الأقسام الرئيسية

عودة العرب للتاريخ

. . ليست هناك تعليقات:




عودة العرب للتاريخ
العربي الجديد
موت النخبة التقليدية

سيقف علم اجتماع الثورة طويلا أمام معاني ودلالات ثورات العرب من تونس إلى مصر وأمام أهمية ما تضيفه هذه الثورات للتجربة الإنسانية. وسيقف باحثو علم الاجتماع, والسياسة, والأنثروبولوجيا مطولا أمام معاني وتبعات عبقرية الإنسان العربي الذي ثار وحيدا على أبشع أشكال الاستبداد مفتتحا عهدا جديدا من تاريخه وتاريخ الإنسانية بنموذج جديد وخلاق من الثورات يكون الإنسان موضوعها ونخبتها وصانعها.

فبعد أن طوعت طغم القهر والاستبداد بعض النخب واستأصلت بالعنف وغيبت بالقوة بعضها الآخر ظنا منها أن شعبا عاريا بلا قيادة وبلا معارضة وبلا نخب سيخضع لعبودية العائلة الحاكمة للأبد ولن يتجرأ على الثورة. انتفض العربي الجديد الذي ولد من رحم قهر أنظمة التبعية والفساد ليضيف دروسا تلهم كل مضطهد ومظلوم.

انتفض العربي الجديد معلنا ميلاد ثائر متمرد من طراز جديد ونخبة خلاقة من نوع جديد استبدلت نخبة تقليدية مفلسة طوعت بعضها أنظمة الاستبداد وروضت بعضها الآخر المنظمات غير الحكومية فيما استقال بعض آخر منها من دوره ومسؤولياته.

"
انتفض العربي الجديد معلنا ميلاد ثائر متمرد من طراز جديد ونخبة خلاقة من نوع جديد استبدلت نخبة تقليدية مفلسة طوعت بعضها أنظمة الاستبداد وروضت بعضها الآخر المنظمات غير الحكومية فيما استقال بعض آخر منها من دوره ومسؤولياته
"
أوطان العرب التي استعمرتها أنظمة القهر, وكيلة الاستعمار الخارجي, وشوهت صورة شعوبها أدبيات الاستشراف الاستعمارية العنصرية, ونهبت ثرواتها شريحة من مصاصي الدماء بقناع رجال أعمال ستضحي مختبرا لاكتشاف ما يجهله أو سكت عنه كل من يبحث في أحوال المجتمعات العربية عن عبقرية وعظمة شعوبها.

والإنسان العربي الجديد الذي أعاد اختراع معنى الثورة في زمن نظريات موت الإنسان والأمم ودورهم في التاريخ, وأسقط أبشع نماذج الاستبداد بلا نخبة تقليدية تقوده وبلا نظرية توجهه, وأعاد أمة كاملة للتاريخ وأربك كل الإستراتيجيات السياسية سيضحي محط احترام وإعجاب وإلهام كل الخلق.

عودة العرب للتاريخ
بعدما بشر شاعر تونس الرائع أبو القاسم الشابي كل مؤمن بعبقرية أمة العرب بمصير كل طاغية (حتى قبل ولادة بن علي) في نشيد الإرادة العربي, أضحت نبوءة شاعر النيل حافظ إبراهيم اليوم حقيقة ساطعة من لحم ودم.

فكل أعين الخلق اليوم على مصر وعلى أبطالها وهم يصنعون التاريخ. إنها عودة العرب للتاريخ من أبواب تونس الملهمة ومصر العظيمة. إنه دخول العرب من أوسع أبواب المجد إلى عهد جديد لا يكون الإنسان فيه الوسيلة فقط بل والهدف أيضا. إنها عودة العرب إلى الفعل وتقرير مصيرهم بأيديهم بعد أن استوطن هذا المصير مستبد هنا وطاغية هناك, تماما كما استوطنت الصهيونية أرض فلسطين واستعمرت مصير شعبها. إنه دخول العرب للتاريخ بالتمرد على من أفرغ استقلال العرب من معناه وأعادهم عبر بوابة النيوليبرالية إلى مرحلة ما قبل الاستقلال والخضوع.

لم يعد العرب للتاريخ فقط, ولم يصبحوا فاعلا رئيسيا وعاملا مقررا وصانعا ماهرا لتاريخهم وتاريخ منطقتهم فحسب, بل عادوا وبطريقة ملهمة للبشرية جمعاء. فبعد أن بدا أن أنظمة التبعية التي ابتليت بها أوطاننا نجحت في إفراغ الاستقلال -الذي دفع الآباء ثمنه دما- من معناه بخضوعها المطلق لإملاءات المستعمر الخارجي.

وبعد أن بدا أن سلطات الفساد التي سادت في بلادنا نجحت بالانقلاب على كل ما بناه الشعب بالدم وإخضاعها اقتصاد الأوطان لإملاءات بنك الاستعمار الدولي وخصخصة ما أممه أبطال الأمة بالحرب.

وبعد أن بدا أن أنظمة القهر والاستبداد قد نجحت في بناء منظومة قمع أمنية منيعة لحماية عمليات النهب المنظم بإخضاعها الوطن لثلة من مصاصي الدماء, انتفض الإنسان العربي ليعيد التاريخ إلى مساره المفترض وليعيد الاعتبار لأمة غيبها القهر وقمع طاقاتها الاستبداد وبدد خيراتها الفساد.

لم يعد العرب للتاريخ فقط, بل كانت العودة بالذات من بوابة بلدان بدت حتى الأمس القريب أكثر الأماكن تحديا واستحالة. لذلك, فتبعات ثورتي تونس ومصر ستكونان أكبر من أن يحتويهما من يظن أنه سيحتويهما وستؤسسان لعهد عربي جديد قادم لن يكون إلا أفضل مما نحن فيه.

"
لم تفتح مصر باب التاريخ الجديد أمام كل العرب فقط, بل إنها تأخذ لنا ثأرنا الشخصي جميعا ممن استبد بمصر الأم, وحاصر وجوع أطفال غزة, وتآمر على مقاومة لبنان, وشارك المستعمر الأبيض في تدمير أرض السواد
"
فمن سقط في تونس أولا كان طاغية تسلح بأكبر جهاز قمع يمكن أن تشتريه ثروات الشعب المنهوبة. لكنه سقط وسقطت معه أسطورة الحل الأمني للالتفاف على إرادة الشعب.

هذا معنى الإلهام في ثورة تونس العظيمة. ومن سقط في مصر الآن هو مستبد من طراز خاص أيضا. فهذا الطاغية لم يتحكم برقاب أهلنا الأبطال في مصر فقط, بل تلطخت يداه بدماء أطفال غزة ولبنان والعراق فأصبح عدوا شخصيا لكل عربي.

لذلك, لم تفتح مصر باب التاريخ الجديد أمام كل العرب فقط, بل إنها تأخذ لنا ثأرنا الشخصي جميعا ممن استبد بمصر الأم, وحاصر وجوع أطفال غزة, وتآمر على مقاومة لبنان, وشارك المستعمر الأبيض في تدمير أرض السواد. مصر اليوم تنتصر لنفسها ولأمتها. تنتصر لأطفال عشوائيات مصر وغزة وقانا وبغداد. مصر تنتصر لنا جميعا.

من تونس إلى مصر وما بعد, عاد العرب للتاريخ بعد أن أخرجهم منه ثالوث الاستعمار والتبعية والفساد فسقطت مع الأنظمة الهشة وهيبتها المزورة كل الأفكار التي لا ترى العربي إلا من منظار الكولونيالية العنصرية.

فمن تفاجأ من عبقرية وإلهام الشباب العرب في تونس ومصر, تفاجأ فقط لأنه اقتنع بسكون وسكوت الشعوب المطلق الذي روجت له إمبريالية معرفية احتقرت كل شعوب الأرض لتبرر نهب ثرواتهم واستعباد أبنائهم.

عاد العرب للتاريخ وأخرجوا منه للأبد كل أصحاب الأفكار العنصرية التي اصطنعتها كولونيالية معرفية ادعت دونية العربي لتبرر إسنادها ودعمها لأنظمة مستبدة ربطت مصيرها وشرعيتها بخدمتها للكيان الصهيوني. هذا زمن مضى وانقضى ولن يعود, فلقد عاد العرب للتاريخ كفاعل رئيسي ومقرر للمصير.

وإذا كان ما يحصل في العالم منذ فترة ليس أقل من إعادة رسم الخريطة السياسية والاقتصادية للمنطقة والعالم, فإن ثورة الشعوب العربية ستجعلهم لاعبا أساسيا ومؤثرا فاعلا في تقرير شكل هذه الخريطة.

ففيما تتراجع هيمنة قوى الأمس العالمية والإقليمية سياسيا واقتصاديا, وحتى أيديولوجيا. وفيما تصر أنظمة القهر العربية على الاستقالة الكاملة من المشاركة في الصراع على منطقتنا ومكانتنا وتمسكها وخضوعها المطلق لصيغة الشرق الأوسط الأميركي الإسرائيلي المتقهقر يتصاعد دور القوى الشعبية العربية لتحديد الشكل القادم للمنطقة وتقرير مصيرهم بيدهم.

العربي الجديد
لكن, لم يعد العرب للتاريخ فقط, بل كانت العودة أيضا بأكثر الطرق إبداعا وأعظمها تجديدا وأكثرها خلقا. فبرغم أن الثورة الشعبية حدث فريد ونادر في التاريخ الإنساني, يبدو اليوم وكأنها أصبحت حالة عربية جديدة ودائمة. هكذا أصبح ما بقي من أوكار للطغاة المتغطرسين بفعل عظمة هذه الشعوب ليس أكثر من جيوب متناثرة سيتم تطهيرها حتما, عاجلا أم آجلا.

وبرغم أن كل ثورات التاريخ العظيمة قادتها رموز ملهمة وأسست لها نخب من نوع خاص, انتفض الإنسان العربي وحده ليكون هو الرمز الملهم والمعلم لكل النخب وكل القيادات.

"
من رحم القهر والاستبداد ولد عربي جديد جمع في ذات الوقت مهارات النخب الغائبة اختيارا والمغيبة بالقوة, وخبرات الثائر العنيد فأصبح أمهر الحفارين لقبور الأنظمة التي استعبدته وغيبته وتاجرت بمصيره ووجوده
"
من رحم القهر والاستبداد ولد عربي جديد جمع في ذات الوقت مهارات النخب الغائبة اختيارا والمغيبة بالقوة, وخبرات الثائر العنيد فأصبح أمهر الحفارين لقبور الأنظمة التي استعبدته وغيبته وتاجرت بمصيره ووجوده. وإن كان مدهشا أن ينهار وكر الطاغية بن علي في أقل من شهر, فسيكون ما سينجزه أبطال مصر أقرب إلى المعجزة. فثورة مصر إن غيرت المنطقة, ستغير العالم.

ثورتا تونس ومصر الشعبيتان كشفتا عن الوجه الحقيقي والطبيعة الحقيقية للإنسان العربي الجديد. فلسنا فقط أمام عربي جديد تنقض صورته الحقيقية كل ما هو شائع زورا عن العربي الخانع المستسلم للقهر, بل نحن أمام نموذج ملهم من البشر لن يكون في مركز تغيير المنطقة, بل والعالم.

فدروس وعبرات البوعزيزي وخالد سعيد ستلهم كل شباب الأرض. ربما يكون صعود الجيل العربي الجديد هو أهم مؤشرات طبيعة المرحلة الجديدة التي بدأت على غفلة من المستعمر الداخلي والخارجي الذي أتقن سوء تقدير العرب وطاقاتهم.

ولكنه زمن العربي الجديد الذي عاد للتاريخ بأكثر الطرق إبداعا, فليس في تاريخ الإنسانية ما هو أنبل وأعظم من الثورة والتمرد على القهر والاستغلال, وليس من أداة ذات فعالية في الثورة والتمرد اليوم أكثر من الإنسان العربي الجديد.

موت النخبة التقليدية
كانت نخب العرب, ولوقت طويل, في بحثها عن حرية شعوبها من المستعر الداخلي تستلهم تجارب المجتمعات الأخرى فإذا بشعوبها تصبح الملهمة لكل شعب يسعى للتخلص من الاستبداد والتحرر من القهر ومبهرة كل نخبة تبحث عن نموذج تقتدي به.

انتهى عهد النخب القديمة المفلسة وبدأ عهد النخبة الجديدة. انتهى عهد تستطيع فيه سلطات القهر الركون لتطويع النخب التقليدية أو تصفيتها بالسجن والنفي والقتل. فالشعب كله نخبة اليوم, والنخبة الجديدة هي جيل كامل من الثوار والمتمردين ولا يستطيع أي نظام في الكون تطويع جيل كامل وشعب كامل.

عاد العرب للتاريخ بأقوى أدوات الفعل التي يمكن لأمة أن تنتجها. عاد العرب بنخبة عربية جديدة ولدت متسلحة بما كان يفترض أن يكون أدوات للتعارف الاجتماعي لتحولها لأمضى أسلحة الثورة, واستبدلت ما مات بحكم التاريخ من نخب قديمة عفا عليها وعلى فكرها وأدواتها الزمن.

عاد العرب للتاريخ بأدوات كان رأس المال الفاسد يظنها وسيلة لتحقيق الربح ووسيلة لإفساد جيل كامل وأمة كاملة فانقلب السحر على الساحر على يد جيل عبقري لم تعرف كل أجهزة استخبارات الكون بوجوده حتى أعلن عن نفسه.

"
ما أروع أن يكون الإنسان حيا هذه الأيام, وما أروع أن يكون الإنسان عربيا هذه الأيام. عاد العرب للتاريخ. شكرا يا أبطال تونس الخضراء, وشكرا يا ثوار مصر الأحرار
"
عاد العرب للتاريخ ليؤكدوا خطأ من يسيء الظن بالأمة ويحط من قدرها ويسفه طاقاتها وينتقص من إمكانات أبنائها. فصعود النخبة الجديدة العصية على الاحتواء والكسر ليس إلا دليل جديد على حيوية الأمة وقدرتها على الخلق والإبداع. لنترك النخبة المثقفة القديمة تتجادل حول إن كان ما يحصل ثورة أو انتفاضة وحين يتوصلوا لإجابة ستكون النخبة الجديد والأمة في مكان آخر.

سيقف الكثيرون أمام معاني ودلالات ما حدث في تونس وما يحدث في مصر. سيقفون أمام عبقرية العرب وأمام عبقرية نموذج العربي الجديد, النخبة الجديدة, والثورة الجديدة, والاستشهادي الجديد. فما نعيشه في هذه الأيام هو عودة العرب للتاريخ بفعل الأصغر سنا والأكثر فعلا.

إنها أعظم أيام العرب. ما أروع أن يكون الإنسان حيا هذه الأيام, وما أروع أن يكون الإنسان عربيا هذه الأيام. عاد العرب للتاريخ. شكرا يا أبطال تونس الخضراء, وشكرا يا ثوار مصر الأحرار.

المصدر: الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer