بقلم: محمد المخزنجي
3 فبراير 2011 01:12:56 م بتوقيت القاهرة
ما أن أنهى الرئيس خطابه مساء الثلاثاء الماضى، حتى طفت على السطح ظاهرتان كانتا مختبئتين أو متواريتين طوال أسبوع ثورة الرفض الذى عاشته مصر كلها، وبأغلبية كاسحة لا يمارى فيها إلا مُخادع أو كذوب.الظاهرة الأولى فى أعقاب الخطاب كانت الاستقبال السخى لبرامج الهواء التلفزيونية لهجوم نوبات من المكالمات عصبية الخطاب هستيرية البكاء، تعلن تأثرها بخطاب الرئيس وتأييدها له، وهذا لا بأس به، وهو حق إنسانى بغض النظر عن دوافعه الواعية وغير الواعية. أما الذى كان به كل البأس والبؤس، فهو ترافق هذه المكالمات العصبية كلها، والمتهدجة بالبكاء لدى النساء، بإدانات قاسية وجائرة لمن مارسوا حقهم السلمى فى ثورة الرفض لتراكمات الاستبداد والفساد فى مصر، وكادت هذه المكالمات أن تخوِّن وتُجرِّم وتُسفِّل كل الرافضين، ناهيك عن نبرة التحريض عليهم، سواء بقصد أم بغير قصد.
واتصالا بهذه الظاهرة توقيتا ومعنى، طفت الظاهرة الثانية، التى تمثَّلت فى خروج قطعان من البلطجية تتحرش بالمتظاهرين المطالبين بالتنحى بأساليب البلطجة التى خبرتها مصر جيدا فى تزوير الانتخابات وفض الاعتصامات بالشوم والأسلحة البيضاء، وتصاعدت عدة استغاثات من الإسكندرية وبورسعيد على سبيل المثال المرصود، وقد منعت قوات الجيش المصرى مجموعات من هؤلاء المتحرشين من الدخول إلى ميدان التحرير لمنع الاحتكاك بمتظاهرى الرفض.
الظاهرة الأولى، فى شقها هستيرى البكاء، يمكن تحليلها كلحظة نكوص نفسى قياسا على تحليل الشخصية الهستيرية لدى النساء خصوصا، والظاهرة الثانية لا تبتعد عنها كثيرا بمفهوم النمو النفسى الناقص فى سيكلوجية العصابة، فالبلطجى شخصية جانحة تعوض شعورها بالضعة والنقص بسلوكيات عدوانية يعززها الانتماء إلى عصابة ما، وكلا الظاهرتين تنتميان ليس للنقص أو النكوص النفسى فقط، بل إلى الكذب، حيث الاكتفاء بنصف الحقيقة عمدا هو كذب حتما، كذب لا يعيق الطرطشة العاطفية فى انهمار المكالمات العصبية والباكية، وكذب يبرر عدوانية البلطجة كذلك، هذا على اعتبار أن طفو الظاهرتين فى وقت واحد فى أعقاب الخطاب، كان انفعالا صادقا بمحتوى الخطاب والتعاطف مع الرئيس، وهذا موضع شك وريبة، لو أخذنا فى الاعتبار انتهازية الباحثين عن فرص بدت لهم ضائعة ثم لاحت دانية مع الإعلان عن بقاء الرئيس وبقاء كل دوائر النفوذ من حوله.
ظاهرة البلطجة لا يمكن مناقشتها ومراجعتها بشكل عقلى، فهى توشك أن تكون عيبا نفسيا تكوينيا استغله شياطين من لم يسأموا المصلحة فى التزوير والنهب ولن يسأموا ما لم تكن هناك محاسبة فى كل ما مضى وعن كل ما هو واقع وآت، لكن الذى يمكن وينبغى مناقشته عقليا هو هذه الطرطشة العاطفية التى عكستها عصبية المكالمات وهستيرية بكاء المتصلات تأثرا بخطاب عدم التنحى، وسأفترض صدق تأثرهم وتأثرهن بحديث الرئيس الإنسانى عن نفسه كإنسان حارب دفاعا عن وطنه وأفنى عمره فى خدمة مواطنيه ويصر أن يموت على أرضه، وهو أمر مؤثر حتى بالنسبة لى كمعترض ومختلف فى الرأى ومُطالِب بالتنحية. لكن الوقوف عند معلومات ما ورد فى الخطاب وتلقيات المنفعلين به هى حقيقة منقوصة، فبقية الحقيقة كافية لمراجعة انهمار الدموع وإخجال طرطشات العواطف، ومنها:
هناك أكثر من مائة وخمسين ضحية وخمسمائة مفقود يُرجَّح أن معظمهم إما مقتول أو محبوس، وجريرتهم جميعا كانت خروجهم السلمى للإعلان عن رأى هو حق إنسانى ودستورى وقانونى وأخلاقى بتغيير من يحكمهم، فجوبهوا بمصفحات صماء وعمياء راحت تجوس فى جموعهم وتدهس الكثيرين بشهادة الآلاف وبما سجلته وأذاعته تليفزيونات العالم عن بعض ما حدث فى يوم جمعة الغضب الدامى، ناهيك عن الرصاص المطاطى والحى وضربات الهراوات القاتلة على الرءوس والغازات الخانقة للصدور، ألا يستحق هؤلاء الضحايا بعض دموع الهستيريات وقليلا من طرطشات عواطف المنفعلين بالخطاب؟
هناك جريمة كبرى فى تخريب مؤسسة عظيمة ونبيلة الأساس، هى الشرطة، بنتها مصر بكد السنين لتحفظ أمن أهلها، فاختطفها قرار سياسى أكثر من خاطئ وحولها إلى أداة لردع المخالفين له ووسيلة لمجابهة أخطاء السياسات الفاشلة وتعطيل تنفيذ الأحكام الصادرة ضد مجرمين وفاسدين قريبين من دوائر النفوذ وحراسات شخصية لجيش من محاسيب السلطة وأنسالها ومنتسبيها، إضافة لما خُلقت له الشرطة من مجابهة الجريمة والمجرمين الجنائيين، وكان ذلك ظلما فادحا للشرطة، وضغطا غير إنسانى على إنسانية ضباطها وأفرادها، فنشأت علاقة مشوهة بين الناس وجهاز الشرطة، وكانت الطامة الكبرى فى جمعة الغضب السلمى التى صدرت فيها أوامر سياسية للضباط والجنود بمواجهة حشودها الشابة بالدهس والهرس والرصاص، ثم صدرت لها الأوامر بالاختفاء الأمنى من حياة الأمة، فكانت الفوضى المنكورة وحرائق الملثمين لأقسام الشرطة وإطلاق نزلاء السجون ومداهمات البلطجية للمحال والبيوت والناس. ألا يستحق هذا مراجعة تكبح هستيرية الدموع؟
الرئيس مبارك كإنسان من حقه محبة المحبين وعواطف المتعاطفين معه، لكنه كرئيس مسئول ليس فقط عن مجد الإنجازات التى تمت فى عهده، لكن أيضا عن الإخفاقات والتجاوزات التى تراكمت فى عقود حكمه، فثمة مفاسد هائلة وراء عمليات الخصخصة ونهب أراضى الدولة واستباحة حقوق الأجيال القادمة لصالح تجار الغاز لإسرائيل بأبخس الأسعار وقتل الأراضى الزراعية والمستصلحة باستثمارات مافيا بيزنس البناء الذين لم يكونوا بعيدين أبدا عن دوائر الحكم، ناهيك عن الشذوذات السياسية التى كانت فاقعة فى تخويل شلة صبيانية فارغة ونهمة للسلطة بما لا تستحقه، فداست شلة الصبيان هذه بأقدامها على رءوس مصر كلها، مما شكّل إهانة مستمرة وشبه يومية لكل المصريين، وهو ما يفسر شمول ثورة الرفض الفقراء وغير الفقراء، فقد كانوا جميعا طالبى حرية وكرامة قبل كل شىء. ألا يستحق هذا نظرة تهدئ من اندفاع طرطشة العواطف؟
فى دروس الحياة يوجد من الحب الصادق ما يقتل، فما بالنا بالحب الكاذب الذى لا صدق فيه، ولا أعنى هنا حب هستيريات البكاء ولا عصبيى المكالمات، فهؤلاء لا يَقتُلون، وإن كان تجاوزهم فى التعبير عن حبهم إلى تجريم الرافضين سليما إنما يسهل التحرش بهؤلاء المسالمين بل حتى قتلهم.
لا أتحدث عن حب الهستيرات ولا عصبيى المكالمات، لكننى أتحدث عن الحب الكذوب لأصحاب المصالح فى مواقع سياسية وإعلامية لا يستحقونها ومواطئ نفوذ تدر عليهم الكثير من المنافع الحرام، فهؤلاء وأولئك ليسوا فسدة فقط، بل مفسدون، وسيغالون فى إظهار حبهم الكاذب للرئيس، وتحريضه للانتقام من خصومهم قبل خصومه، فهل تكون شهور بقاء الرئيس فى السلطة هى فرصة لكل هذه الشرور وكل هؤلاء الأشرار، وألا يستحق ذلك كبح فورة هستيريا الدموع؟
لقد كنت أحب الرئيس مبارك فى أولى سنوات حكمه التى كان واعدا فيها بأمل بازغ وربما صادق، ولقد مضى على ذلك سنوات عديدة أكثر مما يحتمله جوهر أى إنسان فى السلطة، ولا أعرف إذا كان جوهر الرئيس قد تغيّر أم لا. لكننى أعرف أن الأمور ساءت إلى درجة تجعل كل من يحب الرئيس أو الإنسان فى الرئيس بصدق، أن يوصيه بسرعة التخلى عن السلطة ومجافاة أصحاب الحب الكذوب والتحريضات الشريرة من أصحاب المنافع والوسوسات. فحينها سيكون الانفعال الإنسانى أصدق وأعمق من الطرطشات، ودموع الوداع أبرأ من كل زيف. دموع بلا هستيريا، ومحبون بلا مطاوى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات