الأقسام الرئيسية

هي دي مصر.. يا عم صبحي!

. . ليست هناك تعليقات:


كانت هذه هي مصر، الهلال اللي بجد، مع الصليب اللي بجد، قبل أن تفسد وتصبح العملية 'شو' إعلامي، حب رؤوس، وشوية تصفيق، وكلمتين تلاتة عن وحدة وطنية وشعب واحد، سرعان ما يضيعوا وسط زحمة المرور.

ميدل ايست أونلاين


بقلم: محمد هجرس


جُلَّ ما كان يتمنّاه عم بشري جرجس عبد النور الذي كان يعمل في مدرسة قريتنا، أن ينجح ابنه رشدي في الصف السادس الابتدائي، وكان عندما يجلس مع والدي ـ رحمهما الله ـ في قريتنا الصغيرة، يقسم أغلظ الأيمان بـ"القرآن والإنجيل" أنه سينفذ نذره الذي قطعه على نفسه، والذي يتلخص في أنه "سيمسح وينظف مسجد القرية"!

بالطبع، نجح رشدي، وأوفى عمي بشري ـ كما كنت أناديه ـ بنذره، وكان يرد عندما يتعجب أحد القرويين غير مصدق أن المسيحي الوحيد في قريتنا، ومعه أسرته، يجلس في سرادق العزاء، ويستمع للقرآن بكل أدب واحترام وخشوع، بل كان يتفاخر بأن شقيقه يحفظ القرآن كما يحفظ الإنجيل.

كان يضحك، ويقول: أليس القرآن كلام ربنا؟ ألسنا جميعاً نعبد الله، فما كان من إمام المسجد البسيط أن يجذب عم بشري من قميصه مازحاً: والله يا بشري ما شفت فيك حاجة غير مسلمة إلا اسمك! وعندما ماتت والدته، ذهبت القرية كلها لتعزيه في بلده التي تبعد عنا قرابة المائة كيلو متر.

لم يمهل القدر عمي بشري طويلاً، فمات في حادث سيارة، لتتشح البلدة بالسواد، ولم أر أبي يبكي كما رأيت، عندما عاد من جنازته، لم أستغرب وأنا طفلُ صغير، كيف لمسلم أن يبكي على مسيحي، لم أستغرب بعدها وأنا أكبر قليلاً، كيف أشارك وأنا طالب بكلية الإعلام، مسيحياً السكن في غرفة واحدة، في شارع الصناديلي بالجيزة، وكيف كانت زميلاتنا بالكلية، نادية عزيز، وسهير صليب وغيرهن، أخواتنا، وكيف كان المعيد وقتها عاطف العبد، كريماً معنا مثلما كنا لا نحس أبداً أننا على غير ديانته.

لا زلت حتى الآن، أذكر زميلنا الرائع في جريدة اليوم السعودية، جورج حلوجي، بقامته الطويلة، حينما استقبلني في أول أيام غربتي، وعرض كل ما يمكنه من مال أو توفير مأوى، أو مساعدة، ولا أنسى إصراره ذات يوم في أن يعزمنا على الإفطار في بيته في رمضان، كان يصوم معنا وهو المسيحي، وحتى عندما نقسم عليه أن يشرب سيجارة في الحمام، مراعاة لأنه غير مسلم، كانت الدموع تكاد تقطر من عينيه وهو يقول: "هو انتو شايفيني غيركم والا إيه؟" فاحترمنا إصراره ولم نكررها مرة أخرى.

حتى زميلنا السابق في المساء المصرية، الرسام الفنان مهاب عبدالملاك، كان يأخذنا بسيارته الرمسيس العتيقة في جولة سياحية ـ كما كان يقول ـ كان المسيحي الوحيد بيننا نحن شلة الأنس، لذا كان مكتوباً علينا أن ندفع السيارة كلما صادفت "مطلع" ويكون منتشياً للغاية، عندما نلعن "سنسفيل المرسيدس بتاعته" ويقول: انتو فاكرين إن ركوب العربيات ببلاش.. جاهدوا يا أوباش! فنضحك حتى لا نقدر على "زق" العربية، وعندما جاء له عقد في الإمارات، طار من الفرح وأطلعني على الباسبور وهو يضحك: تصور يا محمد موظف الجوازات كتب اسمي وكأني مسلم، قلت له: إزاي؟ فاقترب بالجواز من عيني ثم أكمل: شوف.. عبد الملاك مكتوبة كأنها عبد الملك، ولأن الموظف يبدو أنه مستعجل، فقد بدت كلمة مسيحي وكأنها مسلم، وضحكنا سوياً.

***

ـ كانت هذه هي مصر، قبل أن ينتفخ فيها التطرف، وقبل أن يتورم فيها انتهازيون ومنتفعون وأفاقون وأفّاكون..

ـ كانت هذه هي مصر، أيام "فراخ الجمعية" وقبل أن ينفتح فيها ملف التوريث، وتزوير الانتخابات، وتحويل اللواء إلى فلاح أو عامل من أجل مقعد في مجلس الشعب!

ـ كانت هذه هي مصر، قبل أن نحتاج إلى عسكري على الكنيسة أو مفتاح على الجامع.

ـ كانت هذه هي مصر، قبل أن يصبح من الضروري، أن يكون ابن الضابط ضابط، وابن دكتور الجامعة "برضو" دكتور في الجامعة، وابن المستشار مستشار، وابن الرئيس رئيس، وابن الشارع.. هو نفسه وعيلته وأحفاده أولاد شوارع!

ـ كانت هذه هي مصر، الهلال اللي بجد، مع الصليب اللي بجد، قبل أن تفسد وتصبح العملية "شو" إعلامي، حب رؤوس، وشوية تصفيق، وكلمتين تلاتة عن وحدة وطنية وشعب واحد، سرعان ما يضيعوا وسط زحمة المرور، وابن البيه اللي بيزعق:"انت ما تعرفش أنا ابن مين" والست الهانم الصغنونة اللي عيد ميلاد كلبها قرّب ومشغولة بالحفلة، بعد ما يدوب تعبت خلال الشهرين اللي فاتوا لغاية أما حصلت "عريس لقطة" لقطتها بوسي!

***

كله دلوقت، بيكتب قصائد شعر في الوحدة الوطنية..

الزفة شغالة، مارشات عسكرية، وقرآن على رأي سي سعيد صالح، حداداً على ضحايا جريمة كنيسة القديسين كما قالوا أو ماري مرقس، التي أعرفها كمستشفى خيري يعالج الفقراء مسلمين ومسيحيين قبل أن يكون كنيسة.

عندما ذهبت لأول مرة قبل أشهر لمستشفى ماري مرقس، كما تشتهر بين جموع الشعب الغلبان، لفت انتباهي وجود الجامع مقابل الكنيسة، تنهدت وقلت: هي دي مصر اللي لسه باقي منها حاجة!

ولما سمعت بالجريمة النكراء، وشفت صورها اللي أرسلتها وكالات الأنباء، لم أستطع الصراخ، لأن أجمل ما في مصر، سيضيع أمامنا، وبأيدي بعضنا، وليس صحيحاً المرّة أن نلقي بأسباب الكارثة على الغير.

صديقي مدير تحرير جريدة "اليوم" مطلق العنزي، قال إنه يعتقد أن وراء الجريمة إسرائيل أو إيران، طبعاً، أنا لا أركن إلى نظرية المؤامرة، ولن أصدم إذا كان منفذ الجريمة مصرياً، لأن من قبل أن يعرض نفسه للموت غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط، هرباً من "أرض الله الضيقة" كما قال مصري قديم للحاكم بأمر الله يوماً، وهو يحاول تهريب "بلاص" من العسل، الذي حرمّه الحاكم، لن يعدم من يهرّب إليه حزاماً ناسفاً أو شحنة متفجرات ينسف بها أهم ما في مصر!

***

رغم كل ذلك، فإن بصيصاً من الضوء يبقى.

ما فعله عم صبحي عبدالحكيم، حارس إحدى العمارات المجاورة للكنيسة، عندما هبّ وهو المسلم، لنجدة الضحايا وهم المسيحيين، يعطينا الأمل في أن تسترد بلدنا عافيتها.

عم صبحي، عندما رأى الجثث، ومنظر السيدات اللواتي تمزقت ملابسهن، وتعرين جراء الجريمة، نزع جلبابه ربما كان الوحيد الذي يملكه، وقطعه، وأخذ يستر به أجساد العرايا، لم يفكر في أن هذه مسيحية أو مسلمة، ولم يفكر أنه وهو يغطيهن أنه في نفس الوقت يتعرى حتى يصبح بملابسه الداخلية!

دمعت عيوني وأنا أقرأ ما فعله هذا المصري البسيط..

دمعت عيوني، وبلدي تستر بلدي..

سترك الله دنيا وآخرة.. يا عم صبحي.

محمد هجرس

كاتب صحفي مصري - جريدة اليوم السعودية

mmhagrass@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer