الأقسام الرئيسية

شهادة: مذكرات طفل ينايري تجاوز الأربعين

. . ليست هناك تعليقات:


كيف لطاغية ألا يرى كل ذلك ويظل صامتا رابضا على تلال أموالنا ودمائنا وثروات شعبنا المنهوبة؟

ميدل ايست أونلاين


قلم: محمد عطية محمود


أمل جديد ينفجر

ما بين يناير 1977، ويناير 2011، تمتد مرحلة من المرارة الكامنة في النفس والمترسبة في قاعها الذي أسن بفعل السنين العجاف التي لم يجن منها المرء إلا النذر اليسير من بقايا الأمل الذي تفتت وووقع من بين أيدي من كانوا يملكون على الدنيا زمامها، ليكون الفتات هو ما يقتات عليه العائشون على هامش هذه الدنيا العجيبة هو سقف طموحاتهم وتطلعاتهم، ومناط صراعاتهم البريئة المكبلة بقيود واختراعات أولي الأمر!

ترى صورتك القديمة التي ما زالت محفورة في ذاكرتك الهشة، عندما تفيق في صبيحة يوم 17 يناير 1977، وأنت ما زلت طفل التاسعة من عمره، يتمسح في مريلته الصفراء وشنطته المدرسية، على انتفاضة جياع كبلتهم قرارات سيادية مفاجئة تحاول المساس بأمن عيشهم.. مجرد العيش.. لم تكن تعي مفهوم كلمة "سيادية" ولكنك وجدت نفسك على هامش أحاديث وأحاديث لم تع منها إلا أن هناك ما يسمى بحظر التجول، كتم الأنفاس، فالناس في بلادك ينتفضون من أجل رغيف العيش؟ وماذا يعني لديك في مثل هذه السن رغيف العيش؟

وأنت تندس طفلا غريرا، في بيتك تشاهد أفلام التلفزيون أبيض وأسود، وترتاح من الدوام المدرسي لأيام. تهرب من قيود الواجب والحصة، ونماذج وجوه المدرسين الذين كانوا يؤرقونك وتخشاهم. لكنهم الآن صاروا بالفعل نماذج سامقة مشرفة بالمقارنة بما تراه من نماذج ممسوخة شائهة يعملون على تخريب عقول أبنائك وتدميرها ومن ثم تدمير هذا الوطن؛ فهم بالفعل آخر من جاء من المواطنين الشرفاء الذي يقدرون قيمة ومعنى الوطن. الوطن الذي لم يتوان آخرون، ممن يحملون لواءه الكاذب، ويدعون حماية أمنه وأمن أبنائه، في تدميرك أنت وأبناء مرحلتك الممسوحة من تاريخ هذه الأمة بفعل فاعل، الذين قتلوا أبناء هذه المرحلة، غيبوهم. عملوا على إقصائهم من المشهد كي لا يكون هناك جيل ينهض من بعد جيل العبور العظيم. العبور الذي لم تر أنت ولم تحفظ، ولا أبناء مرحلتك، له إلا بعض الأناشيد والحكايات والأفلام العربية الممسوخة.

لتتسربل في أيامك المحمومة بحمى الحياة اللاهية، فالأمور عال وأنت مصري ابن مصر أم الدنيا. ولن تجد بديلا لمستقبل مشرق!؟

لم يخب حب الوطن في قلبك ولا قلوب من هم دونك قيد أنملة، ولم يخرج خارج حدود القلب، فالقلب مغلق على ما فيه، لكن السراب الذي لف كل شيء والغموض. هل كنت تدري أن كل هذا الغموض سوف يعترض شاشات عرض أيامك، وتسد في وجهك كل المنافذ حين تخطو أولى خطواتك خارج حدود الإطار التعليمي.

يتحدثون عن جيل أكتوبر الذين يخطون الآن في سبيل التقاعد عن ممارسة مهامهم الحياتية والوظيفية بعد كفاح، وتاريخ يشهد لهم. فماذا عمن ولدوا على أعتاب الحرب وبين الحربين وبعدهما في مرحلة ما يسمى بالاستقرار وعودة كرامة الوطن. لقد عادت كرامة الوطن لكن ذهبت كرامة أبنائه.

أشياء كثيرة حدثت وبدأت تجرد المصري الجديد من هويته وتغير جلد الكثيرين ممن التحقوا بركب الانفتاح ومن بعده ركب قطاع خاص ظالم لم ولن يستوعب مطامح أبناء هذه المرحلة ولا غيرها من حق أصيل في حياة شبه كريمة، (ولننظر ما وصل إليه الآن). وما تلا ذلك من هجرة أبناء الوطن إلى أوطان أخرى بديلة. أوطان أكل العيش ومجتمعاتها المتعطشة لنهضة تقوم على أكتاف من تخلفوا من أبناء هذا الجيل العظيم، لدرجة أن سدت المنافذ حتى الخارجية عن مطاريد/ مواليد الستينيات والسبعينيات الذين واجهتهم ثمانينيات القرن الماضي بهذا القهر وهذا الصد وهذا المنع، وهذه البطالة التي لا ذنب لهم فيها غير أنهم توابع مرحلة من الكفاح العظيم، وهم مطرودون من رحمة حكومة تنصلت لهم، وقطاع خاص مستعبد (إقطاعي جديد) لا يريد حتى مجرد الاستفادة من طاقاتهم المهدرة. يستكثر على شاب في مطلع عشرينيات عمره أن يبحث عن عمل لديه، ويقول له بالفم المليان: "كيف جئت إلى هذا المكان المقفر.. يقصد مكان مصنعه النائي بصحراء غرب المدينة.."، وكأنه يقتل رغبته في أن يكون إنسانا ولو كان مجردا من كثير من حقوقه الأساسية.

أذكر زميل العمل المؤقت، وكان يدعى مصطفى .. شاب منطو (استعنت بشخصيته في أحداث روايتي "دوامات الغياب" التي مازالت مخطوطة تنتظر الطبع على حساب المؤسسة الرسمية للدولة، وبالطبع لن تطبع لديهم للمزيد والمزيد من الأسباب). أذكر مصطفى وعشقه الشديد لزميلة له، وحرصه على جمع ما لا يقدر عليه الكثيرون من الشباب من المال ليقترض ويجمع مبلغا كبيرا كي يحصل به على عقد عمل في الكويت ثم يسافر على وعد تحقيق آماله ليجد نفسه بعد أسبوع من وصوله الكويت مطرودا من رحمة الغربة أيضا بفعل احتلال الطاغية صدام حسين للكويت، ليفقد مصطفي والنماذج المتعددة من أبناء جيله/ مرحلته كل ما لديهم من مجرد الطموح في حياة شبه كريمة.

فمن الذي فعل في أبناء جيلك كل هذا الفعل المتوحش الغادر القاتل، ونحن لم نكن نريد التنعم، لكننا كنا نريد العمل، والعمل فقط كي نعيش.. مجرد نعيش حياة (شبه كريمة) في أحضان وطن نحبه، لكنّ المتوالين المتمرسين بمقاليد الحكم والضبط والربط ومقدرات الناس القائمين على مقدراته لا يحبوننا/ يكرهوننا ولا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم القذرة، ولا يحبون هذا الوطن بأي حال من الأحوال.

انظر كيف ارتفع سقف المطالب/ الرشاوى التي يطلبها الفاسدون لتشغيل المرفهين في شركات الصفوة. وكم من المصريين نجح خارج وطنه، وقارن بين من نجح، ومن هلك في طريق هجرة عير شرعية، ومن خرج ضحية نصب، ومن أطلقت عليه نيران الحدود، ومن مات عطشا وجوعا في صحراء الدول العربية. أو من البرد والثلج على حدود الدول الأوربية. ومن يتعذب الآن تحت رحمة الغرباء.

نموت في صحراء الدول العربية وعلى حدود الدول الأجنبية، ونحن لا نعيش إلا على مساحة 5% من أرض الوطن. لكن المفارقة أننا أصبحنا نموت على أرض وطننا كله لأسباب كثيرة ومتعددة دون مغيث.

كيف لطاغية ألا يرى كل ذلك ويظل صامتا رابضا على تلال أموالنا ودمائنا وثروات شعبنا المنهوبة. ويجنى ثمار كل العهود السابقة، دون أدنى نظر لما يرزح تحت نيره الوطن الذي ما هو إلا أبناؤه. هل عميت أبصار الطغاة لهذه الدرجة. أم نجلد أنفسنا وتراخينا، ونحن لا ذنب لنا كفانا إمعانا في جلد ذاتنا، والتمادي في تمجيد الآلهة التي ماتت من زمان بعيد.

بالأمس القريب قبل انتهاء أزمة التحرير، وعودة أبطال التغيير الجدد إلى ثكناتهم المدنية. كنت واقفا في طابور العيش، أؤمن عيش أولادي قبل خروجي مضطرا لممارسة عملي المعتاد (الذي تحصلت عليه بعد بلوغي سن الثامنة والثلاثين بعد كفاح مرير مع أحوال العمل المؤقت وتشرداته!) فإذا بزميل لي بنفس دفعة التخرج من الدراسة، يسير في الشارع، يحمل إفطار أولاده الصغار، ويصطحب ابنه الصغير، وهو (كان) من أصحاب البنيان الفاره والكتفين العريضين والمشية المزهوة. هو الآن في الرابعة والأربعين من عمره، ولم يتحصل على عمل ثابت لمدة أسبوع واحد طوال عمره، وهو أب ولديه أولاد. نعم نؤمن عامة بأن الأرزاق بالله، لكن المزري والمحبط والقاتل هو ما صار إليه هذا العملاق الذي من المفروض أنه يعيش سنوات نضجه الفكري والرجولي وقمة استمتاعه بالحياة، لو لم أكن أعرفه لقلت من هذا الرجل صاحب البنيان المتهاوي الذي يقترب سنه من الستين.

وهو أيضا نموذج من نماذج عديدة، ماذا أفاده تعليمه وثقافته وجهده وكفاحه سوى المرمطة في الشوارع والأسواق والتلطم على أصحاب العمل الخاص لتحصيل قوت يومه، والبيات لأيام عديدة بلا عمل ولا أكل ولا تحصيل أي كرامة في الحياة.

من فعل هذا بأبناء هذا الجيل، من قتلهم غير من طغى ومن عاونه ـ لن نقول ضللوه وغيبوه، فلماذا لم يغيبوه عن تحصيل المليارات والملايين والعقارات والمتع الهائلة التي يحرم الناس من مجرد النذر اليسير منها، ناهيك عن أمور البذخ والترف والإسراف على مرأى ومسمع ومشهد من العالم الذي يرى، ويرينا من خلال فضائياته وإعلامه، وفضائحياته الكاشفة.

هم يتشبثون بالكرسي ويقفون على جثث الشرفاء بعدما يمتصون دماءهم وتصير ثرواتهم المسمومة الحرام تلالا من هذه الجثث، جثة رمز الوطن الأكبر.

من البديهي والطبيعي أن يحدث الانفجار لكن ليس نحن الذين نقوم به فقد قتلنا بفعل فاعل، بل هم هؤلاء الشباب (شباب يناير 2011) الذين تحمسوا ونقبوا عن الراية التي كانت مفقودة، وحملوا لواءها طمعا في أمل جديد ينفجر؛ فهنيئا لهم ولمصر بهم، على أمل أن يكون هناك ـ ربما ـ أمل جديد حقيقي ربما استفاد منه أبناء من طحنتهم وقضت عليهم هذه السنون الأكثر من ثلاثين بكثير وحطمت أحلامهم وكياناتهم، وتركت المرارة عنوانا لهم في تاريخ يمتد بين انتفاضة وثورة حقيقية.

محمد عطية محمود ـ كاتب مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer