الأقسام الرئيسية

المادة الثانية من الدستور المصري الدائم (دستور 1971) والعلاقة الملتبسة بين الدين والدولة

. . ليست هناك تعليقات:


أثبت تاريخ الدولة الإسلامية في أزهي عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكما يثبت تاريخ الخلافة العثمانية، وكذلك تاريخ إيران في عالمنا المعاصر، هي أن الأيديولوجيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعي-الاقتصادي إلى عامل من عوامله، أي إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات.

ميدل ايست أونلاين


بقلم: خليل كلفت


1: يخلو دستور 1882 المصري من ذكر "الإسلام"، وقد أورده دستور 1923 إذْ نصت المادة 149 على أن "الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية"، وتكرر هذا النص ذاته في دستور 1954 (المادة 195)، وأضاف الدستور الدائم (1971) إلى نفس النص ما جعله: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" (المادة 2)، وتكرر النص الجديد كما هو عند تعديل الدستور في 2007 (المادة 2)؛ [ولا حظوا هذا الاضطراب في الصياغة الذي يحشر "اللغة" بين عبارتين تخصان "الإسلام"، ومن الجلي أن واضعي الدستور الدائم (1971) وقعوا في هذه الركاكة إذْ وجدوا في دستور 1923 ودستور 1954 نصًّا على الإسلام واللغة في نفس المادة الدستورية فأضافوا إليه نصا إسلاميا جديدا دون تقديم وتأخير كما كان ينبغي!]. كما جاء ذكر الإسلام في سياق النص على عضوية "رجال الفقه الإسلامي" في تشكيل "المحكمة العليا الدستورية" بالإضافة إلى انتخاب القضاء العالي العادي والإداري و"الشرعي" لثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (مادة 187)، ولم يتكرر مثل هذا النص في الدستور المصري بعد ذلك. على أن المادة 11 من كل من الدستور الدائم (1971) وتعديله في عام 2007 نص على ما يلي: "تكفل الدولة التوفيق بين واجبات المرأة نحو الأسرة وعملها في المجتمع، ومساواتها بالرجل في ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية".

2: كذلك تورد دساتير مصر ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام فينص دستور 1923 على ما يلي: "المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين" (مادة 3). وينص دستور 1954 على ما يلي: "المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الآراء السياسية أو الاجتماعية" (مادة 3)، مؤكدا مبدأ المساواة بمزيد من القوة. ويعود دستور 1971 وتعديله في 2007 إلى صيغة دستور 1923 تقريبا في هذا المعني فينصان على ما يلي: "المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة" (مادة 40). ويرد "الدين" في سياق اعتباره قوام الأسرة بصيغة: "الأسرة أساس المجتمع وقوامها الدين والأخلاق والوطنية" (مادة 48 من دستور 1954، ومادة 9 من كل من دستور 1971 وتعديله). وينفرد دستور 1971 وتعديله بالتأكيد على "مراعاة المستوى الرفيع للتربية الدينية" (مادة 12 من كل منهما)، كما ينفردان بالتأكيد على أن "التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما). كما أنهما ينصان على أنه "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (مادة 46 من كل منهما). وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم بالنص التالي: "ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أي مرجعية أو أساس ديني‏،‏ أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل" ( في المادة 5 وهو مضاف إلى مادة 5 من الدستور الدائم).

3: وإذا كانت الجمهورية الديمقراطية هي الخيار الأفضل لمصر فإنها ينبغي أن تكون جمهورية پرلمانية وليست رئاسية. وتقوم الجمهورية الپرلمانية على دستور ديمقراطي حقا وعلى تعددية حقيقية. ولا يكفي لكي تكون الجمهورية پرلمانية أن يوجد پرلمان بلا أحزاب أو بأحزاب ديكورية، مثل مجالس الأمة والشعب والشورى ضمن نظام الحزب الواحد بمعنى الحزب الواحد الوحيد، أو الحزب الواحد المموَّه بأحزاب متعاونة، في صورة الاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني الديمقراطي، هذه الأحزاب التي تنتمي إلى نظام الحزب الواحد، وإنْ كان الأخيران (الاتحاد الاشتراكي في مرحلته الأخيرة والحزب الوطني إلى الآن) قد تجمَّلا بمنابر أو أحزاب متعاونة، كما شهد تاريخنا القريب في عهود عبدالناصر والسادات ومبارك. كما ينبغي أن تكون مثل هذه الجمهورية مدنية لا عسكرية، وكذلك أن تكون جمهورية علمانية وليس جمهورية دينية. ولا تعني العلمانية بحال من الأحوال الزندقة أو الإلحاد أو معاداة الأديان بل تعني على وجه الحصر في إطار مثل هذا التنظيم الدستوري العام لدولة ما الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة. ويوجد تناقض حقيقي بين المادة الأولى في الدستور التي تنص على قيام الدولة "على أساس المواطنة" والمادة الثانية التي تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" والمادة الثالثة التي تنص على أن الشعب هو "مصدر السلطات". فكيف تتسق "المواطنة" مع جعل الإسلام "دين الدولة"؟ وكيف يتسق اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات مع اعتبار "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"؟ والحقيقة أن الحديث عن دين باعتباره دينًا للدولة لا يعني إعلاءً لشأنه بل يعني إدانة مباشرة له. فالدين في جانب منه حامل للفضائل والمثل العليا على حين أن الدولة أداة للطغيان والاستغلال طوال التاريخ. كذلك فإن صيغة "دولة الدين" بمعنى الدولة التي تطمح إلى أن تقوم وفقا لمقتضيات تلك الفضائل والمثل العليا لا تنقذ الجمع بين الدين والدولة من نفس التناقض الصارخ إذْ لا تصلح الدولة أداة لفضائل الأديان أو الفلسفات أو الوثنيات. والحقيقة أن الصيغتين تعنيان معنى واحدا إذا فهمنا "دين الدولة" ليس بمعنى "دين السلطان" أو "دين الملوك" بل بمعنى الدين الذي تلتزم به الدولة. والواقع التاريخي هو أن كل طموح لإقامة دولة الدين في جميع الثقافات طوال التاريخ تمخضت عن توظيف الدين ورجاله في خدمة الدولة والطبقة الحاكمة والظلم والاستغلال. وينبغي أن يكون واضحا أن صيغة "دين الدولة" أو صيغة "دولة الدين" مرفوضة حتى في بلد يعتنق "كل" مواطنيه دينا واحدا وليس فقط في بلد توجد فيه ديانات متعددة. ذلك أن الحكم بالقانون الإلهي أو الشريعة الدينية، أي شريعة دينية، ينطوي على مغالطتين كبيرتين: تتمثل المغالطة الأولى في أن القانون الإلهي أو المقدَّس، سواء بتقديس السياسة أو تسييس المقدَّس، لا يضيفان سوى تعقيد - لا تفرضه أي ضرورة حقيقية - على ممارسة سياسية واقتصادية واجتماعية معيارها الحاسم أو الوحيد معيار اجتماعي-اقتصادي (إقطاعي أو رأسمالي أو اشتراكي؛ إلخ.) والمصالح المرتبطة به بعيدا عن المعايير القانونية-الدينية. وتتمثل المغالطة الثانية في أن البشر هم الذين يحكمون باسم القانون الإلهي أو المقدَّس أو الشريعة، محكومين بالمعيار الاجتماعي-الاقتصادي الذي لا فكاك منه ولكنْ مسلَّحين بالطابع المقدَّس الذي يضفونه على ممارساتهم وقراراتهم البشرية بصورة مطلقة وبهذا يضيفون إلى نظامهم جبروتا مستمَدًّا من المقدَّس لا يملكه أي حكم بشري باسم البشر والإنسان. ولا يعني هذا أن المعيار الاجتماعي-الاقتصادي "البشري" مفصول بسور صيني عظيم عن كل ما ينتمي إلى الأخلاق أو الفضائل أو اليوتوپيات غير أنه يحتفظ لها بمكانة ثانوية أو خيرية محدودة إلا إذا كانت الدولة قد زالت في مجتمع بلا طبقات صارت الفضائل فيه مندمجة تماما في المبدأ أو المعيار الذي يقوم عليه المجتمع ذاته بحكم طبيعته ذاتها.

4: وتترتب على صيغة أن "الإسلام دين الدولة" صيغة "ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" (مادة 2 من دستور السادات وتعديلات مبارك)، والصيغتان كل لا يتجزأ، كما يقال. ومن الغريب أن معارضي صيغة "المصدر الرئيسي للتشريع" يتغاضون في أكثر الأحيان عن صيغة "دين الدولة" التي تعني في هذا السياق أن الإسلام هو الدين الذي تعتنقه الدولة وتلتزم به فمن المنطقي تماما إذن أن تلتزم هذه الدولة بأن تكون مبادئ شريعة هذا الدين أي "مبادئ الشريعة الإسلامية" هي "المصدر الرئيسي للتشريع" (أو حتى المصدر الوحيد أو المطلق!). كما يترتب على هاتين الصيغتين المترابطتين موقف الدستور المصري (مادة 11 من دستور السادات وتعديلات مبارك) من المرأة حيث "تكفل الدولة التوفيق بين" واجباتها نحو أسرتها وعملها في المجتمع" وكذلك من حيث مساواتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالرجل "دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية". وبهذا تصير الشريعة الإسلامية المعيار الديني للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والشخصية وغيرها بما في ذلك دور المرأة في البيت والمجتمع وكذلك "حدود" مساواتها بالرجل في كل ميادين الحياة. وهكذا يجري الزعم بأن تنظيم مختلف نواحي الحياة الخاصة والعامة سيكون على أساس معيار الدين أو الإسلام أو الشريعة، بعيدا عن المعيار الفعلي الوحيد الذي سوف يسود بحكم الضرورة الاجتماعية-الاقتصادية في ظل مثل هذا الدستور مهما كانت الطبقة أو الفئة أو النخبة التي سوف تحكم على أساسه، فلا تضيف هذه المادة الدستورية بالتالي سوى إضفاء طابع سماوي على نظام أرضي يتجبر أكثر بهذا الطابع محمِّلا الدين أوزاره، تماما كما أثبت التاريخ في كل مكان وكما أثبت الحكم على أساس هذه الدساتير وموادها الدينية أو الإسلامية أو المقدسة في ظل العهود والأنظمة والحكومات التي تعاقبت على مصر منذ دستور 1923! أما نص دستور 1954 على عضوية "رجال الفقه الإسلامي" في "المحكمة العليا الدستورية"، بالإضافة إلى مشاركة القضاء "الشرعي" في انتخاب ثلاثة من القضاة التسعة الذين تتألف منهم المحكمة المذكورة (مادة 187)، فيكفي – وحمدًا لله - أن مثل هذا النص لم يتكرر في الدستور المصري بعد ذلك.

5: أما ذكر "الدين" غير مقترن بالإسلام في الدساتير المصرية فيأتي في سياق مساواتي إيجابي أحيانا: المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس "الدين" و"العقيدة" بين أشياء أخري مع تذبذبات في مجالات عدم التمييز حيث لم يذكر دستور 1923 "العقيدة" وانفرد دستور 1954 بإضافة "الآراء السياسية أو الاجتماعية" إلى هذه المجالات. على أن الممارسات الفعلية ومبادئ دعاة تطبيق الشريعة تتفق على استبعاد غير المسلم والمرأة من مناصب بعينها أهمها رئاسة الدولة، وهو ما يعني إخراج المساواة وعدم التمييز من الباب وإعادتهما من الشباك (أو على الأصح من باب آخر أوسع كثيرا)! ويضاف إلى السياق الإيجابي أيضا أنْ "تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية" (مادة 46 من كل من دستوري السادات ومبارك). غير أن الدين يأتي أيضا في سياقات أخرى باعتباره ضمن أشياء أخري "قوام" الأسرة (دساتير ما بعد حركة 1952)، وتأكيد دستور 1971 وتعديله على "مراعاة المستوي الرفيع للتربية الدينية" (مادة 12 من كل منهما)، وكذلك على أن "التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام" (المادة 19 من كل منهما)، وهما تأكيدان لا يتفقان مع مبدأ فصل الدين عن الدولة فالتربية الدينية ليست مهمة الدولة بل مهمة المؤسسات الدينية التي تقوم علاقاتها مع الدولة على الانفصال والاستقلال المتبادل، وينطبق نفس الشيء على دور التربية الدينية في التعليم العام حيث ينبغي أن تقوم المؤسسات الدينية بهذا الدور بعيدا عن الدولة.

6: وتنفرد المادة 5 من تعديل 2007 للدستور الدائم (وهي مضافة إلى مادة 5 من ذلك الدستور) بمجموعة من القيود المتمايزة المرتبطة بالدين وأمور أخرى حيث تنص على أنه "لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أي مرجعية أو أساس ديني‏،‏ أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل". ويعني هذا أن الحظر هنا يشمل أي "نشاط سياسي" وأي "أحزاب سياسية" للنساء فقط أو للرجال فقط وهذا مبدأ في غاية الغرابة ويعني مثلا ضمن ما يعني حظر تظاهر نسائي فقط أو رجالي فقط مثلا باعتباره نشاطا سياسيا يقوم "على التفرقة بسبب الجنس". ويشمل الحظر أن يكون ذلك بسبب الاختلاف في الأصل (تُرَى ما المقصود بالأصل هنا، وهل هو الأصل العائلي أم العِرْقي أم الجغرافي؟!). ويأتي الحظر قبل كل شيء على أي نشاط سياسي أو حزب سياسي "علي أي مرجعية أو أساس ديني"، (والمقصود بالطبع جماعة الإخوان المسلمين). وهذه مشكلة معقدة بالفعل، ولأسباب عديدة: أولا من حيث المبدأ حيث يناضل الحزب السياسي-الديني في سبيل إقامة "دين الدولة" أو "دولة الدين"، وثانيا لأن قيام أحزاب سياسية على أساس ديني أو مرجعية دينية بصورة صريحة أو مموَّهة، في مجتمع ثنائي الدين، من شأنه تأجيج الطائفية على خلفية تنامي روح الطائفية والتمييز على أساس الدين بفعل فاعل يتمثل في دستور تمييزي وممارسات اضطهادية وتخلف حضاري وثقافي مريع ومروِّع، وثالثا لأن غياب الحريات الديمقراطية في العهود التالية لحركة 1952 خلق حالة تتميز بتحجر أي حركة دينية أو أي حزب سياسي على مجموعة من التصورات والتوجهات والأيديولوجيات السياسية الأصولية التي قد تتغنى بالديمقراطية في فترة ما قبل الوصول إلى سلطة الدولة رغم الاستعداد المتواصل للعصف بها عند الاستيلاء عليها، ورابعا لأن جماعة الإخوان المسلمين كانت المستفيد شبه الوحيد من هامش الديمقراطية في عهدي السادات ومبارك من خلال مناورات وصفقات بحكم تزايد قوتها، ولأن أي انتخابات نزيهة يمكن أن تأتي إلى السلطة بهذه الجماعة منفردة أو ضمن تحالف أو ائتلاف بقيادتها، مما يشكل خطرا على أي تطور ديمقراطي محتمل للبلاد. وقد أثبتت الجماعة قوتها السياسية أثناء ثورة 25 يناير 2011 بتقويتها للثورة وزيادة قوتها من خلال دورها فيها رغم ابتعادها عن المشاركة فيها في أيامها الأولي، وهرولتها إلى التفاوض مع نظام مبارك بعد سقوط رأسه واستعدادها لعقد صفقات معه، لتعمل على ركوب موجتها وسرقتها بحكم قوتها الأصلية والمستجدة مع أنها وقفت عاجزة قبل الثورة إزاء تزوير الانتخابات وإزاء تعرُّضها للاعتقالات وحملات التشويه والافتراء وغير ذلك.

7: ولعلنا نستطرد هنا قليلا لنقف على بعض خصائص الأيديولوجيات الدينية السياسية. وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التي هي أساس هذا الحل، لأنها الطريق إلى سلطة الدولة. ولكن هل تستطيع الأيديولوجيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية في سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسي أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هي ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقي في الإطار الديني الدعوي أم هي ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية في الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، متى توفرت الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوجيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال في ثورة الإمام الخميني في إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعي الواحد في نهاية المطاف (كما هو حال ثورة 25 يناير المصرية التي يصعب الآن أي تنبؤ بما إذا كانت ستقود إلى ثورة اجتماعية بالمعنى الصحيح)؟ وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسة. فالأديان في جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة في حياة البشر، وهي بطبيعة الحال الفضائل التي بلورتها التجربة البشرية في مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها في الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل في سلوكهم في الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التي تنطوي عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية في الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهي نفس الفضائل البشرية التي انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التي تنعكس فيها مستويات التقدم التقني والاجتماعي والفكري للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادي والأيديولوجي والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التي تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا لتلك الفضائل والأخلاق الدينية والوضعية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التي لا شك في أنها تنطوي على مبادئ وفضائل لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هي بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر. وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، في جانب من جوانبها، فضائل كبري في السلوك في كل مناحي حياتنا، في معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هي علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشري بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أي توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من بعض جوانبه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟! وإذا كانت السياسة هي العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هي الأداة التي تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمي مصالح الطبقة الحاكمة وهي بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالي فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها في ذلك القمع المنهجي، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوجية للدولة. والحقيقة أن استيلاء الأيديولوجيا السياسية الدينية على الدولة في بلد من البلدان إنما يعني أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أي أنْ تسلك الأيديولوجيا الدينية كدولة في يد الطبقة الحاكمة، تحمي مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولي على الدولة ليس الدين في سماواته بل البشر على الأرض، المنتمون إلى طبقات ومصالح، والطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالح طبقية رغم المشاعر والرغبات والتصورات التي تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التي تتبنَّي هذه الأيديولوجيا الدينية السياسية والتي تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض. والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية في أزهي عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكما يثبت تاريخ الخلافة العثمانية، وكذلك تاريخ إيران في عالمنا المعاصر، هي أن الأيديولوجيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعي-الاقتصادي إلى عامل من عوامله، أي إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلي البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أي نتيجة أخري تتمثل في تحرير حياة الإنسان المسلم الذي تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه في سياق علاقات القهر والاستغلال.

8: وينبغي أن نستنتج مما سبق ضرورة تنقية الدستور عند كتابة دستور جديد ديمقراطي حقا، بعد إلغاء دستور 1971 الدائم، بكل تعديلاته السابقة والجارية الآن، من المواد التي تخلط بين الدين والإسلام من جانب والدولة والسياسة من جانب آخر. وعلى هذا الأساس ينبغي حذف النص على الدين وعلي الإسلام في المادة الثانية في الدستور الحالي، من كل دستور لاحق مع حذف كل تطبيقاتها المتمثلة في مواد الدستور الأخرى، على أن تحل محل هذه المواد مواد دستورية أخري تنص على حرية العقيدة الدينية وغير الدينية ضمن الحريات والحقوق الديمقراطية الأخرى، وكفالة ممارستها جميعا، مع إلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer