بقلم د. حسن نافعة ١٩/ ١٢/ ٢٠١٠
أما الاعتراف فيتعلق بقرارى الخاص بالمشاركة فى نشاط سياسى استهدف مقاومة «مشروع التوريث» والقبول بدور «المنسق العام» فى «حملة» استهدفت إجهاض هذا المشروع. ولأن كتابات سابقة عديدة لى كانت قد عبرت عن موقف رافض بشدة لمشروع «التوريث» ومدرك لخطورته على مستقبل مصر ومطالب بمقاومته، فربما اعتقد الداعون لتأسيس «حملة ضد التوريث» أننى الشخص المناسب للقيام بهذا الدور التنسيقى،. لكننى لم أكن أنظر إلى الأمر بهذه الطريقة ونبهت إلى ضرورة التمييز بين دور الناشط السياسى ودور الباحث، مؤكدا أننى أستطيع أن أسهم بشكل أفضل من خلال موقعى المهنى كأستاذ وباحث فى العلوم السياسية يساهم بالرأى فى وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية. وبعد إلحاح، علقت موافقتى على وجود إجماع على شخصى، من جانب جميع المشاركين فى الحملة، باعتباره شرطا ضروريا لتمكينى من القيام بالدور التنسيقى المطلوب. وحين فوجئت بالاستجابة لهذا الشرط لم يكن هناك بد من الموافقة والمشاركة بهذه الصفة فى حفل إطلاق الحملة. وقتها تصورت أن وجودى كشخصية مستقلة ستقف على مسافة واحدة من الجميع يمكن أن يساعد على رص الصفوف ومن ثم يشكل ضمانة إضافية لتحقيق النجاح. هكذا بدأنا العمل فى جو مفعم بالحماس والأمل، وفى اجتماعها الأول طرحت على الأمانة العامة جدول أعمال على شكل أسئلة، اقترحت أن يدور حولها نقاش يخلص إلى إجابة تصلح أساسا لصياغة برنامج عمل مشترك. وكانت الأسئلة هى: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريد؟ وبعد نقاش معمق، استخلصنا الإجابة التالية: نحن نواة لتجمع وطنى عام، وليس مجرد حركة سياسية تشبه ما قبلها، يطمح فى ضم جميع القوى الرافضة كل أشكال «توريث السلطة»، وليس فقط «التوريث بالدم»، ونسعى لتغيير قواعد إدارة اللعبة السياسية القائمة، وليس فقط إجهاض عملية نقل السلطة من الأب إلى الابن. وانطلاقا من هذه الرؤية، تم تفويضى بالاتصال ببقية القوى السياسية التى لم تكن قد انضمت للحملة بعد، خاصة أحزاب الوفد والتجمع والعربى الناصرى، وحددنا مطالبنا لتغيير قواعد اللعبة الراهنة، وكان أهمها تعديل المواد ٧٦ و٧٧ و٨٨ من الدستور، وطرحناها فى بيان مختصر وبدأنا حملة لجمع توقيعات عليه، ووضعنا خطة لنشاط جماهيرى للتوعية بأهداف الحملة، من خلال ندوات ومؤتمرات.. إلخ. لم يكن الطريق ممهدا ولا مفروشا بالورود. فرغم الاتفاق على الالتزام بعدم إثارة أى قضايا خلافية وتركيز الجهد على النشاط المشترك، فإن البعض، كعادته دائما، لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه، وراح يطرح قضايا خلافية كانت تثير أزمات بين الحين والآخر، مثل تلك التى أثيرت حول اعتزام الدكتور أيمن نور السفر إلى الولايات المتحدة، واتخذ البعض منها ذريعة للانسحاب احتجاجا! غير أننا نجحنا فى النهاية فى احتوائها، وراح الجهد يتواصل محدثا صدى إيجابيا قويا، إلى أن ظهر البرادعى، عقب إلقائه بياناً شهيراً أصدره من فيينا يبدى فيه استعداده للترشح للرئاسة إذا أزيلت العقبات الدستورية التى تحول دون ترشح المستقلين، وتوافرت ضمانات كافية لنزاهة وشفافية الانتخابات. ولأن ما طرحه البرادعى كان يمثل جوهر ما نطالب به فى «الحملة»، فقد أدركنا على الفور أهمية نزوله إلى الساحة، ومن ثم بدأت الاتصال به على الفور والتنسيق معه، لتكلل الجهود بتأسيس «جمعية وطنية للتغيير» برئاسته. ولأنه كان من الصعب علىّ رفض القيام بدور المنسق العام لحركة كان لى شرف تنظيم مؤتمرها التأسيسى، فقد استجبت للدعوة على الفور، ورحت أنخرط بكل طاقتى فى نشاط سياسى مباشر لم يكن لى عهد سابق به. اختلف الوضع بالنسبة للجمعية الوطنية للتغيير، مقارنة بما كان سائدا فى زمن «الحملة المصرية ضد التوريث»، من عدة نواحٍ أهمها: ١- وجود شخصية كبيرة على رأس الجمعية، ممثلة فى الدكتور البرادعى، ولكن فى غياب رؤية واضحة لطبيعة الدور الذى تريده لنفسها أو للدور الذى يريده منها الآخرون. ٢- ظهور حركات شبابية جديدة، شجعها ظهور البرادعى، نزلت إلى الساحة رافعة شعار الدعوة لترشيحه رئيسا، رغم رفضه الترشح وفقا لقواعد وشروط الحزب الحاكم. ٣- تجاوب قطاع متزايد من «الأغلبية الصامتة» مع حالة حراك بدت فى ذروة تفاعلاتها، مما رفع من سقف توقعات، بدا واضحا، أنها أكبر بكثير من قدرة الهياكل التنظيمية القائمة على الاستجابة لها، أو حتى الاستفادة منها وتوظيفها لصالح قضية التغيير. وهكذا تبين لى تدريجيا أنه ألقى على «المنسق العام» مهمة مستحيلة، إذ عليه أن ينسق مع «رئيس» لا يعرف بالضبط ما الذى يتعين عليه القيام به ولا تسمح له ظروفه وارتباطاته الشخصية والدولية بالقيام بكل ما يطالبه به الآخرون، ومع قوى سياسية واجتماعية متباينة، بعضها مشارك فى الجمعية، إما بحكم عضويته السابقة فى «حملة ضد التوريث» أو بحكم مشاركته فى «الاجتماع التأسيسى للجمعية الوطنية للتغيير»، وبعضها يقف خارجها، والتعامل فى الوقت نفسه مع رأى عام بلغت توقعاته عنان السماء. ولأننى حريص على عدم القيام بأى شىء قد يصيب الرأى العام الجامح فى تطلعاته بالإحباط قدر حرصى على عدم خداعه أو تضليله، فقد اقتربت بسرعة اللحظة التى وجدت نفسى فيها مضطرا لتوجيه نداء عبر الصحف للدكتور البرادعى، بعد فشل الوسائل الأخرى، داعيا إياه إلى «مكاشفة الرأى العام بما يستطيع وما لا يستطيع»، وبدأت سلسلة من التفاعلات انتهت بتقديمى الاستقالة من مهمة «المنسق العام». سبق لى أن شرحت هنا ملابسات تقديمى الاستقالة ثم عدولى عنها، نزولا على رغبة الأمانة العامة، بعد التوصل إلى صيغة للعمل تفصل بين نشاط الدكتور البرادعى ونشاط الجمعية، والاتفاق على تداول منصب المنسق العام كل عام، اعتبارا من تاريخ إطلاق الحملة ضد التوريث.. لذا لا أرى داعيا للعودة مرة أخرى إلى هذه التفاصيل، مكتفيا هنا بالتأكيد على أمرين، أظن أنهما على جانب كبير من الأهمية. الأول: التزامى التام بالعمل كعضو مؤسس فى الجمعية وكمنسق عام سابق لها تحت قيادة المنسق العام الجديد، والقيام بأى مهام تكلفنى بها الأمانة العامة. الثانى: الحرص على وحدة القوى المشاركة فى الجمعية والسعى لضم قوى جديدة إليها باستمرار. ولأننى كنت من الساعين بشدة لتجاوز مرحلة الانتخابات التشريعية ومعالجة جوانبها السلبية، بعيدا عن أجواء التهم المتبادلة، وعلى قناعة تامة بأن أخطاء الحزب الوطنى تخلق فرصة حقيقية لتفعيل نشاط الجمعية وإعادة الروح لها، لم أتردد فى مرافقة الدكتور عبد الجليل مصطفى فى زيارته الأخيرة لمكتب المرشد العام، كبداية لمرحلة تواصل جديدة مع بقية القوى السياسية، بما فى ذلك الوفد والتجمع وغيرهما. لذا كانت دهشتى كبيرة، حين فوجئت منذ عدة أيام، بتصريحات منشورة على لسان عضو قيادى فى إحدى القوى المشاركة فى الأمانة العامة للجمعية تدعى أن هذه الاتصالات تمت دون تفويض، وتوجه لى اتهاما شخصيا بأننى أسعى إلى تقويض الجمعية. تقول التصريحات فى إحدى فقراتها الغريبة: «الدكتور نافعة، منذ قراره ترك منصب المنسق العام، وهو يفكر فى إنشاء كيان آخر يكون هو منسقه، أو المتحدث باسمه على الأقل، رغبة فى قيادة المعارضة بشخصه، وهذا ما دللت عليه مقالاته الأخيرة». وبعد أن يوجه للمنسق العام الحالى تهمة «السعى لتقويض فكرة البرلمان البديل» يعود ليوجه إلىّ تهمة «السعى لتقويض الجمعية والبرلمان البديل معا»، قبل أن يؤكد من جديد ادعاءه بأننى «أسعى لتشكيل كيان ثالث». كنت أعتقد أن استقلالى الفكرى وعدم انخراطى تنظيميا فى أى حزب أو حركة سياسية يشكلان ضمانة للوقوف على مسافة واحدة من كل القوى، وبالتالى أداء مهمتى كمنسق عام على أكمل وجه. وعندما تركت موقع المنسق العام حرصت على الاستمرار فى الجمعية، من منطلق أنها لا تشكل حزبا أو حركة سياسية جديدة بقدر ما تشكل تجمعا وطنيا شاملا يستهدف تأسيس نظام ديمقراطى بديل. أما وقد أصبحت متهما بالسعى لتشكيل كيان ثالث، وهو اتهام غريب لأنه لم يخطر فى بالى أبدا ممارسة دور الناشط السياسى أصلا، فلم يعد أمامى سوى طى أوراقى. رغم اعتزازى بهذه التجربة، خصوصا أنها أتاحت لى فرصة الاحتكاك عن قرب بعدد من أنبل وأخلص رموز هذا الوطن، فإن الأمانة تفرض علىّ الاعتراف بأن حصيلتها لم تكن إيجابية فى مجملها، وأن قبولى لدور «المنسق العام»، سواء فى الحملة ضد التوريث أو فى الجمعية الوطنية للتغيير، كان قرارا خاطئا. وأظن أنه حان الوقت ليس فقط للمراجعة وتصحيح الخطأ، وإنما أيضا للاعتذار عنه، أو بالأخرى عن الاستمرار فيه، خصوصا لكل هؤلاء الذين كانوا قد تحمسوا لدور الناشط السياسى وشجعونى على القيام به وتوقعوا منه الكثير أو القليل. ولأن البعض، ممن أكن لهم تقديرا وحبا حقيقيين، مازال يعتقد أن قرارى كان صائبا وأن ما قمت به هو الواجب ذاته وأنه يتعين علىّ الجلد والاحتمال والصبر ويخشى من عواقب سلبية للانسحاب فى هذا الوقت، فإننى أتمنى مخلصا ألا يصيبهم قرارى بالإحباط، فالأسباب التى دفعتنى للمراجعة لا تتعلق إطلاقا بشكوى من عبء ينوء به كاهلى، رغم أن العبء ثقيل يكاد يقصم الظهور، أو بخوف من أذى سلطان جائر بدأ صدره يزداد ضيقا، رغم أن العصا غليظة والغضب ظاهر، أو طمعا فى راحة أنشدها أو فى حياة أكثر رغدا أتطلع إليها، رغم أن الراحة مطلوبة والفرص متاحة وكثيرة والتطلعات مشروعة، ولكنه يتعلق أساسا بالإحساس بعدم الجدوى فى اجتماعات عقيمة لا تنتج سوى التفاهات. انسحابى الكامل والنهائى من الجمعية الوطنية لا يعنى تزعزع إيمانى بضرورة التغيير، الذى لم يكن بالنسبة لى أمضى مما هو عليه الآن. كل ما فى الأمر أننى أرفض أن أصبح جزءاً من هياكل تنظيمية، حتى ولو كانت الجمعية الوطنية للتغيير تشكل قيدا على استقلالية الفكر، لأنها تقتل الأفكار العظيمة بعد أن تحيلها إلى عملية روتينية عقيمة واجتماعات لا نهاية لها ولا طائل من ورائها. سيكون القلم سلاحى الوحيد، وهو أمضى فيما أظن. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات