صدق المفكر والعلامة العربى السورى الكبير عبدالرحمن الكواكبى، أهم من تصدى لدراسة ظاهرة الاستبداد فى كتابه الرائد «طبائع الاستبداد فى مصارع الاستعباد»، الذى صدر منذ أكثر من قرن من الزمان، حين قرر أن الاستبداد هو أكثر الظواهر الاجتماعية خطورة وفتكاً بالمجتمعات، واعتبر أن الدين الإسلامى منها براء. فالاستبداد، كما يؤكد الكواكبى، «يحوّل كل إنسان إلى مظلوم من جهة وظالم من جهة أخرى، ويحوّل الدين إلى وسيلة استلاب، ويمنع تداول العلم، ويفسد الأخلاق والعلاقات الإنسانية».
ولو كان الكواكبى حياً يعيش بين ظهرانينا اليوم لقام بزيارة جديدة لهذه الظاهرة القديمة، ولتوقف ملياً عند أوجه الشبه والاختلاف بين المستبدين الجدد فى واقعنا العربى والمستبدين القدامى، ولقدم لنا شرحا متعمقا للأسباب التى جعلت ظاهرة الاستبداد عند الحكام العرب تبدو، فى طبعتها المعاصرة، مرتبطة ارتباطا عضويا بظاهرة الفساد، من ناحية، وبظاهرة التبعية، من ناحية أخرى، وكأن العالم العربى أصبح يعيش أضلاع مثلث متكامل الأضلاع والأبعاد لا يستقيم أحدها دون الآخر. فكيف حدث هذا التحول؟
ربما كان لدى الحكام الذين تولوا إدارة شؤون بلادهم فى مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة، خصوصا من ساهم منهم بقدر أو بآخر فى حركات التحرر الوطنى، بعض العذر حين فرضوا قيودا على الحريات لحماية الاستقلال الوليد لأقطارهم من أخطار بدت لهم تهددهم، سواء كانت أخطاراً حقيقية أو وهمية.
ولأن النزعة الاستبدادية لجيل الاستقلال لم ترتبط بالضرورة بفساد شخصى كبير، بدت الشعوب العربية أكثر استعدادا للتسامح معهم. غير أن الاستبداد الذى ساد حقبة ما بعد الاستقلال ساهم، بصرف النظر عن مبرراته، فى تفريخ جيل من القيادات ترعرع فى أجواء خلطت بين أمن النظام وأمن الوطن دون أن يكون لديه نفس الحس الوطنى أو نفس الارتباط النفسى والأيديولوجى بالقضايا الوطنية أو الاجتماعية العربية، لذا بدا، حين آلت إليه القيادة، منزوع الوطنية ومنزوع الضمير والحس الاجتماعى أيضا، ومن هنا نزعته الجامحة نحو استبداد بلا كوابح. وكان من الطبيعى أن يولّد هذا النوع من الاستبداد لدى الجيل الثانى من القادة العرب ميلاً غريزياً نحو الفساد والإفساد بلا حدود، ساعد على تأجيجه مناخ غير صحى خلقته ثروة نفطية هائلة هبطت على بعض دول الخليج، ورغبة عارمة فى تقليد حياة أسطورية مترفة يعيشها بعض حكام دول الثروة.
فإذا أضفنا إلى ذلك غياب الكوابح الوطنية، بسبب تراجع وضع ومكانة القضايا الوطنية على جدول أعمال السياسة العربية، وغياب الكوابح الأخلاقية، فى ظل مناخ يضع الولاء للحاكم فى منزلة أسمى من الولاء للوطن، لتبين لنا لماذا أفرز الواقع العربى بسهولة حكاما من أمثال زين العابدين بن على، الذى أفصحت مصادر فرنسية أن ثروته تقدر اليوم بخمسة مليارات يورو على الأقل، أى حوالى 40 مليار جنيه!
ليت الأمر يقتصر عند هذا الحد، فالحاكم الذى يصر على البقاء فى السلطة «حتى آخر نفس فى حياته»، ولا يرى فى الوطن سوى بقرة حلوب تكاد تكفى بالكاد شهواته هو وأسرته وأقربائه وأنصاره، يدرك تمام الإدراك أنه لا يدين لأحد فى موقعه على هرم السلطة سوى لولاء أجهزته الأمنية ورضاء القوى الأجنبية الحليفة.
ولأن حكامنا العرب لا يتورعون عن تقديم التنازل تلو الآخر فى أمور تتعلق بسيادة الأوطان ومصالحها العليا، فماذا نستغرب حين نرى فى العالم العربى أوطانا تنقسم وتتفتت وأخرى تشتعل فيها حروب أهلية، وثالثة تبدو مخترقة من الخارج حتى النخاع.. بقاء الحاكم فى السلطة مدى الحياة يفسده لا محالة، وبوسع الحاكم الفاسد الذى لا يعتمد فى بقائه فى السلطة على ثقة شعبه أن يفرط بسهولة فى الوطن وفى الشعب نفسه. ولأن لاستبداد والفساد والعمالة حلقات ثلاث مترابطة، فعلينا أن ندرك أن تطهير البلاد من العملاء ومن الفاسدين والمفسدين، فى أى بلد، يبدأ بالقضاء على الاستبداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات