النظام والأوضاع القديمة، والتى لاتزال قوية ومتغلغلة فى شرايين المجتمع، تصر على إطفاء الأمل وتراهن على تعب الثوار وانقسام النخبة، وهو رهان أظن أنه خاسر. وأخشى ما أخشاه، إن نجحت هذه القوى فى الالتفاف على الثورة وإجهاضها مؤقتا، أن تمهد الطريق بمناوراتها ومؤامراتها هذه إلى موجة ثورة تالية لن يقودها شباب «فيس بوك» هذه المرة وإنما شباب الطبقات المهمشة وجحافل العاطلين. ولن يكون بوسع أحد حينئذ أن يضمن رومانسية أو سلمية هذه الموجة كسابقتها، وأظن أن مكانها المفضل هذه المرة لن يكون ميدان التحرير والميادين المشابهة فى عواصم المحافظات، وإنما ساحات وأماكن أخرى قد يكون العنف والتدمير هو سيد الموقف فيها. فهل تتحلى النخبة الحاكمة بما يكفى من الرشد والتحلى بالبصر والبصيرة لاستثمار اللحظة الراهنة فى بناء مصر الجديدة، أم أن الأبصار غشيت وعمت البصائر. وإخلاء ميدان التحرير بالقوة مساء الجمعة الماضى يحمل نذرا لا تطمئن ولا تبشر بالخير.. نسأل الله لمصر السلامة. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات