فلم يتوقع أحد أن يكون الشاب التونسى «محمد بوعزيزى» هو نقطة اشتعال الثورة التونسية، ثورة الأحرار، وليس ثورة الياسمين كما يطلق عليها.. فقد تحمّل الشعب التونسى 23 عاما من الضغط والقهر السياسى.. حصد فى مقابلها مكاسب اقتصادية وتعليمية واجتماعية.. لكن قيمة تلك المكاسب تراجعت فجأة أمام ارتفاع تكلفتها. وكلفتها كانت تحمّل الفساد وتكميم الأفواه و«الذل»، كما وصفه بعض التونسيين.
صادرت الشرطة أو البلدية التونسية عربة بيع الخضار من «بوعزيزى»، خريج الفيزياء العاطل عن العمل، فشعر بالذل وأضرم النار فى نفسه وتداعت الأحداث.. بوعزيزى الآن هو مثل أعلى لكل الغاضبين الرافضين للأوضاع الراهنة.. ليس فى تونس فقط ولكن فى عدد من الدول العربية.. فعلها شاب جزائرى وأشعل فى نفسه النار، وبالأمس الشاب المصرى الذى أضرم النار فى نفسه أمام مجلس الشعب.. الكل يتوقع أن تندلع الثورة فى بلاده بنفس الطريقة.. يتساوى الذل.. والشعور بالمهانة.. لكن التاريخ لا يعيد نفسه ولا يكرر نقاط اشتعاله.
ومع ذلك.. فالأحداث لابد أن تكون درساً قاسياً للكل.. ويجب ألا نخرج لنقول للناس ما حدث فى تونس «لن يحدث عندنا..» فلا أحد يعرف متى يصاب بالمرض. المهم أن نعرف كيف نقى أنفسنا من المرض. علينا أن نقرأ كتب التاريخ ونتعلم من دروس الزمن. فالاستخفاف بالأحداث لا يكشف عن ثقة وصلابة، بل بالعكس يعكس خوفا ورعبا، خاصة إذا كان هناك إدراك أن نواة الأحداث واحدة بين كل تلك الشعوب.
إن أحداث التاريخ نقرؤها ليس للتسلية، نشاهدها الآن على شاشات التلفاز ليس لتضييع الوقت، لكن للتعلم والتدبر.. إن كان هناك متدبرون. لقد سقط أحد أعتى أنظمة المنطقة العربية فى أقل من شهر.. ولم تنفعه قواته، ولا تحصيناته. لم تنفعه أجهزة مخابراته ولم تنفعه ملياراته التى نهبها. سقط فجأة.. أغلب الظن أن الشرخ حدث حين تخلى عنه الجيش فى لحظة فارقة، وقرر الوقوف على الحياد ورفض إطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين.. فيما كانت الشرطة تقوم بذلك بكفاءة. حينها أدرك «بن على» أنه مهما أقسم لشعبه بأنه «يفهمهم» فقد فقدوا هم القدرة على فهمه أو تصديقه.. تلك عبرة من التاريخ.. ففى نقطة ما فاصلة.. تفقد الشعوب قدرتها على الصبر والفهم.
الآن تونس أمام خيارها الصعب.. الآن الشعب التونسى ومعارضوه يرفضون كل الخدع، كل الألاعيب أن يبقى حتى بقايا الحزب الحاكم القديم.. فهؤلاء هم رموز الفساد لديه.. يفزعونهم فى كل مكان بكابوس الفوضى وعودة الإسلاميين.. لكن الشعب التونسى أذكى كثيرا من ذلك.. فقد تمسك بخيار الحرية حتى الآن.. مؤكدا أن خياره لن يعنى الفوضى ولن يهدم البلاد بل يحييها.
يحلم كثيرون بأن تسقط تونس على رأس أهلها كى يكون سيناريو الفوضى ملازما لسيناريو الحرية.. ونحلم نحن بأن تخرج تونس آمنة حرة واثقة.. لكى يعلم الجميع أن خيارات الشعوب هى الأصح. قد لا تتكرر النقاط نفسها بنفس الأحداث.. لكن التاريخ قد يعيد نفسه.. ولكن بأحداث أخرى.. وفى أزمان أخرى.. فهل يتدبّرون؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات