الأقسام الرئيسية

كيف لم نتوقع الثورة

. . ليست هناك تعليقات:

بقلم: ايلي فوده/هآرتس 27/2/2011

الصحفي البريطاني، جون برادلي نشر في 2008 كتابا بعنوان "في غياهب مصر: بلاد الفراعنة على شفا الثورة". بعد مكوث طويل في الدولة ولقاءات مع مصريين كثيرين فهم بان مواد الاشتعال الداخلي – الفساد، البطالة، كراهية مبارك وابنه جمال، الخصخصة، الاجر المتدني، الفقر، كفيلة بان تنفجر في غضون وقت قصير. وكتب يقول ان مصر شهدت مثابة ثورة في كل ثلاثة عقود (ثورة 1919، انقلاب الضباط في 1952 واضطرابات الخبز في 1977)، وهي ناضجة الان لثورة اخرى. بقدر ما يبدو تبرير الحجة مدحوضا، فقد كان برادلي محقا. الكتاب، بالمناسبة، منع في مصر ولكن بعد انتقاد جماهيري سمح بنشره، حظي بالنشر في صحف المعارضة بل ويحتمل أن يكون أشعل الحريق الشعبي الذي اندلع هناك مؤخرا.
كتاب برادلي يطرح تساؤلا هاما حول القدرة على التنبؤ بالثورات. زعمي هو أن خبراء الاكاديميا، الذين يسمون عندنا "مستشرقين" لا يمكنهم أن تنبأوا بالثورات مسبقا؛ ولكنهم يمكنهم أن يشددوا، اكثر مما درجوا على عمله بشكل عام، على الظروف التي تشكل البنية التحتية للثورة.
عمليا، الثورة تقع عندما تجتمع ثلاثة عناصرها معا: الشرط الاساس، العناصر المشجعة والشرارة. وجود واحدا من هذه العناصر لا يكفي. وعليه، فانه حتى عندما يشير المؤرخ الى الشرط الاساس والعناصر المشجعة التي يمكنها نظريا ان تؤدي الى الثورة، الا انه لا يمكنه ان يخمن ما الذي سيشعلها.
هذه الشرارة قد لا تشتعل على الاطلاق، او أن تشتعل فقط بعد زمن طويل. وهكذا، مثلا، الاضطرابات في مصر بدأت في 2004، في سلسلة مظاهرات واضرابات. بين 2004 و 2008 وقع في الدولة ما لا يقل عن 1.900 مظاهرة بمشاركة 1.7 مليون عامل. القبضة الحديدية التي استخدمها النظام في قمع هذه الاحداث اثارت غضبا شديدا وتشكلت منظمات احتجاج. الانتقاد للنظام ازداد مع محاولات "تتويج" الابن جمال رئيسا؛ وكثرت التذمرات من اعمال الفساد في النخبة السائدة؛ تعديلات على الدستور قيدت المنافسة على الرئاسة؛ اسعار الغذاء ارتفعت؛ وبالطبع الانتخابات الاخيرة للبرلمان زورت وكادت المعارضة تشطب فيها.
ولكن الربط بين كل هذه لا يكفي لاشعال الثورة. الهياج يمكنه أن يستمر لسنوات، حسب طبيعة النظام وطرق تصديه للانتقاد. المطلوب هو شرارة قوية بما فيها الكفاية لرص صفوف الجماهير. في حالة مصر، الاحداث في تونس كانت مثل هذا المحفز.
تفسير آخر للمصاعب في توقع الثورات هو دهاء التاريخ: فهي ليست رؤيا سائدة في مصر بشكل خاص وفي العالم العربي بشكل عام. لا يستجيب أي من النماذج التي طرحها برادلي في كتابه لوصف "ثورة". عمليا، المثقفون العرب يرون في احداث تونس "الثورة العربية الاولى" خلافا، مثلا، للثورات التي وقعت في القرن العشرين في ايران غير العربية، آخرها بالطبع هي ثورة الخميني في 1979.
مصر اعتبرت دوما كدولة ذات حكم مركزي ومجتمع مطيع، بسبب تعلقها بمياه النيل. المؤرخ والباحث الاسلامي الراحل البروفيسور جبريئيل بار، وصف ذلك بانه "خنوع الفلاح المصري". لا يمكن اعتبار هذا القول نهجا استشراقيا متعاليا، وذلك لان حتى الكاتب المصري الشهير علاء الاسواني نشر مؤخرا مجموعة مقالات تحت عنوان "لماذا لا يثور المصريون؟" يبدو إذن ان لهذا الاعتقاد شركاء حتى بين المصريين.
على نحو مفعم بالمفارقة، فان الاسواني هو الذي نشر في 2002 الرواية واسعة الانتشار "عمارة يعقوبيان"، التي ترسم بشكل رائع مضامين المجتمع المصري التي أدت في نهاية المطاف الى الثورة. وهكذا، فان الالتصاق بدروس التاريخ، المجدي للمؤرخين مرات عديدة، من شأنه ايضا أن يزيغ ابصارهم.
سبب آخر لفشل التوقع هو التقدير المغلوط لوتيرة الاحداث في التاريخ الراهن. فالمؤرخون يميلون الى تحليل الاحداث حسب وتيرة التطورات التي شهدوها في الماضي. هكذا مثلا، تأثير الثورة الفرنسية، الروسية او الايرانية، كانت متعلقة بمدى تغلغل الافكار والتغييرات في المجتمع المحلي. هذه السياقات كانت بطيئة في الماضي، بسبب قلة وسائل الاتصال والقدرة المتدنية لحراك أدوات التغيير. ولكن ثورة الاتصالات في السنوات الاخيرة، وعلى رأسها الانترنت والشبكات الاجتماعية، سرعت الحراك الفكري وحثت التغييرات التاريخية. في الماضي كان ممكنا توقع التغيير في مدى سنين، اما اليوم فمدة التغيير تقصر جدا: الاحداث في تونس حركة ثورات في دول اخرى في غضون بضعة ايام. واخيرا، يبدو أنه اذا اراد الباحثون ان يفهموا جيدا احاسيس الجمهور، يجدر بهم أن يتبنوا نهج "علم الانسان"، في الخروج الى الميدان ومقابلة الناس في الشارع. احد الاسباب لنجاح برادلي في قراءة الخريطة المصرية هو تعرفه العميق على المزاج العام الذي لم يجد تعبيره في وسائل الاتصال التي تسيطر عليها الدولة. تعويض معين لغياب هذا التعرف يمكن أن نجده في التعرف على الابداعات الثقافية الراهنة – في الادب، في السينما وفي المسرح – والتي يمكنها أن تشير الى وجود انتقاد للنظام ومدى حدته.
خبراء الاكاديميا مقيدون جدا في قدرتهم على التنبؤ بالثورات. يمكنهم أن يشيروا الى الشروط والى السياقات المشجعة على الثورات، ولكن ليس اكثر من ذلك. نحن سنواصل كوننا متفاجئين.

27 / 02 / 2011 - 11:41

التاريخ:



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer