فى خطابه الأخير إلى الشعب التونسى المناضل قال الرئيس التونسى السابق زين الدين بن على «الأحداث الأخيرة أعمال قلة من المناوئين المأجورين الذين يغيظهم نجاح تونس بل يسيئهم ويحير نفوسهم ما تحقق لها من تقدم ونماء». ولم يمض على ذلك أربعة وعشرون ساعة حتى كانت طائرته تجوب الفضاء من أجل هبوط إلى الأرض بعد أن هبط عن كرسى الرئاسة.
ذكرتنى تلك العبارة بعبارة أطلقها الرئيس السابق أنور السادات منذ 34 عاما، فى يناير (أيضا) 1977 حينما وصف الانتفاضة التى وقعت إثر رفع مفاجئ فى أسعار بعض أساسيات الحياة، بأنها انتفاضة حرامية، وكان أدق فى اختيار توصيف القلة التى دعت للتظاهرات بأنهم «شرذمة» يحركها أعداء النظام من الشيوعيين. وقد كان من السهل التراجع عن قرارات رفع الأسعار المتسببة فى الانتفاضة، وهو ما نراه يحدث فى أماكن عديدة من الوطن العربى هذه الأيام، الجزائر وموريتانيا وليبيا فى المغرب، والأردن ومصر فى المشرق.
الاستثناء الوحيد هو السودان، حيث إن هذه القرارات صدرت فى خضم كارثة أكبر، وهى تمزق السودان شر ممزق.
على أن وجه الغرابة فى مقولة زين العابدين هو الإشارة إلى أن المحرضين ساءهم وحير نفوسهم ما حققته تونس فى عهده السعيد من تقدم ونماء. وذكرنى هذا بمقالات عز وشركائه عن الإنجازات الرقمية التى زلزلت أركان التخلف وحققت أخيرا ما وعد السادات بتحقيقه من رخاء فى الثمانينيات. فماذا حققت الدولتان من تنمية فى العقدين الأخيرين اللذين انفرد فيهما زين العابدين بحكم تونس؟ نبدأ بمقياس التنمية البشرية الذى كما نعلم يعبر عنه دليل يضم الدخل للفرد كمقياس للنمو الاقتصادى، وتوقع الحياة كمؤشر لسلامة البدن، والتحصيل العلمى كمؤشر على قدرة الإسهام الفكرى. ووفق تقديرات تقرير البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة عن التنمية البشرية لعام 2010، فإن تونس شغلت الموقع الحادى والثمانين من بين 169 دولة (بعد استبعاد 15 دولة لم تتوافر عنها بيانات، منها خمس دول عربية!!) بدليل للتنمية البشرية (أقصاه الواحد الصحيح) يبلغ 0.683، بينما شغلت مصر الموقع الواحد بعد المائة بدليل يبلغ 0.620 وهو ما وضع تونس بين الدول المرتفعة التنمية البشرية، بينما وقعت مصر ضمن المجموعة متوسطة التنمية البشرية. ولو رجعنا إلى تقرير 1990 لوجدنا أنه من بين 130 دولة جاءت تونس فى الموقع الواحد والسبعين بدليل (مصحح) 0.662، بينما مصر فى الموقع السادس والثمانين بدليل (مصحح) يبلغ 0.575.
أى أن كلتا الدولتين تراجع موقعهما بينما زادت الفجوة بينهما، من 15 رتبة إلى 20. وجاء هذا بعد تغيير فى أداء الدولتين، حيث كان دليل تونس 0.289 مقابل 0.333 لمصر فى 1960، إلى أن انعكس الوضع فى 1975 بسبب تحقيق تونس قفزة كبيرة فى النصف الأول من السبعينيات بينما تباطأ نمو مصر بسبب الحرب وتوابعها.
وتظهر مقارنة مؤشر الدخل أن متوسط دخل الفرد وفق القوة الشرائية فى 1990 كان فى تونس يعادل 172% من مستواه مصر، وتراجعت هذه النسبة فى 2010 إلى 136%. وبينما بلغ معدل نمو الناتج المحلى للفرد 3.2% لمصر، 1.3% لتونس خلال الفترة 1975ــ 1990، تراجع خلال الفترة 1990 ــ 2005 فى مصر إلى 2.8% بمتوسط 3.2% للعقود الثلاثة، بينما تقدم فى تونس إلى 3.3% بمتوسط 2.3%.
غير أن المقارنات بالدول المماثلة لكل من القطرين فى مستوى التنمية البشرية تظهر واقعا لافتا للنظر. فقد كان الدخل التونسى يفوق الدول المناظرة بنسبة 30% فى 1990، والمصرى 35%، فإذا بهاتين النسبتين تقفزان فى 2005 إلى 44%، 50% على التوالى. وبينما كان مؤشر توقع الحياة قريبا من النظراء مع تحسن طفيف عبر الزمن، فإن العنصر الذى عادل التفوق فى الدخل كان هو دليل التعليم. فبينما كان 69% من نظراء تونس فى 1990، و72% فى مصر، فإنه لم يتجاوز 88% لتونس و86% لمصر فى 2005. والواقع أن ظاهرة كون الدولة أغنى من نظرائها وأجهل منهم فى الوقت نفسه، لازمت غالبية الدول العربية مهما كان مستوى الدخل، وهى من أخطر الأمور فى الوطن العربى فى عصر تحتل فيه المعرفة موقع القيادة من عملية التنمية. على أن الأمر يزداد خطورة بالنسبة لمصر نظرا لأن نسبة الأمية فى 2010 تبلغ 34%، مقابل 22% لتونس.
بالمقابل فإن نسبة الذين اجتازوا مرحلة التعليم الثانوى فى 2010 تقتصر على 23% لتونس و36 لمصر. والغريب أن قمة المعلومات اختارت تونس موقعا لمرحلتها الثانية فى 2005 بعد مرحلتها الأولى فى جنيف. وتشغل تونس الموقع 65 بين 130 دولة فى دليل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفق تقرير المعرفة العربى 2009، مقابل 93 لمصر، بينما يأتى ترتيبهما فى اقتصاد المعرفة 72 و83 على التوالى. وتتفوق عليهما عدة دول عربية فى مقدمتها البحرين وقطر والكويت.
وقد أكد تقرير التنمية البشرية 2010 أن الدول المتوسطة والمنخفضة التنمية تعانى من تباين واضح بين النمو الاقتصادى والتنمية البشرية بمكونيها الإنسانيين. وبناء عليه رأى ألا يكتفى بقياس الفقر بمجرد النقص فى الدخل، بل يجب النظر إليه كفقر متعدد الأبعاد، بمعنى الانخفاض الشديد فيما يحصل عليه الفرد فى كل من الأبعاد الثلاثة: مستوى المعيشة والتعليم والصحة. وخلال العقد الأول للألفية كانت نسبة السكان الذين يعيشون فى فقر متعدد الأبعاد فى تونس 2.8% بدرجة حرمان 37%، بينما بلغت لمصر 6.4% بدرجة حرمان 40.4%. وهناك نسبة أخرى معرضة لخطر الوقوع فى هذا الفقر تبلغ 4.9% فى تونس و6.9% فى مصر. والأخطر أن نسب الذين يعيشون أحد أوجه الفقر تبلغ 1% للتعليم، و13% للصحة، و7% لمستوى المعيشة فى تونس، بينما تبلغ هذه النسب فى مصر 18%، 17%، 1% على التوالى. ومع ذلك تظل هذه النسب أفضل منها فى تركيا (15، 16، 7%) حيث يعيش فى فقر متعدد 8.5%، ويتعرض له 19%.
فإذا نظرنا فى أمر التوظيف وجدنا أن نسبته إلى السكان (15-64 سنة) كانت 40.5% فى 1991، فأصبحت 41% فى 2008 فى تونس، مقابل 42.6% ثم 43.2 فى مصر. وقد جاء تقرير التنمية البشرية خاليا من بيانات البطالة للبلدين. على أن نشرة آفاق الاقتصاد العالمى لصندوق النقد الدولى (أكتوبر 2010) تقدر ارتفاع البطالة فى تونس من 12.6% من جملة قوة العمل فى 2008 إلى 13.2% فى 2010 ثم تقدر انخفاضها بمقدار 0.05% بعد ذلك، بينما تقدر ارتفاعها لمصر من 8.1% فى 2008 إلى 9.2% فى 2010 ثم تقدر انخفاضها بمقدار 0.2% سنويا بعد ذلك. والواقع أن هذه التقديرات المستمدة من مصادر رسمية أدنى مما تورده مصادر مستقلة، حيث يقدر أنها تجاوزت الضعف فى تونس وهو ما يفسر حجم الجماهير التى نزلت إلى الشارع.
إن الحديث عما يسمى نموا اقتصاديا، يروج له الصندوق والبنك الدوليان، يتجاهل ما اتفق المشتغلون بالتنمية على اعتباره تنمية بشرية فعلية. وفى البلدين يسود القمع وتغيب الشفافية التى لابد من التزامها فى ظل نظم تتخفى وراء اسم الديمقراطية، وإلا فإن المشاكل تطرح نفسها فى الشارع.
ووداعا زين العابدين وأمثالك.
ذكرتنى تلك العبارة بعبارة أطلقها الرئيس السابق أنور السادات منذ 34 عاما، فى يناير (أيضا) 1977 حينما وصف الانتفاضة التى وقعت إثر رفع مفاجئ فى أسعار بعض أساسيات الحياة، بأنها انتفاضة حرامية، وكان أدق فى اختيار توصيف القلة التى دعت للتظاهرات بأنهم «شرذمة» يحركها أعداء النظام من الشيوعيين. وقد كان من السهل التراجع عن قرارات رفع الأسعار المتسببة فى الانتفاضة، وهو ما نراه يحدث فى أماكن عديدة من الوطن العربى هذه الأيام، الجزائر وموريتانيا وليبيا فى المغرب، والأردن ومصر فى المشرق.
الاستثناء الوحيد هو السودان، حيث إن هذه القرارات صدرت فى خضم كارثة أكبر، وهى تمزق السودان شر ممزق.
على أن وجه الغرابة فى مقولة زين العابدين هو الإشارة إلى أن المحرضين ساءهم وحير نفوسهم ما حققته تونس فى عهده السعيد من تقدم ونماء. وذكرنى هذا بمقالات عز وشركائه عن الإنجازات الرقمية التى زلزلت أركان التخلف وحققت أخيرا ما وعد السادات بتحقيقه من رخاء فى الثمانينيات. فماذا حققت الدولتان من تنمية فى العقدين الأخيرين اللذين انفرد فيهما زين العابدين بحكم تونس؟ نبدأ بمقياس التنمية البشرية الذى كما نعلم يعبر عنه دليل يضم الدخل للفرد كمقياس للنمو الاقتصادى، وتوقع الحياة كمؤشر لسلامة البدن، والتحصيل العلمى كمؤشر على قدرة الإسهام الفكرى. ووفق تقديرات تقرير البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة عن التنمية البشرية لعام 2010، فإن تونس شغلت الموقع الحادى والثمانين من بين 169 دولة (بعد استبعاد 15 دولة لم تتوافر عنها بيانات، منها خمس دول عربية!!) بدليل للتنمية البشرية (أقصاه الواحد الصحيح) يبلغ 0.683، بينما شغلت مصر الموقع الواحد بعد المائة بدليل يبلغ 0.620 وهو ما وضع تونس بين الدول المرتفعة التنمية البشرية، بينما وقعت مصر ضمن المجموعة متوسطة التنمية البشرية. ولو رجعنا إلى تقرير 1990 لوجدنا أنه من بين 130 دولة جاءت تونس فى الموقع الواحد والسبعين بدليل (مصحح) 0.662، بينما مصر فى الموقع السادس والثمانين بدليل (مصحح) يبلغ 0.575.
أى أن كلتا الدولتين تراجع موقعهما بينما زادت الفجوة بينهما، من 15 رتبة إلى 20. وجاء هذا بعد تغيير فى أداء الدولتين، حيث كان دليل تونس 0.289 مقابل 0.333 لمصر فى 1960، إلى أن انعكس الوضع فى 1975 بسبب تحقيق تونس قفزة كبيرة فى النصف الأول من السبعينيات بينما تباطأ نمو مصر بسبب الحرب وتوابعها.
وتظهر مقارنة مؤشر الدخل أن متوسط دخل الفرد وفق القوة الشرائية فى 1990 كان فى تونس يعادل 172% من مستواه مصر، وتراجعت هذه النسبة فى 2010 إلى 136%. وبينما بلغ معدل نمو الناتج المحلى للفرد 3.2% لمصر، 1.3% لتونس خلال الفترة 1975ــ 1990، تراجع خلال الفترة 1990 ــ 2005 فى مصر إلى 2.8% بمتوسط 3.2% للعقود الثلاثة، بينما تقدم فى تونس إلى 3.3% بمتوسط 2.3%.
غير أن المقارنات بالدول المماثلة لكل من القطرين فى مستوى التنمية البشرية تظهر واقعا لافتا للنظر. فقد كان الدخل التونسى يفوق الدول المناظرة بنسبة 30% فى 1990، والمصرى 35%، فإذا بهاتين النسبتين تقفزان فى 2005 إلى 44%، 50% على التوالى. وبينما كان مؤشر توقع الحياة قريبا من النظراء مع تحسن طفيف عبر الزمن، فإن العنصر الذى عادل التفوق فى الدخل كان هو دليل التعليم. فبينما كان 69% من نظراء تونس فى 1990، و72% فى مصر، فإنه لم يتجاوز 88% لتونس و86% لمصر فى 2005. والواقع أن ظاهرة كون الدولة أغنى من نظرائها وأجهل منهم فى الوقت نفسه، لازمت غالبية الدول العربية مهما كان مستوى الدخل، وهى من أخطر الأمور فى الوطن العربى فى عصر تحتل فيه المعرفة موقع القيادة من عملية التنمية. على أن الأمر يزداد خطورة بالنسبة لمصر نظرا لأن نسبة الأمية فى 2010 تبلغ 34%، مقابل 22% لتونس.
بالمقابل فإن نسبة الذين اجتازوا مرحلة التعليم الثانوى فى 2010 تقتصر على 23% لتونس و36 لمصر. والغريب أن قمة المعلومات اختارت تونس موقعا لمرحلتها الثانية فى 2005 بعد مرحلتها الأولى فى جنيف. وتشغل تونس الموقع 65 بين 130 دولة فى دليل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وفق تقرير المعرفة العربى 2009، مقابل 93 لمصر، بينما يأتى ترتيبهما فى اقتصاد المعرفة 72 و83 على التوالى. وتتفوق عليهما عدة دول عربية فى مقدمتها البحرين وقطر والكويت.
وقد أكد تقرير التنمية البشرية 2010 أن الدول المتوسطة والمنخفضة التنمية تعانى من تباين واضح بين النمو الاقتصادى والتنمية البشرية بمكونيها الإنسانيين. وبناء عليه رأى ألا يكتفى بقياس الفقر بمجرد النقص فى الدخل، بل يجب النظر إليه كفقر متعدد الأبعاد، بمعنى الانخفاض الشديد فيما يحصل عليه الفرد فى كل من الأبعاد الثلاثة: مستوى المعيشة والتعليم والصحة. وخلال العقد الأول للألفية كانت نسبة السكان الذين يعيشون فى فقر متعدد الأبعاد فى تونس 2.8% بدرجة حرمان 37%، بينما بلغت لمصر 6.4% بدرجة حرمان 40.4%. وهناك نسبة أخرى معرضة لخطر الوقوع فى هذا الفقر تبلغ 4.9% فى تونس و6.9% فى مصر. والأخطر أن نسب الذين يعيشون أحد أوجه الفقر تبلغ 1% للتعليم، و13% للصحة، و7% لمستوى المعيشة فى تونس، بينما تبلغ هذه النسب فى مصر 18%، 17%، 1% على التوالى. ومع ذلك تظل هذه النسب أفضل منها فى تركيا (15، 16، 7%) حيث يعيش فى فقر متعدد 8.5%، ويتعرض له 19%.
فإذا نظرنا فى أمر التوظيف وجدنا أن نسبته إلى السكان (15-64 سنة) كانت 40.5% فى 1991، فأصبحت 41% فى 2008 فى تونس، مقابل 42.6% ثم 43.2 فى مصر. وقد جاء تقرير التنمية البشرية خاليا من بيانات البطالة للبلدين. على أن نشرة آفاق الاقتصاد العالمى لصندوق النقد الدولى (أكتوبر 2010) تقدر ارتفاع البطالة فى تونس من 12.6% من جملة قوة العمل فى 2008 إلى 13.2% فى 2010 ثم تقدر انخفاضها بمقدار 0.05% بعد ذلك، بينما تقدر ارتفاعها لمصر من 8.1% فى 2008 إلى 9.2% فى 2010 ثم تقدر انخفاضها بمقدار 0.2% سنويا بعد ذلك. والواقع أن هذه التقديرات المستمدة من مصادر رسمية أدنى مما تورده مصادر مستقلة، حيث يقدر أنها تجاوزت الضعف فى تونس وهو ما يفسر حجم الجماهير التى نزلت إلى الشارع.
إن الحديث عما يسمى نموا اقتصاديا، يروج له الصندوق والبنك الدوليان، يتجاهل ما اتفق المشتغلون بالتنمية على اعتباره تنمية بشرية فعلية. وفى البلدين يسود القمع وتغيب الشفافية التى لابد من التزامها فى ظل نظم تتخفى وراء اسم الديمقراطية، وإلا فإن المشاكل تطرح نفسها فى الشارع.
ووداعا زين العابدين وأمثالك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات