أصل الداء الذى ساعد على قتل النظام، قمعه الشديد لحرية الرأى والتعبير، وتكميمه لكل الأفواه، وسيطرته على كل وسائل الإعلام التى لم تكن تستطيع أن توجه نقدا لحكومته أو تصرفات بطانته. وكانت نتيجة هذه السياسات استمرار الغليان تحت السطح.
بهذه القيود التى كبلت حرية التعبير حرم النظام نفسه من فهم أبعاد ما يجرى تحت السطح، الذى ازدحم بمظاهر الزلفى والنفاق والحرص على ألا يسمع سوى ما يرضيه.. من ثم فإنه فقد جسور التواصل مع أجيال جديدة نهشت البطالة روحها وكرامتها، وكانت تلك الأجيال قوام الغضب العارم الذى اجتاح المدن.
قد يكون صحيحا أن النظام حمى البلاد من أخطار تنظيمات متطرفة عصفت بأمن الجيران. لكن الاستقطاب الحاد الذى عاشته البلاد طيلة السنوات الأخيرة، والاعتماد بالكامل على قوى الأمن فقط، والعداء الشديد لكل رأى مخالف حرم النظام من مساندة قوى عديدة كان يمكن أن تكون جزءا من جبهته فى الحرب على التطرف.
حين يقرأ المرء الفقرات السابقة سيجد أنها تصف الأوضاع فى أقطار عربية عدة. صحيح أن حالة تونس التى تتصدر نشرات الأخبار هى أول ما يخطر على البال، لكن القارئ سيلاحظ أيضا أن تونس لا تنفرد بتلك الصفات، لأنها تنطبق أيضا على أقطار عربية أخرى مغربية ومشرقية. والحق أن الفقرات كتبت فى التعقيب على ما جرى فى تونس، ولا غرابة فى ذلك، حيث لا نكاد نجد فى الحيثيات التى أوردتها أية مفاجأة.
لكن المفاجأة الحقيقية أن تلك الحيثيات تم إيرادها للتدليل على أن ما حدث فى تونس يمثل حالة متفردة خاصة لا تنطبق على غيرها من الدول. والمفاجأة الأخرى أن الذى كتب هذا الكلام زميلنا الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المصريين (الأهرام 17/1/2011). للدقة فإنه لم ينفرد بهذا الخطاب، لأن الصحف القومية تضمنت تعليقات أخرى عبرت عن نفس الموقف، وبذلت جهدا ملحوظا لإقناعنا بأن ما حدث هناك لايمكن أن يتكرر فى مصر، وإن الذين يلمحون إلى احتمال انتقال العدوى إلى مصر يعبرون عن تمنياتهم الخاصة، بحيث إن أملهم ذاك لا يختلف عن عشم إبليس فى الجنة.
لا أعرف إن كان الترويج لفكرة خصوصية وتفرد الحالة التونسية تم تطوعا من جانب بعض كتاب الصحف القومية الذين التقوا عليها «مصادفة»، أم أن ثمة توجيها بذلك، ولكن الذى أعرفه أن هناك فرقا حقا بين الأوضاع فى تونس ونظائرها فى مصر، ولكنه بخلاف ما ادعى زملاؤنا فرق فى الدرجة وليس فى النوع. أعنى أن ثمة أزمة واحدة فى البلدين، ولكن تفاصيلها مختلفة فى كل منهما.
أزمة الحريات وإقصاء الرأى المخالف واحدة، والاعتماد على الأمن واحد. واحتكار السلطة والتفاف المنافقين والمهللين حول القائمين على أمرها مشهود هنا وهناك.
أما الغلاء الذى طحن الناس والبطالة التى أذلتهم ودفعت بعضهم إلى الانتحار، والفساد الضارب أطنابه فى دوائر عدة، ذلك كله يكاد يكون وباء لم يسلم منه كل منهما. ولا أنكر أن ثمة فرقا لابد من الاعتراف به فى درجة تكميم الأفواه ومصادرة الآخرين وقمعهم، وربما كانت هناك فروق مماثلة فى المجالات الأخرى، ولكن تلك الفروق لا تلغى وجود أصل الأمراض. وتظل محصورة فى درجة الإصابة بها، وللعلم فثمة أوضاع فى مصر أسوأ منها فى تونس، أخص بالذكر منها حالة المجتمع المدنى، الذى هو فى تونس أقوى وأصلب عودا منه فى مصر. ونظرة على وضع اتحادات العمال والنقابات المهنية فى البلد تشهد بذلك. إذ هى حاضرة هناك بقوة فى حين أنها غائبة أو مغيبة تماما فى مصر.
رغم أى تشابه يمكن رصده بين البلدين، فالذى لاشك فيه أن أحدا لا يتمنى لمصر أن تواجه ذات المصير الذى واجهته تونس.
لكن التمنى وحده لا يكفى، كما أن دفن الرءوس فى الرمال لا يفيد. وللعلم فإن تجنب ذلك المصير ليس فيه سر ولا سحر، حيث طريق الاستقرار وكسب رضى الناس معروف للكافة. وهذا الطريق لا ينفع إلا من خلال الإصلاح السياسى الحقيقى وليس المزور، ومن خلال الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية وليس غشها أو الالتفاف عليها. والعبر فى هذه الحالة عديدة وماثلة بين أيدينا.
لكن المشكلة تكمن فى كثرة العبر وندرة المعتبرين. إن الذين لا يتعلمون من دروس التاريخ ينبغى ألا يلوموا إلا أنفسهم إذا ما ضاقت بهم الشعوب فانتفضت وألقت بهم فى مزبلة التاريخ.
بهذه القيود التى كبلت حرية التعبير حرم النظام نفسه من فهم أبعاد ما يجرى تحت السطح، الذى ازدحم بمظاهر الزلفى والنفاق والحرص على ألا يسمع سوى ما يرضيه.. من ثم فإنه فقد جسور التواصل مع أجيال جديدة نهشت البطالة روحها وكرامتها، وكانت تلك الأجيال قوام الغضب العارم الذى اجتاح المدن.
قد يكون صحيحا أن النظام حمى البلاد من أخطار تنظيمات متطرفة عصفت بأمن الجيران. لكن الاستقطاب الحاد الذى عاشته البلاد طيلة السنوات الأخيرة، والاعتماد بالكامل على قوى الأمن فقط، والعداء الشديد لكل رأى مخالف حرم النظام من مساندة قوى عديدة كان يمكن أن تكون جزءا من جبهته فى الحرب على التطرف.
حين يقرأ المرء الفقرات السابقة سيجد أنها تصف الأوضاع فى أقطار عربية عدة. صحيح أن حالة تونس التى تتصدر نشرات الأخبار هى أول ما يخطر على البال، لكن القارئ سيلاحظ أيضا أن تونس لا تنفرد بتلك الصفات، لأنها تنطبق أيضا على أقطار عربية أخرى مغربية ومشرقية. والحق أن الفقرات كتبت فى التعقيب على ما جرى فى تونس، ولا غرابة فى ذلك، حيث لا نكاد نجد فى الحيثيات التى أوردتها أية مفاجأة.
لكن المفاجأة الحقيقية أن تلك الحيثيات تم إيرادها للتدليل على أن ما حدث فى تونس يمثل حالة متفردة خاصة لا تنطبق على غيرها من الدول. والمفاجأة الأخرى أن الذى كتب هذا الكلام زميلنا الأستاذ مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين المصريين (الأهرام 17/1/2011). للدقة فإنه لم ينفرد بهذا الخطاب، لأن الصحف القومية تضمنت تعليقات أخرى عبرت عن نفس الموقف، وبذلت جهدا ملحوظا لإقناعنا بأن ما حدث هناك لايمكن أن يتكرر فى مصر، وإن الذين يلمحون إلى احتمال انتقال العدوى إلى مصر يعبرون عن تمنياتهم الخاصة، بحيث إن أملهم ذاك لا يختلف عن عشم إبليس فى الجنة.
لا أعرف إن كان الترويج لفكرة خصوصية وتفرد الحالة التونسية تم تطوعا من جانب بعض كتاب الصحف القومية الذين التقوا عليها «مصادفة»، أم أن ثمة توجيها بذلك، ولكن الذى أعرفه أن هناك فرقا حقا بين الأوضاع فى تونس ونظائرها فى مصر، ولكنه بخلاف ما ادعى زملاؤنا فرق فى الدرجة وليس فى النوع. أعنى أن ثمة أزمة واحدة فى البلدين، ولكن تفاصيلها مختلفة فى كل منهما.
أزمة الحريات وإقصاء الرأى المخالف واحدة، والاعتماد على الأمن واحد. واحتكار السلطة والتفاف المنافقين والمهللين حول القائمين على أمرها مشهود هنا وهناك.
أما الغلاء الذى طحن الناس والبطالة التى أذلتهم ودفعت بعضهم إلى الانتحار، والفساد الضارب أطنابه فى دوائر عدة، ذلك كله يكاد يكون وباء لم يسلم منه كل منهما. ولا أنكر أن ثمة فرقا لابد من الاعتراف به فى درجة تكميم الأفواه ومصادرة الآخرين وقمعهم، وربما كانت هناك فروق مماثلة فى المجالات الأخرى، ولكن تلك الفروق لا تلغى وجود أصل الأمراض. وتظل محصورة فى درجة الإصابة بها، وللعلم فثمة أوضاع فى مصر أسوأ منها فى تونس، أخص بالذكر منها حالة المجتمع المدنى، الذى هو فى تونس أقوى وأصلب عودا منه فى مصر. ونظرة على وضع اتحادات العمال والنقابات المهنية فى البلد تشهد بذلك. إذ هى حاضرة هناك بقوة فى حين أنها غائبة أو مغيبة تماما فى مصر.
رغم أى تشابه يمكن رصده بين البلدين، فالذى لاشك فيه أن أحدا لا يتمنى لمصر أن تواجه ذات المصير الذى واجهته تونس.
لكن التمنى وحده لا يكفى، كما أن دفن الرءوس فى الرمال لا يفيد. وللعلم فإن تجنب ذلك المصير ليس فيه سر ولا سحر، حيث طريق الاستقرار وكسب رضى الناس معروف للكافة. وهذا الطريق لا ينفع إلا من خلال الإصلاح السياسى الحقيقى وليس المزور، ومن خلال الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية وليس غشها أو الالتفاف عليها. والعبر فى هذه الحالة عديدة وماثلة بين أيدينا.
لكن المشكلة تكمن فى كثرة العبر وندرة المعتبرين. إن الذين لا يتعلمون من دروس التاريخ ينبغى ألا يلوموا إلا أنفسهم إذا ما ضاقت بهم الشعوب فانتفضت وألقت بهم فى مزبلة التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات