عبدالله بن بجاد العتيبي
في صخب الثورات تضيع كثير من الحقائق أو يتمّ التشويش عليها حيناً من الدهر على الأقل، وحين تشرئب أعناق الحالمين لسماء الطهر الثوري ويمعنون النظر في فضاء الأحلام الوردية يعمل الفاعلون على الأرض ويتحركون بما اعتادوه من تنظيمات سريّةٍ كانت تعمل أيّام القمع بفعالية فكيف وقد باتت في زمن الحريّة بلا رقيبٍ ولا حسيب!
لم يستطع النظام السابق في مصر بكل عنفوانه وقوته أن يفرّق المتظاهرين في ميدان التحرير، أو يوقفهم عن الخطابات التي يطلقونها من منصتهم الشهيرة التي اقترح البعض الحفاظ عليها لتكون مزاراً سياحياً فيما بعد، ولكنّ شخصاً مثل يوسف القرضاوي استطاع أن يأخذ المنصة من الثوّار بكل سهولةٍ وأن يمنعهم من صعودها بكل يسر، وقد منع حرسه وائل غنيم وهو أحد أهم أسماء شباب الثورة من الصعود على المنصة أو مخاطبة الثوّار، واستطاع القرضاوي القادم من قطر أن يعدّل في مطالب الثورة ما شاء، فهو مثلاً طالب بفتح معبر رفح وهو مطلب لم يرفعه الثوّار المصريون يوماً فقد كانت مطالبهم وطنية خالصةً، والأغرب من هذا أن يستجيب المجلس العسكري لهذا المطلب بعد برهةٍ يسيرةٍ فيفتح المعبر، ومن قبل فهذا المجلس العسكري نفسه قد اختار للجنة الدستورية مجموعةً كلّها ترضي الإخوان، ما أثار قلق بعض القوى السياسية في مصر وعلى رأسها حزب "الوفد"، فهل كان هذا مجرد مصادفةٍ!
من هنا يأتي تحذير بعض العقلاء من داخل مصر من خطر اختطاف الثورة كما كتب سعد الدين إبراهيم محذراً من أن طهرانية الشباب التي تجعلهم أقرب إلى القديسين حيث الإيثار وإنكار الذات "ربما هي التي أغرت البعض من الكهول للقفز على ثورة الشباب، ومحاولة الوصاية عليها أو تأميمها لحسابهم كليةً".
هذا في الخطر "الإخواني" وخطر الإسلام السياسي، وفيه ما يثبت أن "الإخوان المسلمين"، وإن استغلهم النظام السابق كفزّاعةٍ إلا أن هذا لا يلغي أنهم خطر حقيقي على الأرض، فهم لا يريدون أن تهدأ الأمور بسرعةٍ في مصر، قبل أن يعيدوا ترتيب صفوفهم وتجميع قوتهم داخلياً لتصل لمداها الأقصى، ومن ثمّ يعيدون تعزيز قنوات اتصالهم بالقوى الإقليمية المساندة لهم وعلى رأسها إحدى الدول الإقليمية حيث التحالف التاريخي، وقطر حيث الجزيرة قناة "الإخوان المسلمين" الإعلامية الأولى في العالم، وحيث أكبر تجمّع لقيادات الإسلام السياسي من كل البلدان، وهي سياسة معلنة لقطر منذ سنين طويلة.
إن الدول والجماعات المنظّمة لا تتحرك في أزمنة الفوضى وفق الشعارات والأحلام والخيالات، ولكنّها توظّفها جميعاً لخدمة مصالحها، بطريقةٍ منظمةٍ وفاعلةٍ، فالإخوان حين يعلنون أنّهم كحملٍ وديعٍ لا يريدون سلطةً ولا رئاسةً ولا دولةً، فإن هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً هو أنهم متفرّغون للعمل الجادّ والمنظّم على الأرض للسيطرة على المشهد برمّته، وبعض الدول الإقليمية حين تطلق شعارات ضدّ إسرائيل وتوعز لـ"حزب الله" أن يعلن أنه سيحتلّ الجليل في شمال إسرائيل، لا تهدف إلا لأن تعمل على الأرض لتعزيز مكانتها ونفوذها وقوّتها محتميةً بمظلة هذه الشعارات الكبرى.
تمرّ الشعوب العربية بموجةٍ ربما شابهت ما جرى في أوروبا الشرقية أثناء انهيار الاتحاد السوفييتي، ولكنّها لا تطابقها، فالفروق كثيرة فالتاريخ غير التاريخ، والمعطيات غير المعطيات، ولكنّها موجة تستحق التفكير والرصد والقراءة، وسيظلّ كل من يحاول قراءة المشهد يراوح بين النظر للصورة العامة وبين الدخول في تفاصيل كل بلدٍ، وذلك بغرض الخروج برؤيةٍ أكثر واقعيةً وتماسكاً في فهم ما يجري.
سياسة الإدارة الأميركية مضطربةً تجاه ما يجري، فقد كانت باردةً تجاه تونس، وبلغت أوج سخونتها في مصر، ثم عادت لشيء من البرود عندما انتشرت عدوى الجماهير في عددٍ من البلدان العربية، إنّ سياسة إدارة أوباما غارقة في التخبط حتى الآن على الأقل، لكن يمكن الإشارة هنا إلى أنّ أوباما لديه وعي خاص بقيمة الإنترنت والعالم الجديد بوسائله الحديثة، حيث "الفيسبوك "و"التويتر" و"البلاك بيري" و"الآي فون"، وهي وسيلة أوصلته حين أحسن استخدامها لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، لكن ما غاب عنه هو أن العالم ليس أميركا، والإنترنت وشبابه ليسوا العالم كلّه، وربما كان هؤلاء الشباب قادرين على الفعل أكثر من غيرهم، ولكنّهم أقلّ وعياً في هذه اللحظة التاريخية.
تخطئ أميركا حين تعتقد أن المشهد في الشرق الأوسط يجب محاكمته وقياسه وفق المعايير الأميركية والثقافة الغربية عموماً، وكأن التاريخ ليس له دور والتطوّر الطبيعي للشعوب مغيّب، وتخطئ بعض الدول الإقليمية حين تلعب لعبة التأثير على المجتمعات، وكأن هذه المجتمعات والشعوب لا تتطوّر ولا تتغير، وكأن الشعارات كفيلة بتدجينها وحشدها لما تريده تلك الدول، وهي تنطلق من قوميّتها لصنع إمبراطورية جديدةٍ، وهي تستغل في هذا السياق كل ما بيدها من أسلحة قويّة وفعّالةٍ حيث الطائفية، والخبرة في تحريك وإدارة المجاميع البشرية، وكذلك الحلف القوي مع جماعات الإسلام السياسي السُنية التي تقف على رأسها حركة "الإخوان المسلمين" في مصر.
لقد اكتشفت بعض الدول الإقليمية أن قوّة أميركا الضاربة خاصةً فيما يتعلّق بالشرق الأوسط هي قوة جاهلة وحمقاء، وقد جرّبتها وخبرتها في أفغانستان والعراق، وها هي ترى تخبط السياسات الأميركية من تونس لمصر لغيرها من الدول التي انتقلت لها الأحداث، كالبحرين وليبيا واليمن والجزائر وغيرها.
للتاريخ أرواح تتخلّق وقواعد راسخة، ربما كان بعضها بطيء البناء ولكنّه محكم التأثير، وفي حديث التاريخ لا كذب، لقد خاض علماء الاجتماع والسياسة والفلاسفة من قبل ومن بعد في مسألة الوعي بالتاريخ وتلمس قواعد حراكه، فنجحوا في البعض وفشلوا في البعض الآخر، ومما نجحوا فيه أنّه في أعقاب كل ثورةٍ يجب أن تحدث اضطرابات وفوضى –طال وقتها أم قصر- وأنّ الاقتصاد لا بدّ أن يعاني ويخسر ويبقى الخلاف فقط في مدة تلك المعاناة وفي حجم هذه الخسارة، وكما أن "الإخوان" وبعض الدول الإقليمية خطر حقيقي لا مجرّد فزّاعةٍ فإن الفوضى وتضرر الاقتصاد في مصر خطر حقيقي وليس مجرّد فزّاعةٍ. ويبقى الأمل بأن تحظى مصر مع حريّتها الجديدة باستقرارٍ وتنميةٍ وازدهار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات