الجيش المصري على الحياد بين الضحية والجلاد
عندما بدأت الاحتجاجات في 25/1/2010 كان الرئيس المصري مبارك على قناعة بأنه سيجهضها، خصوصا أن واشنطن كانت قد أعلنت في البداية أنها "تقف على الحياد ولا تنحاز لأي طرف". وعندما أزداد حجم المتظاهرين وأصبحوا حشودا انسحب أفراد جهازي الشرطة والمخابرات من الشارع، والأرجح أن مبارك هو الذي أمر بسحبهم درءا لاستفزاز المتظاهرين، ولمنع التصعيد، لأنه يعرف مدى كراهية المواطنين لهذين الجهازين. وحتى بعد اشتداد حدة التظاهرات واتساعها، لم ييأس مبارك، وظل أمل البقاء في الرئاسة يراود ذهنه، اعتمادا على الجيش، هذه المرة. بدافع تحقيق هذا الهدف، أمر مبارك القوات المسلحة بالنزول للشارع، واختار عمر سليمان نائبا له، وكلف عسكريا آخرا هو أحمد شفيق لتشكيل حكومة ظنها ستكون قادرة على المواجهة، وتعينه على تحقيق هدفه. ومنذ توليهما لمنصبيهما راح سليمان وشفيق يبذلان ما في وسعهما لبقاء مبارك في منصبه. فقد أكد الاثنان، وبعد مرور عشرة أيام من بدء التظاهرات، رفضهما فكرة الرحيل الفوري لمبارك باعتبارها " لا تتفق مع التقاليد المصرية". وحتى قبل يومين من تنحي مبارك قال سليمان خلال لقائه رؤوساء تحرير الصحف المصرية أن :" كلمة الرحيل التي يرددها بعض المتظاهرين هي ضد أخلاق المصريين التي تحترم كبيرها ورئيسها كما أنها مهينة ليس للرئيس فقط وإنما للشعب المصري كله"، وأكد أن "مبارك احد أبطال حرب أكتوبر والمؤسسة العسكرية حريصة على أبطال أكتوبر ولا يمكن أن ننسى تاريخنا أو نضيعه". سليمان كان يعني بكلمة (تاريخنا)، تاريخ المؤسسة العسكرية نفسها، وليس تاريخ (الشعب) المصري. وتعبير " لا يمكن أن ننسى تاريخنا أو نضيعه" يعني تاريخ المؤسسة العسكرية. سليمان كان يتحدث، في واقع الأمر، باسم المؤسسة العسكرية، وليس باسم الشعب، وقطعا ليس باسم الشباب الذين رابطوا في ميدان التحرير.
من الواضح أن ما كان يحدث في مصر هو حرب حقيقية بين عدوين، الأول مدجج بكل أنواع الأسلحة، يمثله الرئيس مبارك والنظام السياسي الذي يجسده، والثاني أعزل، يمثله الشباب الثائرون ومعهم غالبية الشعب. مبارك يصر على البقاء، والثائرون يرددون (أرحل) و (نريد إسقاط النظام). الجيش كان الجهة الوحيدة القادرة على حسم المعركة لصالح أحد الطرفين. لكن الجيش ظل يقول أنه يقف على الحياد.
والسؤال هو: لماذا لم يتدخل الجيش ويحسم الأمر، منذ الأيام الأولى، لصالح الشعب ؟ لماذا ظل، حتى قبل لحظات من تنحي مبارك، يقف داخل المنطقة الرمادية ؟ وقوف الجيش على الحياد بين الجلاد وبين الضحية، أي بين الرئيس ونظامه، وبين المتظاهرين كان يعني، عمليا، الوقوف مع النظام القائم، أي مع مبارك، ومساعدته على التقاط أنفاسه، أملا في قلب المعادلة لصالحه، أو على الأقل إيجاد مخرج مشرف لمبارك، وللنظام السياسي الذي يقوده مبارك. وبالفعل، عندما رأت المؤسسة العسكرية أخيرا أن لا فائدة من الانتظار فأنها أقدمت على فك ارتباطها بالرئيس، لكنها فعلت ذلك بطريقة أريد لها أن تحفظ ماء وجه الرئيس. فقد أعلن رسميا، أن الرئيس مبارك (كلف) المجلس الأعلى للقوات المسلحة (بإدارة شؤون البلاد.) وهذا يعني تحقيق هدفين في غاية الخطورة، أولهما أن مبارك لم يطرد طردا من الحكم، والثاني، لا وجود قطيعة بين عهدين، إنما هناك استمرارية. وهكذا، فأن المؤسسة العسكرية ودعت الرئيس بما يليق به، كأب، أو كأبن بار بها، إذ أثنى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على مبارك "لتفضيله المصلحة العليا للوطن"، في وقت يعرف كل المصريين أن مبارك، طوال فترة الأزمة، لم يفضل المصلحة العليا، وإنما مصلحته الشخصية، فبينما كانت البلاد بأكملها تواجه مصيرا مجهولا والحريق يشب في كل مكان، ظل مبارك يصر على عدم التنحي. وما يزال مبارك حتى هذه اللحظة يواصل أيامه في منتجع شرم الشيخ معززا مكرما، تحت حراسة ورعاية المؤسسة العسكرية، وربما ما يزال يقدم نصائحه وإرشاداته للقيادة العسكرية التي تحكم الآن.
ما من حاكم كرمته الثورة التي خلعته ما خلا مبارك
نخطأ إذا فسرنا تعامل المؤسسة العسكرية مع مبارك بهذه الطريقة التبجيلية، هي أمور شكلية لا قيمة لها، أو أنها تمت بدافع أخلاقي، تماشيا مع أخلاق المصريين التي "تحترم كبيرها ورئيسها" كما قال رجل المخابرات السابق، عمر سليمان. إنه تعامل مدروس بدقة، هدفه كسر هيبة المطالبين بالتغيير، وتحدي مطالبهم، وقطع الطريق أمام التحولات الكبرى التي يطالب بها جيل الشباب، ويريدون لها أن تكون (جذرية). المؤسسة العسكرية تريد لمبارك، كأبن لها، وقبل ذلك، كرمز للنظام القديم، أن يبقى بعيدا عن (البهدلة) أي بعيدا عن المحاسبة الشعبية والقانونية. إنه لقرار عادل أن يحال إلى القضاء وزير الداخلية السابق حبيب العادلي. لكن لماذا العادلي وحده، أو معه (أنفار) من رجال العهد القديم ؟ ماذا، إذن، عن بقية الوزراء ؟ ولماذا يحال الوزراء إلى القضاء بينما ما يزال رئيس الجمهورية مبارك وأفراد أسرته يعيشون معززين مكرمين ؟ أيهم الأحرى أن يقدم للقضاء، رئيس الجمهورية الذي كان يصدر الأوامر، أم الوزراء الذي ينفذون أوامره ؟ ولماذا يتم التحفظ القضائي على السياسي ورجل الأعمال أحمد عز، ويترك جمال مبارك طليقا ؟ نعرف أن الأول كان مسؤولا متنفذا في الحزب الحاكم، لكن الثاني كان، أيضا، مسؤولا متنفذا في الحزب نفسه، بل كان يتصرف وكأنه الرجل الثاني في الدولة. وعلينا أن نعرف أنه ليس رأس النظام القديم (مبارك) وحده الذي ما يزال يعيش معززا ولم يمس بأي أذى، إنما معه كل البنى التحتية التي شيد عليها النظام القديم: المؤسسات التعليمية، المؤسسات الإعلامية، الجهاز الإداري، أجهزة المخابرات، الجهاز القضائي، السلك الدبلوماسي، الدستور القديم، حالة الطوارئ، رفض المجلس العسكري لأي تظاهرات مطلبية ... الخ. باختصار، لم تدشن مصر بعد عهدا ديمقراطيا جديدا، بل هي ما تزال تعيش قيم وفلسفة العهد القديم.
القوات المسلحة المصرية حارسة العهد القديم
لم يعرف عن الجيش المصري، شأنه شأن كل الجيوش العربية، ولعا استثنائيا بالديمقراطية، لا كنظام سياسي أساسه التداول السلمي للسلطة، ولا كممارسة حياتية يومية. ومنذ زمن طويل أي منذ عام 1952 ظلت المؤسسة العسكرية المصرية تشعر بالفخر والزهو وبالاطمئنان، أيضا، لأن النظام السياسي ظل يقوده ثلاثة من أبنائها العسكريين. في بداية الزلزال الأخير الذي شهدته مصر، ومن ثم مطالبة الثائرين بطرد الرئيس مبارك وإسقاط النظام، دب الذعر داخل أوساط المؤسسة العسكرية، وخصوصا قياداتها العليا، وأيقنت أنها ستواجه حال يتم وإذلال واغتراب أو ما تسميه (فوضى)، بعد ستين عام من (النظام)، أي التحكم في مقادير البلاد. الزلزال السياسي المصري وضع المجتمع المدني والمؤسسة العسكرية كليهما أمام مفترق طرق. المجتمع المدني كان يعرف أي طريق يسلك (التغيير)، لكن بالنسبة للمؤسسة العسكرية، كانت الأمور تتجه نحو المجهول. فالذي حدث في مصر ليس انقلابا عسكريا تقوده وتنفذه، كما في السابق، المؤسسة العسكرية. الذي حدث هو ثورة مدنية من ألفها إلى يائها، ليس للعسكر أي فضل بحدوثها. والأدهى والأمر (بالنسبة للمؤسسة العسكرية)، وما يثر حساسيتها أكثر، أن هذه الثورة يقودها وينفذها جيل مصري شاب (جديد) ، له رؤيا جديدة تتقاطع مع ما تراه المؤسسة العسكرية، ليس في السياسة فحسب، وإنما في ميادين الحياة كلها. ذهنية المؤسسة العسكرية المحافظة، التقليدية، الانضباطية والتراتبية، بالإضافة إلى علاقاتها المتشابكة والعميقة مع أصحاب القرار في الغرب، وخصوصا أميركا، تجعلها أكثر قربا من الفئات المحافظة داخل المجتمع، والقوى السياسية المصرية التقليدية. ولو خيرت المؤسسة العسكرية، على سبيل المثال، بين القوى الإسلامية (المنضبطة)، بما في ذلك الأخوان المسلمين، وبين الحركات الشبابية الراديكالية التي أسقطت نظام مبارك، ستجد نفسها أكثر قربا من الفئات الأولى.
بلطجية جدد
في 18/01 أو ما سمي (يوم جمعة النصر) حضر الداعية الإسلامي يوسف القرضاوي في ميدان التحرير (عرين الثائرين المطالبين بالديمقراطية والحريات والتجديد) وألقى خطبة بثها التلفزيون المصري، حيا فيها المؤسسة العسكرية المصرية ووصفها بأنها (درع الوطن والشعب)، وأثنى على المستشار طارق البشري رئيس لحنة إعادة الدستور، والمقرب من الأخوان المسلمين. وعندما أراد الناشط الشاب وائل غنيم ألقاء كلمة فأن مرافقين للقرضاوي منعوه من اعتلاء المنصة الرئيسية في الميدان.
هذا الفعل الذي نفذه أنصار القرضاوي لا يختلف عن ما كان يفعله بلطجية النظام القديم ضد الشباب المصري الذين كانوا يتواجدون في ميدان التحرير. بلطجية النظام القديم كانوا يريدون كسر شوكة الشباب، والبلطجية الجدد يريدون إقصاء الشباب عن الواجهة والحلول محلهم وسرقة ثورتهم. القرضاوي كما يعرف الجميع، ليس مجرد فرد مصري، شأنه شأن ملايين المصريين. القرضاوي داعية، أولا، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ثانيا، ومقربا من جماعة الأخوان المسلمين، ثالثا. بهذه العناوين عاد القرضاوي إلى مصر، وبهذه العناوين حضر إلى ميدان التحرير، وبهذه العناوين أعتلى منصة الخطابة وألقى خطبته. وليس غريبا أن تنقل الصحف ووكالات الأنباء بأن حضور القرضاوي ترافق مع (الحضور الكبير للإسلاميين ليس فقط عندما أحاطوا بالداعية القرضاوي، ولكن أيضا داخل الميدان، إذ بدت كتل "الأخوان المسلمين" و"السلفيين" و"الجماعة الإسلامية" واضحة وسط مئات الآلاف من المصريين). وليس مستغربا أن يتذكر القرضاوي الآن، والآن فقط، أن في مصر أقباط، فقال (كنت أخطب من قبل وأقول أيها المسلمون، أما الآن فأقول أيها المصريون مسلمين وأقباط.) مرة أخرى، لماذا (الآن) ؟ لأن "الأخوان المسلمين، والسلفيين، والجماعة الإسلامية" الذين أحاطوا بالقرضاوي في ميدان التحرير يدركون أن ليس في مصلحتهم (الآن) أن يرفعوا شعاراتهم الحقيقية، ويظهروا قبضتهم الحديدية، بل هم بحاجة إلى قفاز مخملي قرضاووي يطمئن الجميع. إنهم يعرفون حساسية الشباب المصري الثائر إزاء الشعارات الإسلامية (أوقف منظمو الحشد، في اللحظة نفسها الذي كان يخطب فيها القرضاوي، هتافات إسلامية) ، مثلما يعرفون حساسية الغرب، والولايات المتحدة خصوصا، إزاء سيطرة القوى الإسلامية المصرية.
المعركة لم تنتهي وإنما بدأت
كل ما قلناه توا لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن القوى الشبابية المصرية التي بادرت، ورابطت، ونجحت في أحدثت التغيير، عليها أن تخوض معركة ضد قوى الإسلام السياسي، أو تصادر حق هذه القوى في النشاط، لأن ذلك ضد حرية التعبير للجميع، ولأنه يدخل البلاد في مرحلة احتقان جديدة. القوى الإسلامية المصرية موجودة على الأرض ولها جماهيرها، ولها شعبيتها، ولكن هذه الشعبية يجب أن تحدد حجمها صناديق الانتخابات، وليس استخدام العنف، ولا الأمنيات، ولا التعويل على ميزان القوى السابق. فالتحولات الأخيرة التي شهدتها تونس ومصر تثبت، في آن واحد، فشل الديكتاتوريات المدنية، وأيضا انهيار الركائز الأساسية التي يقف عليها الإسلام السياسي: رفض العنف كوسيلة وحيدة للتغيير، التأكيد على مبدأ الحريات، والديمقراطية التي تعتبرها القوى الإسلامية رجسا من عمل الشيطان، الحاكمية للشعب، التأكيد على مبدأ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس والدين، التأكيد على البعد الوطني المحلي، أي الاهتمام بمشاكل الشعب، وليس الأمة أو النضال الكوني العابر للقارات، الانفتاح على تجارب شعوب العالم والتفاعل معها، على أساس المحتوى الإنساني لهذه التجارب، وليس استنادا على المعيار الديني الذي يقسم الشعوب إلى كفار وغير كفار. تحت هذه العناوين سيخاض الصراع في مصر، ودفاعا عن هذه الأهداف يجب أن تستميت قوى التغيير الديمقراطية المصرية، وتستمر في تظاهراتها الأسبوعية في ميدان التحرير، لتسد الطريق على كل القوى التي تسعى لقطف الثمار، ولكي تجبر المؤسسة العسكرية على أحداث تغيرات جذرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات