الأقسام الرئيسية

العواطف لا تنتصر

. . ليست هناك تعليقات:

الكاتب

Sun, 02/01/2011 - 08:00

رغم اختلافنا فى الخلفيات وفى الرؤى، يبدو أننا جميعاً، حكومة وشعباً، مسلمين ومسيحيين، مستريحون لفكرة أن القاعدة تقف وراء عملية كنيسة القديسين. ودون مصادرة هذه الفكرة ينبغى علينا أن نتذكر أولاً أن الخوف من المجهول يدفعنا أحياناً إلى الاحتماء بما قد يكون أكثر جهلاً، كما أن الرغبة فى مقاومة الخضوع لمعطيات اللحظة تدفعنا فى معظم الأحيان دون أن ندرى إلى التضحية باللحظات المقبلة.

ولا بأس من ذلك أحياناً، فلدى نقطة مبكرة كهذه لا يستطيع محقق عادل جاد أن يستبعد أى احتمال. بل إن ثمة أربعة أسباب على الأقل تقفز بهذا الاحتمال إلى صدارة التفكير. فأولاً، لا يُخْفِى الفكر السلفى المتطرف عداءه الأعمى لـ«النصارى» (من بين جماعات أخرى كالشيعة والمتصوفة)، وهو فكر زاده تطرفاً الخلط بين خضوعنا للهيمنة الغربية بشكل عام وكون هذه مسيحية فى معظمها. وثانياً، إعلان بعض ممن يقولون إنهم ينتمون إلى قاعدة العراق رغبتهم الصريحة، قبل فترة وجيزة، فى استهداف الكنائس المصرية.

وثالثاً، التزايد المطرد فى السنوات القليلة الماضية فى صعوبة تنفيذ عمليات فى بلاد الغرب، أو فى بلاد يحتلها الغرب. وهى حقيقة ربما دفعت البعض إلى البحث عن مسارح جديدة أكثر رخاوة لمواصلة «الجهاد». ورابعاً: الرمزية المقصودة التى تمثلت هذه المرة فى اختيار ساعة الصفر، وهى بصمة من بصمات تنظيم القاعدة الكلاسيكى، تتمثل أحياناً فى الهدف أو فى الطريقة أو فى التزامن أو فى الزمان أو فى أكثر من عنصر مما سلف إن تيسر.

علينا رغم ذلك أن نتذكر جملة من الحقائق المفيدة: أولاها، أن ثمة فارقاً كبيراً بين القاعدة «التنظيم» والقاعدة «الفكرة». فمما لاشك فيه أن «التنظيم» انفرط عقده إلى حد بعيد بعد الحادى عشر من سبتمبر، وظهر ذلك فى تجليات كثيرة لا يتسع المقام لسردها. وقد نتج عن ذلك، فيما نتج، أن سيطرت «الفكرة» على الموقف، وانحدرت عملية اتخاذ القرار من هيكل تنظيمى يشبه هياكل الشركات والمؤسسات الخليجية (حيث رئيس مجلس الإدارة دائماً خليجى، والمدير التنفيذى غالباً مصرى، ونائبه فلسطينى، ومسؤول العلاقات العامة من بلاد الشام، ومسؤول الدعم الفنى من الهند، والمحاسب من باكستان، وعمال النظافة من بنجلاديش والفلبين، وعموم الموظفين من اليمن والسودان وشمال أفريقيا)، إلى خلايا متناثرة لديها من حرية الحركة ما يسمح لها باتخاذ القرارات التنفيذية كيفما رأت فى حدود الأهداف المتفق عليها، إلى أفراد تكاد تقتصر علاقاتهم بالقاعدة «التنظيم» على مجرد الوحى والإلهام فيحددون لأنفسهم أهدافهم ويشرعون فى تنفيذها كما يرون.

بل إن مؤشرات هذا النمط الأخير ظهرت حتى قبل عملية الحادى عشر من سبتمبر فى سياق ما عُرف بمؤامرة الألفية Millennium Plot عندما عبر الجزائرى أحمد رسام الحدود من كندا إلى الولايات المتحدة فى ديسمبر 1999، وقد امتلأت مؤخرة سيارته بمتفجرات قوتها تعادل أربعين ضعف قوة سيارة مفخخة. لم يكلفه أحد بالتحرك لتفجير مطار لوس أنجلوس، ولا كانت القاعدة «التنظيم» تعرف عنه شيئاً، بل إنه اتصل وهو فى طريقه بأحد أصدقائه كى يطلب منه - إن كان لديه إلى ذلك سبيل - أن يسأل الشيخ أسامة بن لادن عما إذا كان يود أن يتبنى تلك العملية.

وثانيتها، وهو ما لا يتفق تماماً مع «فكر» القاعدة، أن هذه هى المرة الأولى التى نسمع فيها عن عملية يقفز فى سياقها اسم «القاعدة»، بينما لا نجد داخل السيارة المفخخة جثة لأخ ابتغى من وراء تفجيرها فى «النصارى» أن يدخل الجنة. ولا يعنى هذا بالضرورة ألا علاقة مباشرة أو غير مباشرة لفكر القاعدة بما حدث، لكنه قد يعنى - إذا صحّ الافتراض - انتشاره بين المحبطين الذين يستلهمون جانباً من ذلك «الفكر» ويهملون جانباً آخر. وسيحمل هذا، فيما يحمل، خبرين: أحدهما سيئ والآخر جيد. فأما السيئ فهو احتمال انتشار الرقعتين الجغرافية والديموجرافية للإرهاب، وأما الجيد فإنه يعود بنا إلى نمط أمنى تحقيقى أكثر «منطقية» على اعتبار أنه لا يوجد أصعب من أن تقف فى وجه إنسان مصمم على الموت.

وثالثتها، أن تجربة الغرب الثرية مع الإرهاب علمتنا أن مدخل مفتش المباحث أكثر جدوى فى حل الألغاز من مدخل مفتش العقائد، وأن رد فعل البريطانيين على تفجيرات السابع من يوليو كان أكثر ذكاء وعقلانية، ومن ثم أكثر فاعلية، من رد فعل الأمريكيين على تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر، وأنه لا وجود للعواطف فى معامل الأدلة الجنائية. وأنك حين تلتزم بهذا تضمن أفضل فرصة للحفاظ على وحدة المجتمع وتمهد الطريق لعزل الإرهابيين. وفى حالتنا هذه، علينا أن نبدأ بالأسئلة الصغيرة، فمن الأسئلة الصغيرة نستطيع أن نصل فى النهاية إلى الأجوبة الكبيرة. وحتى الآن لا يوجد لدينا الحد الأدنى الذى يسمح لنا حتى برفاهية التخمين.

على سبيل المثال: ماذا تقول بيانات قيد السيارة؟ هل هى مسروقة؟ هل دهانها حديث؟ ما حجم المتفجرات؟ ما نوعها؟ هل هى سابقة التجهيز أم أنها مركبة؟ من يستطيع ذلك؟ هل تم تفجيرها عن بعد أم أنها احتوت على مؤقت للانفجار؟ هل يمكن إعداد هذا منزلياً من جانب أحد الهواة أم أن الأمر أكثر تعقيداً؟ هل باعت بعض الصيدليات فى الإسكندرية مواد قابلة للدخول فى صنع قنبلة فى الفترة الأخيرة؟ هل يتذكر بعض الصيادلة ملامح بعض الذين سألوا عن ذلك؟ هل لاتزال توجد بصمات داخل السيارة أو خارجها؟ أو ربما على ورقة التحدى: «البقية تأتى»؟ هل تدل طريقة كتابتها على أى تفاصيل أخرى فنية أو شخصية؟ هل نعرف تماماً متى وصلت السيارة إلى الموقع؟ هل رآها أحد قبل الانفجار؟ هل توجد كاميرات مراقبة؟ هل تدل بقايا السيارة على نوعية البيئة الجغرافية التى أتت منها؟ ... هذه فقط بعض التساؤلات التى ستؤدى الإجابة عليها إلى الإمساك ببعض الخيوط وإلى تلقيننا جميعاً درساً غالياً يختبر ثلاث قيم غالية: إخلاص النية، والمهنية، والنزاهة.

وإلى تلك التساؤلات نضيف مفردتين أخريين من مفردات قاموس مفتش المباحث: الدافع والقدرة. ومن الواضح أن المفردة الأولى تتوفر بقوة فى حالة القاعدة، فى حين أن المفردة الثانية تتوفر فى بعض الأحيان اعتماداً على عوامل كثيرة مختلفة. وفى الوقت نفسه تتوفر هاتان المفردتان فى أطراف أخرى بصورة أكثر وضوحاً وأكثر قوة لا يتسع المقام ولا التفاصيل المتوفرة للتعرض لها الآن.

وقبيل مثول هذا المقال للطبع صدر تصريح عن أحد مصادر وزارة الداخلية «يرجح» أنها عملية انتحارية، وهو تصريح غامض لا يوجد فيه الحد الأدنى من المعلومة بقدر ما يوجد فيه من التكهن القائم على ما يقول إنه «غياب لمركز التفجير». إذ إن هناك فارقاً كبيراً بين عدم التمكن بعد من تحديد مركز الانفجار من ناحية، ونفى أن يكون هناك مركز للانفجار على الإطلاق من ناحية أخرى. نحن إذن إزاء جريمة قتل تفاصيلها لاتزال غامضة، والتكهن بملابساتها قد يضر أكثر مما ينفع، خاصة إذا أتى من مصادر مسؤولة.

وسط شغف بالمجهول واشتعال للعواطف، هذه دعوة لإعمال العقل، فرغم أن من الواضح أن على رؤوسنا جميعاً بطحة فليس عاراً علينا أن تقع فى بيتنا جريمة. العار أن نترك الفاعل الحقيقى يتضاحك علينا من مخبئه.

استقيموا يرحمكم الله.

yosri@yosrifouda.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer