بقلم د. عمرو الشوبكى ٢٤/ ٢/ ٢٠١١
نجحت ثورة الشعب المصرى فى إسقاط رأس النظام القديم، وجانب من مجموعات الفساد، وبدأت تستعد للدخول فى مرحلة التحول الديمقراطى بكل ما يفرضه ذلك من فرص ومخاطر، لابد من الوعى بها حتى نتمكن فى النهاية من تحقيق الهدف المنشود، وهو بناء نظام سياسى قائم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. والمؤكد أن الثورة المصرية هى الأعظم فى تاريخ مصر الحديث، وهى تعد واحدة من الثورات الكبرى فى العالم من زاوية أعداد الجماهير التى شاركت فيها (قدرت فى يوم ١١ فبراير بحوالى ١٢ مليون مواطن) وتجاوزت بذلك عدد من استقبلوا الإمام الخمينى بعد عودته من منفاه إلى إيران، حين بلغوا ٦ ملايين مواطن، وكانوا حتى اندلاع الثورة المصرية أكبر رقم شارك فى مظاهرات غير رسمية فى تاريخ الإنسانية. والحقيقة أن الطاقة التى فجرتها الجماهير المصرية طوال ١٨ يوما وإصرارها على ضرورة تنحى مبارك (رغم كثير من الحلول الوسط الفاشلة التى طرحها البعض)، ومطالبتها بالتغيير، كانت مسار فخر وإعجاب العالم كله، كما أن هذا الشعب، الذى خرج فى مظاهرات مليونية تطالب برحيل الرئيس، عرف بفطرة تستحق الدهشة الفارق بين إسقاط النظام وبين إسقاط الدولة، فناضل من أجل إسقاط الأول وتمسك ببقاء الثانية. والحقيقة أن هذا الموقف الذى حمله الثوار فى مصر تميز بانحياز فطرى إلى نماذج فى تجارب التغيير، قامت على إفشال قدرة النظام القديم على الاستمرار فى الحكم، ومحاكمة رموزه الفاسدة والمتهمة بارتكاب جرائم ضد المواطنين، ولكنها لم تقم بانتقام عشوائى ضد كل من عمل مع النظام السابق، خاصة أن كثيراً منهم - وخاصة فى الحالة المصرية - دخلوا الحزب الحاكم باعتباره حزب الدولة، منذ الاتحاد الاشتراكى، ومرورا بحزب مصر وانتهاء بالحزب الوطنى، وقدروا بالملايين. والمفارقة أن مصر التى شارك فى ثورتها ملايين الناس لم تقم باستئصال كل أركان النظام القديم بما فيها مؤسسات الدولة، كما جرى فى إيران والعراق، فالثورة الإيرانية التى سقط فيها أكثر من ٧٠ ألف شهيد قامت بحملة إعدامات واسعة ضد كل قادة النظام القيم والمتعاونين معه، عن طريق محاكم ثورية. أما العراق فقد ارتكبت قوات الاحتلال الأمريكى فيها خطيئة كبرى يتحملها بريمر الحاكم العسكرى الأمريكى حين حلت الجيش ومؤسسات الدولة، التى ملأتها مليشيات طائفية سيطرت على كثير من أجهزتها، خاصة وزارة الداخلية، وصدر قرار اجتثاث البعث الذى دمر الحياة السياسية فى العراق. والحقيقة أن تجارب هدم القديم واستئصاله بشكل انتقامى وخارج إطار القانون لم تجلب الديمقراطية للشعب الإيرانى رغم عظمة ثورته، ولا للشعب العراقى رغم عراقه تاريخه، وأن نقطه الانطلاق التى تنطلق منها الثورة المصرية تمثل فرصة حقيقية لبناء نظام سياسى جديد، مستلهمة تجارب النجاح التى جرت فى أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وأسبانيا والبرتغال، وهى كلها واجهت القديم من خلال القانون وليس الانتقام، وأسست لبدائل سياسية واجتماعية حاصرت مؤسسات النظام القديم حتى استطاعت فى النهاية أن تهزمها عبر انتخابات ديمقراطية. إن بلدان أمريكا اللاتينية التى تشابهت مع مصر فى جوانب كثيرة، سنجد أنها واجهت نظماً استبدادية عسكرية، وكانت العلاقة بين الثوار والجيش سيئة للغاية على عكس الحالة المصرية التى دعمت فيها المؤسسة العسكرية مطالب الثوار، وأصبحت مهمة الشعب والجيش هى بناء الديمقراطية وإنجاز عملية التحول الديمقراطى، وحصار كل أركان النظام القديم بشكل ديمقراطى، ومحاكمة كل الفاسدين بشكل قانونى. إن طبيعة الحزب الوطنى الذى حكم مصر منذ تأسيسه عام ١٩٧٨ وضم تشكيلة نادرة من الفاسدين والجهلاء ظل فى نفس الوقت «حزب الدولة» الذى ارتبط بجهازها الإدارى والأمنى، وضم مئات الآلاف من البسطاء الذين دخلوه بهذه الصفة دون أن يتورطوا بالضرورة فى فساد أو تعذيب. وهنا لا يجب استدعاء تجربة «اجتثاث البعث» العراقية لأنها ستحول البلد إلى ساحة للفوضى، وستفتح الباب أمام الجيش لحكم البلاد مباشرة، أما إذا حرصت الثورة بشكل ديمقراطى على استبعاد الحزب الوطنى من الحياة السياسية وإسقاط رموزه وقياداته فى أى انتخابات ديمقراطية قادمة، فإن هذا سيفتح الباب أمام تطور سلمى وديمقراطى حقيقى، وهزيمة الحزب الحاكم فى الانتخابات القادمة عن طريق تقديم بديل آخر مقنع للجماهير. أما المخاطر التى تواجه الثورة المصرية فتتمثل فى الخوف من الانقضاض على الثورة، وعدم الثقة فى الحكومة، خاصة بعد رفض تشكيل حكومة جديدة بدون وزراء ينتمون للنظام القديم، وهو ما يعنى غياب الوعى بأن هناك حكومة قديمة أسقطها الناس، فيجب أن تخرج من الحكم بكامل طاقمها. إن إصرار الجماهير المصرية على استكمال نضالها المشروع من أجل استبعاد وزراء الحزب الوطنى، وتشكيل حكومة إنقاذ، وطنى أمر مشروع، ولا علاقة له بفكرة استئصال القديم التى تؤدى إلى تفكيك الدولة وفشلها كما جرى فى العراق، إنما هى محاولة مشروعة لوضع ضمانات سياسية وقانونية بألا تكون الحكومة الجديدة امتداداً للقديم، وألا يصبح التغيير الذى حدث هو مجرد تغيير فى الوجوه وليس فى المضمون. سيبقى هناك تحد حقيقى يواجه الثورة المصرية، وهو بناء تيار سياسى جديد يستند إلى قوة اجتماعية حقيقية، ويكون امتداداً لشبكات العمل الاجتماعى والأهلى الصاعدة، خاصة أن أزمة الأحزاب والتنظيمات السياسية القديمة ظلت طوال العهد السابق منعزلة عن الواقع الاجتماعى، وظل مسار السياسى فى عزلة عن الاجتماعى، وحان الوقت لبناء تواصل حقيقى بين الاثنين. إن التحدى الكبير المطروح أمام ثوار ٢٥ يناير هو تحويل مبادئ الثورة وقيمها إلى ممارسة حزبية وسياسية جديدة، بتأسيس حزب أو أكثر يكونان نواة لبناء تحالف واسع، مهمته خوض الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة، مستنداً إلى قوى اجتماعية جديدة ويضم نقابيين وجيلاً ثانياً من رجال الأعمال، وطبقات فقيرة ووسطى حريصة على بناء مصر الجديدة القائمة على العدل والديمقراطية. إن هذا البناء قادر على إنقاذ مصر من خطرين: الالتفاف على مبادئ الثورة، والفوضى التى باتت تمثل خطراً على عملية الانتقال الديمقراطى، خاصة بعد أن شاهدنا أزمة فى كل مؤسسة، ومشكلة فى كل مصنع، وهى أمور يجب أن تعالج برؤية سياسية جديدة تختلف جذريا عن الرؤية البيروقراطية والأمنية التى مازالت تخيم على تعامل أركان الحكم الجديد مع الواقع، وتتجاهل الأهمية القصوى والعاجلة لوضع تصور سياسى شامل يواجهه تحديات ومخاطر المرحلة الحالية. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات