ولن أسبَّ النظام السابق وقد تحولت مسبته إلى بطولة يتقدم صفوفها اليوم من كانوا خدمًا فى بلاطه، ومن استفادوا منه وساهموا فى دعم بنيانه المغشوش حتى عاش كل هذا العمر.
وعلى كل الشرفاء الذين ساهموا فى تشكيل وعى الشباب على مدى سنوات وشاركوهم اعتصامهم من اليوم الأول أن يمتنعوا عن هذه المندبة التى تعيق التقدم فى ملفات إنشاء الحياة السياسية والاقتصادية الجديدة، ولن نتنازل عن الهدم الكامل والبناء الكامل؛ لأن الزمن تجاوز مفهوم الإصلاح الذى كان ممكنًا منذ سنوات لو ترك النظام السابق فرصة للعقل.
لقد جعلتنا العصابة التى حكمت مصر نشك فى أنفسنا ونكره حرفة الكتابة خوفًا من أن نكون جزءًا من لعبة تبتغى إعطاء المظهر الديمقراطى، وكان هذا الشك مبرراً، لأن كل ما يحقق فيه النائب العام الآن عرفناه وكتبنا ضده ولم يتغير.
والآن سيجعلنا المتحولون نكره الكتابة والقول، لأن ما يتبقى من مساحات السب يضيع فى الجدل العقيم حول الأولويات: الدستور أولاً أم إصلاح الرواتب، إصلاح الرواتب أم ملاحقة الفساد؟ ملاحقة الفساد أم إقرار وضع ضوابط اقتصادية للمستقبل؟
وليعلم المتجادلون أن مصر ليست بيد واحدة؛ فأعز وأغلى ما فى هذا البلد هو خبراته البشرية التى كانت أول ما تعرض للإهدار فى ظل الحكم الذى أسقطته الثورة.
تحقيقات النيابة العامة تمضى فى طريقها بشكل يرضى المصريين، لكن بقايا الرؤوس الكبرى الطليقة تحتاج إلى الإرادة السياسية من المجلس العسكرى. لا أحد فوق هذا البلد، ولا ينبغى حماية أحد، هذا هو نداؤنا.
لجنة الدستور تمضى فى طريق آخر، ولا ينبغى أن يعطل هذا الهدف عملية إصلاح الرواتب فى الدولة، وهو مطلب عاجل آخر.
هناك حكم قضائى ينبغى تنفيذه فورًا، وهذا ليس جنونًا كما تريد المكلمات التليفزيونية أن توهمنا، فالموارد موجودة وهناك خبراء أفراد، أذكر منهم هنا عبدالخالق فاروق وأحمد السيد النجار، ولدى كل منهما دراسة بالأرقام تشرح كيفية تحقيق ذلك.
وبنود التمويل معروفة من تخفيض الدخول الخيالية للمناصب العليا وترشيد إنفاق الدولة فى المكاتب وإلغاء دعم الأغنياء بالموازنة، علمًا بأن الحكومة لن تتحمل سوى موظفيها بينما سيتحمل رجال الأعمال عمالهم وموظفيهم بعد عقود من السخرة.
هذا المطلب مشروع ولا يحتمل التأجيل، سواء فيما يتعلق بتعديل الرواتب أو بإقرار إعانة البطالة.
والإعانة بالمناسبة هى العلاج الأفضل بدلاً من التمادى فى سياسة الترقيع التى استمرت حتى أيام مبارك الأخيرة بفتح باب التقديم لوظائف ستثقل جهاز الدولة والشركات ببطالة جديدة مقنعة تقود إلى مزيد من الخسائر وإلى دعوات جديدة بأن الخصخصة هى الحل، بينما الصراحة والنزاهة السياسية تقتضى أن يظل العاطل عاطلاً وتساعده الدولة لحين حصوله على عمل حقيقى بأجر حقيقى.
من المفترض أن حكم الألف ومائتى جنيه هو مجرد خطوة أولى حتى نصل بإصلاح الرواتب إلى أن تتوازن مع الأسعار.
نحن نأكل بأسعار دول الجوار النفطية وأسعار أوروبا ونعمل برواتب تبلغ واحداً إلى عشرين من رواتب هذه الدول. ولابد أن يكون هذا هو طموح الموظفين والعمال وليس ما ترفعه المظاهرات المتفرقة المتواضعة هنا وهناك.
وإن صح أن فلول العصابة السابقة كانت وراء تحريض العمال على الاعتصامات من أجل الملاليم لإشاعة الفوضى، فإننا بصراحة ووضوح لا يمكن إلا أن نشك فى دوافع تأخير الخطوة الأولى فى إصلاح الرواتب. لماذا لم تتقدم الوزارة حتى الآن بتنفيذ الحكم القضائى احترامًا للقضاء واحترامًا لآدمية.
الركيزة الثانية للإصلاح الاقتصادى تتمثل فى إطلاق طاقات المصريين الاقتصادية لتستوعب جزءاً من البطالة بدلاً من توظيفها، وقد كتبت هنا مرارًا مذهولاً من تعطيل قدرات الأموال الصغيرة، ولم أزل، خصوصًا فى قطاع الزراعة.
كانت العصابة الاقتصادية سعيدة بإذلال الشعب المصرى من خلال التسول عليه (اكفل قرية فقيرة) بينما هناك قرى تختنق بالأموال المحرومة من العمل، لأن ترخيص المعلف يتطلب موافقة عشر وزارات ولأن سعر كيلو العلف يساوى ثلاثة أمثال كيلو القمح. ولا يحتاج تحفيز القطاع الزراعى والصناعى إلا قراراً صغيراً بجعل التراخيص ملزمة بمجرد الإخطار.
كل هذه الإصلاحات عاجلة وممكنة معًا، وينبغى أن تمسك بها قوى الثورة، بدلاً من الغرق فى بحر الكلام شكرًا كان أو ذماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات