الأقسام الرئيسية

مشهد النظام السياسى

. . ليست هناك تعليقات:


بقلم د. حسن نافعة ١٦/ ١/ ٢٠١١

٢- السلطة التشريعية

أوضحنا فى مقال الأسبوع الماضى أن ضعف أحزاب وقوى المعارضة السياسية فى مصر، والذى لا ينكره أحد، لا يعد دليلا على قوة الحزب الحاكم، كما يروج الدكتور عبدالمنعم سعيد، لكنه يعكس خللا جسيما فى النظام السياسى المصرى ككل، ويقوم دليلاً على وجود هذا الخلل. ولأنه خلل من النوع البنيوى الذى يتعذر علاجه بمسكنات أو بإصلاحات جزئية، فقد بات واضحا أن النظام السياسى المصرى بدأ يواجه أزمة لا فكاك منها ولا حل لها، فى تقديرى، إلا بتغيير قواعد اللعبة السياسية نفسها وإقامة نظام سياسى بديل أكثر ديمقراطية وأعلى كفاءة.

وفى سياق تحليلنا لطبيعة الخلل البنيوى فى النظام السياسى المصرى، استعرضنا فى مقال الأسبوع الماضى أوجه ومظاهر الخلل الكامن فى بنية السلطة التنفيذية، والتى يجسدها شخص واحد هو رئيس الدولة، الذى يتمتع بصلاحيات دستورية وقانونية تفوق مثيلاتها فى أعتى النظم ديكتاتورية. واليوم نستكمل هذا التحليل باستعراض أوجه ومظاهر الخلل الكامن فى بنية السلطة التشريعة، والتى يجسدها فى مجلس الشعب فى المقام الأول نظرا لمحدودية الدور الذى يقوم به مجلس الشورى، الذى يصعب اعتباره سلطة تشريعية بالمعنى الحقيقى.

ومن المعروف أن السلطة التشريعية فى أى نظام سياسى محترم، تقوم بمجموعة من الوظائف أهمها الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، من ناحية، وسن التشريعات أو القوانين، من ناحية أخرى، وهى سلطة تمارس من خلال نواب الشعب ولمصلحة الشعب الذى يعد مصدر السلطات. لذا من الطبيعى أن يعتمد أى تقييم موضوعى للسلطة التشريعية على مدى ما تتمتع به من قدرة فعلية على سن القوانين والرقابة على أداء السلطة التنفيذية. ولأن هذه القدرة تتوقف فى نهاية المطاف على مدى ما تتمتع به من استقلالية فى مواجهة السلطة التنفيذية، يحسن بنا أن نتعرف أولا على موقف الدستور المصرى من العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

يقرّ الدستور المصرى بأن الشعب هو السيد وبأنه مصدر السلطات، وهو ما يتضح بجلاء تام من قراءة المادة الثالثة من الدستور، التى تنص على أن «السيادة للشعب وحده وهو مصدر السلطات»، وربما أيضا من قراءة المادة ٦٤ التى تنص على أن «سيادة القانون تشكل أساس الحكم فى الدولة». ومع ذلك فإن الفحص المدقق لمعمار الدستور المصرى ككل يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنه تعمد ترجيح كفة السلطة التنفيذية فى مواجهة السلطة التشريعية بدلا من وضع ضمانات للفصل بين السلطتين وتحقيق التوازن والرقابة المتبادلة بينهما، كما تقضى بذلك الأصول الديمقراطية السليمة.

وتتضح هذه الحقيقة بجلاء تام إذا قمنا بفحص مجموعة من النصوص تخوّل رئيس الدولة، بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية صلاحيات واسعة تمكنه، ضمن أشياء أخرى كثيرة، من: ١- حل مجلس الشعب عند الضرورة (المادة ١٣٦)، أو عند رفض مجلس الشعب برنامج الحكومة للمرة الثانية (المادة ١٣٣). ٢- الحق فى إصدار قرارات لها قوة القانون (المادة ١١٢). ٣- اتخاذ إجراءات استثنائية تسمح له، من الناحية الفعلية، بإيقاف العمل بالدستور ككل (المادة ٧٤).

فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن رئيس الجمهورية يملك منفردا صلاحية تعيين الوزراء، دون اشتراط الحصول على موافقة مجلس الشعب أو عقد جلسات استماع للتعرف على سجلاتهم وقدراتهم، كما يملك تنحيتهم فى أى وقت دون إبداء الأسباب، وإذا علمنا أنه لا يحق لمجلس الشعب مساءلة الرئيس أو طرح الثقة به، لتبين لنا بوضوح مدى ما ذهب إليه الدستور فى ترجيح كفة السلطة التنفيذية (ممثلة فى شخص رئيس الدولة وحده) على حساب السلطة التشريعية.

غير أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فى النصوص بقدر ما تكمن فى الممارسة العملية. فرغم ما يشوب الدستور المصرى من أوجه قصور حالت دون تمكنه من إيجاد آليات تحقق التوازن والرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (على النحو الذى تقضى به الأصول الديمقراطية السليمة)، إلا أنه يضمن فى الوقت نفسه نصوصا أخرى تسمح، فى حال تفعيلها، بتمكين السلطة التشريعية من ممارسة وظيفتى التشريع والرقابة بالقدر الكافى. ففى المجال التشريعى يتمتع مجلس الشعب، نظريا ووفقا لنصوص المواد من ١١٥-١٢٣ من الدستور، بسلطات لا بأس بها فى مجالات عديدة، منها: إقرار الموازنة العامة للدولة، ونقل الاعتمادات من بند إلى آخر فى الميزانية، وفرض الضرائب، وحماية الأموال العامة وتحديد إجراءات صرفها... إلخ.

أما فى مجال الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، ممثلة فى الحكومة وليس فى رئيس الدولة، فيملك مجلس الشعب سلطات تمكنه من مساءلة الحكومة واستجوابها وطرح الثقة بها (المواد من ١٢٤-١٣١). ومع ذلك تشير الممارسة العملية إلى أنه لم يسبق لمجلس الشعب المصرى أن مارس دورا تشريعيا يخرج عن نطاق ما ترغب فيه الحكومة كما لم يسبق له تحدى الحكومة أو إسقاطها فى أى وقت منذ ثورة ١٩٥٢، سواء قبل بداية التجرية التعددية أو بعدها.

فمن المعروف أن جميع مشروعات القوانين تُقترح دائما من جانب الحكومة أو الحزب الحاكم، وأن التعديلات التى يتم إدخالها أثناء مناقشة هذه المشروعات عادة ما تتعلق بالشكل دون المضمون ولا تمس الشرائح الاجتماعية المستفيدة منها أو المستهدفة بها. ولم يحدث قط أن تمكن مجلس الشعب من طرح الثقة أو سحبها من الحكومة أو من وزير فيها، ولم تؤد الاستجوابات التى تمت من جانب المعارضة إلى أى تغيير يذكر فى السياسات، بل إن مجلس الشعب لم يتمكن حتى من اتخاذ أى إجراءات للتحقيق فى المخالفات العديدة المتعلقة بإهدار المال العام والتى كشفتها تقارير الأجهزة الرقابية الرسمية، وفى مقدمتها التقرير السنوى للجهاز المركزى للمحاسبات، أو وسائل الإعلام.

والسؤال: كيف نفسر وجود فجوة كبيرة إلى هذا الحد بين نصوص دستورية تتيح للسلطة التشريعية القدرة على ممارسة صلاحيات تشريعية ورقابية معقولة، وبين الواقع الفعلى أو العملى الذى حال دون تمكين مجلس الشعب من ممارسة أى من الصلاحيات المخولة له بموجب الدستور؟

للإجابة على هذا التساؤل يتعين علينا تذكر حقيقة مهمة وهى أن قدرة السلطة التشريعية على ممارسة دورها الطبيعى، التشريعى والرقابى، مرهونة بتوافر شرطين أساسيين، الأول: إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تتيح الفرصة للشعب لاختيار ممثليه الحقيقيين، والثانى: وجود تعددية حزبية ومجتمعية حقيقية تمكن الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدنى من ممارسة نشاطها الطبيعى على نحو يسمح بتنشيط الحياة السياسية وضخ دماء متجددة فى عروق النظام السياسى، بشقيه الحاكم والمعارض على نحو يحول دون إصابته بالجمود أو بتصلب الشرايين. ويمكن القول دون مبالغة إن هذين الشرطين، وللأسف الشديد، غابا تماما عن واقع الحياة السياسية فى مصر المعاصرة. فجميع الانتخابات التى جرت منذ بدء التعددية الحزبية وحتى الآن، ربما باستثناء انتخابات ١٩٧٦، تم تزويرها بنسب متفاوتة، من ناحية، ولم يسمح الحزب الحاكم مطلقا، من ناحية أخرى، بإطلاق سقف التعددية السياسية.

لا أظن أننى بحاجة هنا للتدليل بوسائل الإثبات العلمية على صحة الادعاء بلجوء النظام إلى تزوير منهجى للانتخابات التشريعية بعد أن تحول التزوير، بسبب التكرار وطول الفترة الزمنية، إلى حقيقة بديهية لا تحتاج إلى إثبات. فعندما يحصل حزب أسسه رئيس الدولة وهو فى السلطة على أكثر من ثلثى مقاعد مجلس الشعب فى جميع الانتخابات التشريعية التى تمت على مدى ثلث قرن، من الطبيعى أن تحوم شكوك قوية حول نزاهة الانتخابات التى تفرز مثل هذه النتائج غير الطبيعية وغير المنطقية، وأن تتحول الشكوك بمرور الوقت إلى يقين. فلم يسبق لأى حزب فى أى نظام تعددى يتمتع بأى قدر من المصداقية أن حصل على نتائج مماثلة فى انتخابات تتوافر فيها أدنى معايير النزاهة أو تقوم على التنافس المتكافئ.

وتعد هذه الحقيقة كاشفة فى حد ذاتها لأمرين على جانب كبير من الأهمية، الأول: وجود قرار ضمنى بالسماح بتزوير الانتخابات بكل الوسائل المتاحة، بما فى ذلك التزوير المباشر، فى حال احتمال تجاوز المعارضة حاجز الخط الأحمر المسموح به وهو ثلث المقاعد النيابية، والثانى: عرقلة التجربة التعددية للحيلولة دون ظهور حزب أو تيار سياسى قوى يمكنه منافسة الحزب الوطنى. لذا يمكن القول ببساطة ووضوح إن الحزب الحاكم أقدم عامدا متعمدا على تزوير الانتخابات وتخريب التجربة التعددية.

حين يضمن رئيس الدولة فى نظام سياسى حصول حزب يقوده بنفسه على أكثر من ثلثى مقاعد البرلمان فى أى انتخابات تشريعية تجرى، يصبح فى وضع يسمح له بالسيطرة المطلقة على الآلة التشريعية. حينئذ من الطبيعى أن تتوه الفواصل تماما بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وأن يتحول الحاكم إلى مشرع، بدلاً من أن يصبح المشرع هو الحاكم، وبذلك يتم إفراغ النصوص الدستورية التى تتحدث عن «السيادة للشعب باعتباره مصدر السلطات» من مضمونها تماما، وتصبح السيادة الفعلية لحاكم يحل فى هذه الحالة محل شعب تتم تنحيته جانبا.

ولا يسعنى فى هذه المناسبة سوى توجيه تحية حارة للشعب التونسى البطل الذى قرر أن يتحرك لإزاحة الطاغية حين أدرك أن الحرية تُنتزع ولا تُمنح، وأن استعادته حقوقه السيادية تتطلب تضحية بدا على استعداد لأن يقدمها بسخاء. وها هو النظام الذى كان يتصور أنه مؤبد ينهار فى لمح البصر ويفر زعيمه هاربا يجر معه أذيال العار والخيبة وتلاحقه اللعنات.

من كان يتصور أن الضوء فى هذا النفق العربى الطويل سينبلج فجأة من هذا البلد الصغير والبعيد نسبيا، وأن ربيع الحرية الحمراء سيدق مبكرا فى شتاء تونس الخضراء كى تلوح للشعوب العربية كلها بارقة أمل بعد طول يأس؟

بقى أن نستكمل هذه السلسلة بحديث عن مظاهر الخلل فى السلطة القضائية، فإلى الأسبوع المقبل بإذن الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer