الأقسام الرئيسية

«المصري اليوم» تحتفل بمئوية أديب الرواية العربية العالمى «نجيب محفوظ» - الحلقة الثانية

. . ليست هناك تعليقات:

Wed, 19/10/2011 - 16:31
نجيب محفوظ ، الأديب المصري العالمي الحائز علي جائزة نوبل في الأدب لعام 1988.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
تصوير حسام دياب
 
المصرى اليوم» تحتفل بمئوية نجيب محفوظ بنشر فصول من أحدث مؤلفات الكاتب الكبير محمد سلماوى عن أديب نوبل الراحل، وهو كتاب يحمل عنوان «فى حضرة نجيب محفوظ». ويضم الكتاب الذى يصدر عن الدار المصرية اللبنانية العديد من الوقائع والتفاصيل التى لم تنشر من قبل حول حياة محفوظ وأعماله الأدبية وآرائه فى السياسة والثقافة، وذلك من واقع ما فى حوزة محمد سلماوى من تسجيلات صوتية ووثائق خطية خاصة

على مدى 12 عاما منذ تعرض أديبنا الأكبر نجيب محفوظ لمحاولة الاغتيال الآثمة فى أكتوبر عام 1994، التى أعجزت يده اليمنى، حتى وفاته فى أغسطس عام 2006، ظللت ألتقى به فى بيته بشكل منتظم كل يوم سبت فى تمام السادسة مساء لأجرى معه الحوار الأسبوعى الذى كان ينشر كل يوم خميس بـ«الأهرام»، والذى طلب «محفوظ» من رئاسة تحرير الجريدة أن أجريه معه بدلاً من مقاله الأسبوعى الذى لم يعد قادراً على كتابته.
ولقد كانت علاقتى بأديبنا الأكبر معروفة فى مصر وفى الخارج، خاصة بعد أن شرفنى باختياره لى لأكون ممثله الشخصى فى احتفالات نوبل عام 1988 وائتمننى على إلقاء خطابه فى هذه المناسبة، لذلك كنت كثيراً ما أتلقى طلبات من بعض الشخصيات العربية والأجنبية لمقابلة أديب مصر الأكبر، الذى أصبحت زيارته جزءاً من برنامج زيارة كبار الضيوف للقاهرة، حيث كانوا يشاهدون الأهرامات وأبوالهول ويزورون نجيب محفوظ.
كان «محفوظ» يرتاح لقيامى بهذه المهمة وكان أصدقاؤه المقربون يعرفون أنه كثيراً ما كان يلقبنى مازحاً بـ«وزير الخارجية»، فإذا قال له أحدهم إن هناك سفيراً أو صحفياً أجنبياً يريد أن يقابله قال لهم: «شوفوا مع وزير الخارجية»!
على أن هذا الوضع كان يسبب لى حرجاً فى بعض الأحيان، فقد قلت له مرة - على سبيل المثال - إن الأمير خالد الفيصل يرغب فى زيارته لاستطلاع رأيه فى شأن مؤسسة للفكر العربى يريد إنشاءها، فقال لى: «إبقى هاته معاك يوم السبت»! قلت: «لكن الأمير لن يبقى فى مصر حتى يوم السبت»، فقال: «يعنى حيقابلنى مع الحرافيش؟!»، فقد كان «محفوظ» يلتقى بقية أيام الأسبوع مع أصدقائه، سواء من كان يطلق عليهم «شلة الحرافيش»، أو غيرهم، فى بعض الأماكن العامة، أما يوم السبت فكان يبقى بالبيت لموعدنا.
كما حدثنى ذات مرة السفير الفرنسى الأسبق باتريك لوكليرك عن أن الحكومة الفرنسية قررت منح «محفوظ» أعلى أوسمة الآداب والفنون فى فرنسا، وقال إن هذا الوسام عادة لا يمنح إلا على أرض فرنسية، فإما أن يسافر «محفوظ» إلى فرنسا - وهم على استعداد لدعوته فى أى وقت - كى يتسلم الوسام من وزير الثقافة هناك، أو أن يقلده السفير الوسام فى السفارة الفرنسية بالقاهرة، وقد أخبرت السفير بأن «محفوظ» لا يهوى السفر، وأنى سأعرض عليه تسلم الوسام فى السفارة، لكنى حين عرضت الأمر على الأستاذ قال لى رده المعتاد وهو أن أحضر السفير معى يوم السبت ليسلمه الوسام فى البيت!
وقد أخذ السفير يفكر ملياً فى الموضوع بعد أن شرحت له الوضع بأكثر الطرق دبلوماسية حتى لا يتصور أن الكاتب المصرى الكبير لا يقدر تكريم الحكومة الفرنسية له، ثم قال: إن نجيب محفوظ شخصية استثنائية، لذا يجب أن نعمل له الاستثناء الواجب ونسلمه الوسام فى بيته.
إن قائمة من «أحضرتهم معى يوم السبت»، حسب طلب الأستاذ رحمه الله، تضم بعض أكبر الشخصيات العالمية والعربية ممن كانوا يسعون للقائه، فمن بينهم كاتبة جنوب أفريقيا الحائزة على جائزة نوبل نادين جورديمر، والكاتب الفرنسى الشهير إريك إيمانويل شميت مؤلف رواية «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» ورئيس وزراء أسبانيا خوسيه ماريا أثنار وغيرهم، بالإضافة لأكبر الشخصيات العربية مثل أحمد زويل ومحمد حسنين هيكل وياسر عرفات.
وبمناسبة الذكرى المائة لميلاد أديبنا الأكبر أقدم هنا ثلاثة من هذه اللقاءات التى ستصدر قريبا فى كتاب بعنوان «فى حضرة نجيب محفوظ» عن الدار المصرية اللبنانية، وهى تفريغ لبعض ما أحتفظ به من شرائط تصل لما يقرب من 500 ساعة سُجلت على مدى 12 عاما.
واللقاءات الثلاثة لستورى آلين من الأكاديمية السويدية التى اختارت «محفوظ» عام 1988 للفوز بجائزة نوبل، واللقاء الثانى للكاتب العالمى الأشهر باولو كويللو، أما اللقاء الثالث فكان مع رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه ماريا أثنار، الذى منحه أرفع الأوسمة فى إسبانيا.
المصداقية التى منحها «محفوظ» لـ«نوبل»
كان ستورى آلين الذى يزور مصر هذه الأيام بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد أديبنا الأكبر هو السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، وهى الجهة التى تختار كل سنة الفائز بجائزة نوبل فى الأدب، والذى تقوم لجنة نوبل بمنحه الجائزة بناء على ترشيحها ودون أن يكون للجنة الحق فى مراجعة ذلك الاختيار، وقد حضر ستورى آلين إلى القاهرة فى خريف عام 1988 لمقابلة أديبنا الأكبر نجيب محفوظ، لإخطاره رسمياً بأنه الفائز بالجائزة فى ذلك العام، ولدعوته إلى السويد لتسلمها فى بداية شهر ديسمبر من ذلك العام.
ولقد اتصل بى ستورى آلين عند وصوله إلى القاهرة، وكنت فى ذلك الوقت وكيل وزارة الثقافة للعلاقات الثقافية الخارجية، وطلب أن يقابل محفوظ فى الموعد الذى يحدده فاتصلت بالأستاذ نجيب محفوظ وتم تحديد موعد للضيف الكبير فى مكتب محفوظ بجريدة «الأهرام»، وقد اصطحبه إليه السفير المصرى فى السويد عبدالرحمن مرعى، الذى حضر خصيصاً إلى القاهرة لهذه المناسبة.
وقد استقبل محفوظ ضيفه بترحاب كبير كعادته، وما إن جلسا فى مكتبه بالدور السادس، دور الخالدين (توفيق الحكيم، د. حسين فوزى، صلاح طاهر، د. بنت الشاطئ، د. لويس عوض) حتى بدأ محفوظ الحديث معرباً عن شكره للأكاديمية السويدية على منحه الجائزة هذا العام، فرد عليه ستورى آلين قائلاً: «بل نحن الذين نشكرك على قبولك الجائزة لأنك بذلك قد صححت وضعاً كان خاطئاً!».
وشرح سكرتير الأكاديمية السويدية أن جائزة نوبل أنشئت منذ ما يقرب من قرن كامل من الزمان، وهى مخصصة للآداب العالمية، وقد فاز بها أدباء من مختلف أنحاء العالم، لكن لم يفز بها حتى الآن أحد من العالم العربى، وقال آلين إن ذلك الوضع غير سليم، فللعرب تاريخ أدبى عريق يرجع إلى عدة قرون مضت، وعدم منح الجائزة لأى أديب عربى طوال عمر الجائزة كان يمكن أن يمس مصداقيتها.
ثم قال سكرتير الأكاديمية السويدية لمحفوظ: «إن قبولك للجائزة هذا العام يؤكد موضوعيتها، ونحن مدينون لك بذلك فالأدب العربى أدب عريق له تاريخ ممتد، وآن الأوان أن يحصل على ما يستحق من تكريم». ثم شرح أن أعضاء لجنة الأدب بالأكاديمية والبالغ عددهم 18 عضواً اتفقوا جميعاً على هذا الاختيار، وأنه باسمهم جميعاً يعرب عن سعادته لقبول محفوظ الجائزة.
فصمت محفوظ قليلاً وهو يومئ برأسه بالموافقة، ثم حول موضوع الحديث سائلاً ضيفه عما يريد أن يشرب، فطلب آلين فنجاناً من القهوة المصرية الأصيلة، ثم قال لمحفوظ: «لقد شهدت يا أستاذ محفوظ تقلبات اجتماعية وسياسية كثيرة وكبيرة خلال حياتك وتمكنت من خلال فنك الروائى العظيم أن ترصد كل تلك التحولات وأن تتفاعل معها، بل أن تستشرف من خلال إنتاجك الأدبى الغزير آفاق المستقبل، أما من الناحية الفنية فإن الفن الروائى العربى أصبح مرادفاً لاسم نجيب محفوظ، فأنت الذى أعطيت الرواية شكلها العربى المميز وأثرت فى أجيال من الروائيين العرب من بعدك، فقد قطعت بأعمالك الأدبية مسافة طويلة من الواقعية النفسية إلى الميتافيزيقية الرمزية مروراً بأساليب وأشكال متعددة عالجت من خلالها موضوعات وجودية كبيرة كالصراع بين العقل والعقيدة والحب كمصدر للقوة والصراع الوجودى للإنسان الأعزل».
وجاء فنجان القهوة فعلق عليه آلين قائلاً إن هذه القهوة ذات «الوش» لا تجدها إلا فى مصر، ثم قال لنجيب محفوظ: «دعنى أسألك يا أستاذ محفوظ سؤالاً يبدو تقليدياً: لماذا تكتب؟» فضحك محفوظ وقال: «لقد أجبت منذ سنوات على هذا السؤال قائلاً: لأن بناتى يطلبن شراء حذاء بكعب عال! لكن الحقيقة هى أننى أجد سعادتى فى الكتابة، فالكتابة بالنسبة لى ليست وظيفة أتكسب منها وإنما هى مهنتى التى أحيا من أجلها، لقد أمضيت أنا ومجموعة من زملائى سنوات نكتب دون أن يلتفت إلينا أحد، ولأن بعض زملائى كانوا ينتظرون أن يأتيهم المال والنجاح فقد تركوا الكتابة حين لم يأت أى منهما، أما أنا فقد كنت أجد سعادتى فى الكتابة ذاتها وليس فيما يمكن أن تأتى به، لذلك ظللت أكتب بلا مقابل لسنوات، وأتمنى أن أستمر فى الكتابة حتى آخر أيامى، فأنا لا أتصور أن أحرم من تلك المتعة التى لا حياة لى بدونها».
فقال آلين: «إنك كثيراً ما تقدم فى أعمالك نظرة ناقدة للحياة من حولك، فهل أنت متشائم؟».
فرد محفوظ: «لو كنت متشائماً ما كتبت، إن عملية الكتابة فى حد ذاتها هى فعل متفائل لأنها تؤكد أن الكاتب يعتقد أن العالم رغم كل ما يمكن أن يكون به من مآس يمكن أن يكون أفضل مما هو عليه».
وكان آلين قد انتهى من الرشفة الأخيرة فى فنجان القهوة فقال لمحفوظ: «أستاذ محفوظ، لقد جئت إليك لأخطرك رسمياً بفوزك بجائزة نوبل فى الأدب لعام 1988 ولأدعوك إلى ستوكهولم لتسلم الجائزة ولإلقاء كلمتك بهذه المناسبة».
فرد محفوظ: «أشكرك على الدعوة ولكن ظروفى للأسف لا تسمح بالسفر»، فقال آلين: «أعرف أنك لا تهوى السفر ونشر أنك تريد أن يتسلم الجائزة السفير المصرى فى السويد، لكن هذا للأسف ضد قوانين الجائزة، فنحن نحرص على التأكيد أن نوبل جائزة شخصية لصاحبها بصرف النظر عن جنسيته أو دينه أو عرقه، وقانون الجائزة لا يسمح بأن تسلم الجائزة لدولة أو لمن يمثلها».
قال محفوظ: «أما عن أننى لا أهوى السفر فهذا كان صحيحاً فى سن الشباب، أما الآن فسنى لا تسمح لى بالسفر»، ثم أضاف مازحاً: «ألم يكن من الأسهل، طالما أنك تفضلت بالحضور إلى القاهرة أن تحضر معك الجائزة؟»
فرد ستورى ألين: «إن جائزة نوبل لا تسلم إلا من يد الملك». فقال محفوظ: «إذن سأختار شخصاً آخر لينوب عنى فى هذه المهمة».
فرد عليه ستورى آلين قائلاً: «إن قانون نوبل ينص على أنه فى حالة تعذر حضور الفائز بالجائزة فإن له أن ينيب أحد أفراد أسرته أو صديقاً له من نفس مهنته».
ثم روى ستورى آلين أن الكاتب الأسترالى الكبير باترك وايت حين فاز بالجائزة عام 1973 وتعذر عليه الحضور أناب صديقه المقرب وكان فناناً تشكيلياً.
فقال محفوظ: «وأنا أنيب صديقى محمد سلماوى».. فقاطعه ستورى آلين قائلاً: «لكن محمد سلماوى يتقلد منصباً رسمياً، فهو وكيل وزارة الثقافة المصرية» فرد محفوظ: «فى الحقيقة إننى اخترته لصفته الأدبية، فهو أديب معروف وكاتب مسرحى مميز ينتمى لجيل تال لى، وقد يكون من المفيد أن نلفت نظر العالم إلى أن الأدب العربى العريق الذى قلت إنه تم تجاهله طويلاً يتواصل من جيل إلى جيل، كما أن محمد سلماوى لديه المميزات المطلوبة فى مثل هذه المناسبات الدولية».
فاستمع ستورى آلين فى صمت إلى أن انتهى محفوظ من حديثه، فقال: «إذن فهو محمد سلماوى» ثم شرح أن الممثل الشخصى للفائز سيكون عليه أن يقرأ خطاب الفائز فى الأكاديمية السويدية العريقة، وأن يلتقى بالملك، الذى جرت التقاليد على أن يلتقى بالفائزين كل على حدة، وأكد سكرتير الأكاديمية السويدية أن الفائز بجائزة الأدب من دون بقية الفائزين فى الفروع الأخرى من الجائزة، هو وحده الذى يلقى كلمة بهذه المناسبة، وقال: «وتلك الكلمات نعتز بها كثيراً فى الأكاديمية السويدية لأنها وثائق أدبية لأكبر أدباء العالم، ونقوم بنشرها فى كتب يعاد طبعها كل سنة»، ثم سأل: «هل ستكون الكلمة بالعربية أم بالإنجليزية؟»، فرد «محفوظ» على الفور: «بالعربية طبعاً»، فقال آلين: «إذن يجب ترجمتها»، فقال «محفوظ»: «سيقوم محمد سلماوى بترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية»، فرد آلين: «عظيم ونحن سنترجمها إلى السويدية، لكن الترجمة بالإنجليزية ستكون إلى جانب الأصل العربى هى الترجمة المعتمدة».
ثم أضاف: «شىء آخر نهتم به فى الأكاديمية السويدية، وهو أنه لا يجوز نشر الكلمة ولا مقاطع منها ولا الإفصاح عن مضمونها قبل أن يتم إلقاؤها فى ستوكهولم»، فقال له «محفوظ»: «لك هذا».
وعندئذ قال ستورى آلين لمحفوظ: «هل أطلب منك أن تكتب لى ورقة موقعة منك تحدد فيها اختيارك لمن يمثلك»، فتعجب محفوظ قليلاً، فرد عليه آلين: «إنها مجرد إجراء روتينى، لكنه لازم»، فأخذ محفوظ ورقة بيضاء من على مكتبه وكتب عليها: «لقد اخترت الأستاذ محمد سلماوى ممثلاً شخصياً لى فى احتفالات نوبل».
وأخذ ستورى آلين الورقة المكتوبة باللغة العربية ثم طواها ووضعها فى جيبه، وقال لمحفوظ: «إن الاحتفال بجائزة نوبل هو أهم مناسبات الأحداث الثقافية فى العالم، وقد كنت أتمنى أن تحضره»، فابتسم محفوظ وهو يقول: «سأتابعه بكل بدقة من منزلى على شاشة التليفزيون»، فرد ستورى آلين: «أرجو ذلك لأننى سأوجه لك كلمة فى الاحتفال ويسعدنى أن تستمع إليها فى لحظتها»، قال له محفوظ: «سأتطلع إلى كلمتك فى الحفل»، فابتسم ستورى آلين وقال: «العالم كله يتطلع إلى كلمتك أنت».
باولو كويللو والبحث عن الكنز
أما الكاتب البرازيلى العالمى باولو كويللو فكان أول ما فعله حين دخل على نجيب محفوظ فى منزله، أن انحنى وقبل يده اليمنى المضمومة إلى صدره، ولما لاحظ أن محفوظ أُخذ قليلاً، اعتذر كويللو بسرعة قائلاً: «أرجو ألا أكون قد آلمتك لكنه كان علىّ أن أقبل تلك اليد التى قدمت لنا بعض أعظم الإبداعات الروائية فى العالم».
قال محفوظ لضيفه: «لا عليك، لا ألم هناك».
بعد المقابلة تحدثنا أنا وباولو كويللو عن ذلك فقلت له: «إنه يضم يده هكذا منذ حادث الاعتداء، فالطعنة التى أصابت رقبته أثرت على يده اليمنى ولم يعد يقوى على استخدامها فأخذ يضمها هكذا».
فقال كويللو: «إنه يضمها إلى صدره وكأنه يحميها فهى اليد المصابة إنها اليد الذهبية التى ليس كمثلها يد».
كنت قد دعوت باولو كويللو كى يلتقى بكتاب مصر فى اتحاد الكتاب فسألنى: هل سيكون نجيب محفوظ هناك؟ قلت: محفوظ لم يعد يخرج كثيراً، وإذا أردت مقابلته سأعرض عليه الأمر وقد نتمكن من زيارته فى منزله.
فرحب «كويللو» بذلك وتهلل وجهه وهو يقول: سأكون محظوظاً أن ألتقى محفوظ على انفراد، وحين عرضت الأمر على محفوظ رحب بذلك، فذهبت إليه مصطحباً الكاتب العالمى الكبير والمهندس إبراهيم المعلم، رئيس اتحاد الناشرين فى ذلك الوقت.
سادت لحظة صمت بين الكاتبين الكبيرين، أخذ محفوظ خلالها يتفحص وجه ضيفه عن قرب ثم قال: لقد أطلقت لحيتك مثلى أنت الآخر؟ فرد عليه كويللو بالتلقائية نفسها: وكما ترى هى بيضاء أيضاً مثل لحيتك، وضحك الرجلان وكأنهما صديقان قديمان لم يلتقيا منذ زمن، فقد كسرت تلك الدعابة الشخصية حاجز الرسمية بين الكاتبين العالميين اللذين احتل كل منهما موقعه على القمة التى لا تتسع إلا للقلة المتميزة.
وصل كل من باولو كويللو ونجيب محفوظ إلى القمة العالمية بطريقته المختلفة عن الآخر، أما محفوظ فقد وصلها عن طريق المحلية المصرية التى حولها بعبقريته الأدبية إلى مادة إنسانية عابرة للقارات، ولكل الثقافات، وأما كويللو فقد وصلها عن الطريق العكسى أى بالتحرر من المحلية والتوجه إلى النزعات الإنسانية الأساسية، خاصة البحث عن الذات التى يرمز إليها فى روايته الشهيرة «الخيميائى» بالكنز الذى يبحث عنه البطل، وقد قاده البحث من ربوع إسبانيا إلى صحراء مصر.
قال «كويللو» لمحفوظ: لقد غزت كتبك نفسى بلا مقاومة، فكلما قرأت أحد أعمالك وجدت فى نفسى استسلاماً كاملاً لها بينما كثيراً ما أجدنى أقاوم بعض الكتب الأخرى التى أقرأها.
فرد عليه «محفوظ» المجاملة قائلاً: وأنت غزوت العالم كله بكتبك وعلى ما يبدو دون مقاومة أيضاً فأعمالك كما علمت تترجم إلى 56 لغة، تزيد مبيعاتها على 60 مليون نسخة إن ذلك يعنى أن القراء يستسلمون لك فى جميع أنحاء العالم.
فقاطعه كويللو قائلاً: «لكنك أنت حصلت على جائزة نوبل أما أنا فلا»، فقال محفوظ فى جدية دون أن يبدو مجاملاً: «إنى أتنبأ بأنك ستحصل على نوبل أيضاً، فجميع مواصفات الجائزة تنطبق عليك فأدبك أولاً أدب إنسانى من الدرجة الأولى يعلى من قيم المحبة والسلام بين البشر وهو ثانياً واسع الانتشار بحيث أثر بلا شك فى وجدان الناس، وهذان شرطان أساسيان من شروط الجائزة».
فقال «كويللو» ضاحكاً: سأنقل رأيك هذا إلى لجنة نوبل باعتباره ترشيحاً رسمياً لى، فوفق قواعد «نوبل» من حق الفائزين بها أن يرشحوا كُتَّاباً آخرين. فقال محفوظ: هذا صحيح وأنا كان يصلنى كل عام خطاب من لجنة نوبل، يسألنى إذا كنت أريد ترشيح أحد للجائزة، لكننى لم أفعل وبعد بضع سنوات يبدو أنهم يئسوا منى فامتنعوا عن إرسال خطاب الترشيح هذا.
فسأله كويللو: ولماذا لم تكن ترشح أحداً؟ قال: لأننى أعتقد أن مثل هذه الجائزة يجب ألا تخضع للمزاج الشخصى، لذلك أفضل أن تقوم بذلك الهيئات العامة حتى يكون ترشيحها مصحوباً بالأسانيد النقدية التى تبرره.
وشغلنى سؤال وأنا أستمع إلى حديث الكاتبين العالميين فسألت كويللو: لقد قلت لى إنك قرأت جميع أعمال محفوظ التى ترجمت إلى لغتك البرتغالية، فما هى فى رأيك السمة المشتركة بينكما؟ قال إننا نسعى لبناء الجسور بين الناس من خلال الاهتمام بالبشر قبل الأفكار أو العقائد أو الأيديولوجيات، فأنا مثلاً أهم شىء عندى فى أى دولة أزورها هو التعرف على شعبها ومخالطتهم وكلما كان أمامى الاختيار فى أى بلد أزوره، بين أن أذهب إلى المتحف أو أذهب إلى مقهى، فأنا أختار المقهى بلا تردد.
قلت له: إن للمقهى مكانة مهمة فى حياة محفوظ، ربما لنفس السبب، فقد عاش حياته كلها وسط الناس وهو مشاء عظيم، مشى فى جميع أحياء القاهرة جيئة وذهاباً طوال عشرات السنين، لذلك لم يشأ أبداً أن يمتلك سيارة.
وسأل كويللو محفوظ إن كان قد قرأ أياً من رواياته فقال: للأسف إننى لم أعد قادراً على القراءة فى سنى هذه، لكن لى صديق طبيب قرأ روايتك الشهيرة «الخيميائى» ورواها لى بكل تفاصيلها، فشعرت أننى قد قرأتها بنفسى وقد استحوذت قصة بحث البطل عن الكنز على كل اهتمامى.
فقال له كويللو: لقد قرأت أخيراً روايتك العظيمة «الطريق» ووجدت أنك سبقتنى فى قصة البحث هذه، فروايتك هى الأخرى تدور حول البحث، فالبطل عندك يبدو أنه يبحث عن والده، لكنه فى الواقع يبحث عن الحقيقة ويبحث من خلالها عن نفسه وهذا هو حال بطلى أيضاً، فقال محفوظ: لكل إنسان الكنز الذى يبحث عنه، فرد كويللو: وقد يكون الكنز بداخله، فقال محفوظ: إن هذا هو الكنز الحقيقى، لأنه إذا وجده الإنسان فهو لا يفقده أبداً، لأنه كنز لا يفنى.
وسأل كويللو محفوظ: هل عالجت قضية البحث هذه فى رواية أخرى؟
قال محفوظ: البحث بشكل مباشر تجده أيضاً فى «رحلة ابن فطومة».
فقال كويللو: على أن أبحث عنها إذن، فأنا مغرم بكتاباتك، لأن بها دائماً ذلك العمق النفسى الذى لا يتأتى إلا للكتاب العظام، فصمت محفوظ كعادته كلما امتدحه أحد.
بعد برهة قال لى باولو كويللو: أتعرف ما هو الشىء الثانى الذى يجمع بينى وبين محفوظ؟ إنه ذلك القرار الصعب الذى ينبغى على كل كاتب حقيقى أن يتخذه، وهو أن يتفرغ للكتابة وهو قرار شجاع، لأنه يعنى أن الكاتب سيعيش حياة من الوحدة بحكم اختلافه عن بقية البشر، وأنا أعوض ذلك بأن ألتحم بالبشر كلما استطعت، وأعلم أن محفوظ كان يفعل نفس الشىء أيضاً.
فعلق محفوظ على الحديث قائلاً: ومازلت، فأنا أحرص على الالتقاء بأصدقائى أسبوعياً حتى الآن، بالرغم من ظروفى الصحية، ولولا ذلك لصارت حياتى حزينة جداً.
ولمح باولو كويللو علبة السجائر فى الجيب العلوى لسترة الأستاذ، حيث اعتاد وضعها فقال له: آه إننى سعيد أنك مازلت تستمتع بالتدخين، فرد محفوظ فى شىء من الانكسار: إنهما سيجارتان فقط فى اليوم، هذا هو المسموح لى به الآن، فقال كويللو: أما أنا فأدخن عشر سجائر، فرد عليه محفوظ: أنت سنك 58 عاماً، أما أنا فسنى 93، فقال: لكنك تملؤنى أملاً فى أن أظل أدخن إلى ما بعد التسعين، وضحك الكاتبان ثم صمتا، فتدخلت لتوجيه دفة الحديث وقلت لكويللو: وما تتصور يفرق بينك وبين محفوظ؟
فقال: لا أعرف؟ ربما أنه كتب أكثر من أربعين رواية وأنا لم أكتب إلا ربع ذلك العدد أو أكثر قليلاً.
قلت: ربما أن رواياتك كلها مستوحاة من سيرتك الذاتية. فسأل كويللو محفوظ: ألم تكتب سيرتك الذاتية يا مستر محفوظ؟
فقال له: لا. فسأله: لماذا؟ فقال: لأننى أكتب بدلاً منها روايات، قال: لكن لك كتاب «أصداء السيرة الذاتية» وقد قرأت ترجمته الإنجليزية. قال: إنها مجرد «أصداء» اتخذتها لكى أبنى عليها ذلك الكتاب، لكنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى المفهوم، فقال له: ألن تكتب سيرتك إذن؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأنها ليس فيها ما يهم أحداً.
ثم كان دور محفوظ أن يجيب عن سؤالى حول ما يمكن أن يكون هناك من فروق بينه وبين كويللو فقال: فى حدود ما روى لى عن رواياته أتصور أن ما يميز كتبه هو بساطة «الحدوتة» رغم عمق معناها، فوافق كويللو على ذلك قائلاً: إنه يتمنى أن تصل كتاباته إلى الحالة التى تشبه فيها الصحراء فى بساطتها وأيضاً فى خباياها، ونظر كويللو طويلاً لمحفوظ قبل أن يتركه، وقال له: لقد زرت مصر للمرة الأولى عام 1978 وتأثرت جداً لرؤية الأهرامات وعدت إلى البرازيل لأجد أن رواية «الخيميائى» قد تخلقت فى ذهنى فبدأت على الفور فى كتابتها، وهذه هى زيارتى الثانية لمصر، وأعتقد أن أهم ما فيها هو مقابلتى لك، التى أشعر بأنها قد تلهمنى عملاً جديداً، مثلما فعلت الأهرامات فى الزيارة الأولى.
وفى نهاية الزيارة قدم باولو كويللو لمحفوظ نسخة إنجليزية من روايته «الخيميائى»، فقدم له محفوظ بدوره النسخة الفرنسية من «أحلام فترة النقاهة»، التى تعتبر آخر إصداراته ممهورة بإمضائه، فانحنى كويللو محاولاً للمرة الثانية تقبيل يده التى وقعت له على الكتاب، فسحبها محفوظ هذه المرة وانحنى بدوره تحية لضيفه الكريم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer