دعونا من ويكيليكس، والتهويل الذي تمارسه دوائر الإدارة الأميركية بكل مستوياتها، حيث يحارون بين تهمة «الخيانة العظمى» لجوليان أسانج ناشر الموقع، مع أنه ليس أميركي الجنسية (؟!)، وتهمة «تهديد الأمن القومي الأميركي» التي عرفنا وخبرنا مبلغ مطاطيتها، وكيفية استخدامها لتغطية عدوانات واشنطن المتكررة على من يحلو لها تدميره. دعونا من واقعة جديرة بالمافيا، حيث رُتِّب للرجل فخ سهل، وأسهل الفخاخ وأكثرها إساءة الى السمعة تلك التي تحاك حول تهم جنسية.
وأما الاستهجان الأميركي المبالغ به، فأثار تساؤلاً مهماً عن صلته بمفهوم الديموقراطية، وهو ما قد يكون فضيلته الوحيدة، إذ دفع عدداً من الباحثين إلى تفحص مرتكزات رد الفعل ذلك. فثمة ما يتعدى الحرج الديبلوماسي الذي تسببت به البرقيات المنشورة، والذي حمل الرئيس أوباما على تخصيص قسم من وقته في الأيام الماضية للاتصال برؤساء معظم الكرة الأرضية، والاعتذار. بل استطراداً، لا مقارنة ممكنة بين درجة الاستنفار الأميركي تلك، ورد الفعل غير المكترث والروتيني على نشر وثيقة الفيديو التي بدأت ويكيليكس بها حياتها، والتي بينت بالصوت والصورة كيفية حصول الإعدام البارد والمجاني لجمع من المدنيين العراقيين، بينهم مراسل «رويترز»، وبأوامر قيادية.
نُبشت للإدارة الحالية مواقف وكتابات بنيامين فرنكلين، أحد آباء الجمهورية الأميركية، وواحد من أكثر الشخصيات السياسية تأثيراً في تشكيل وعي أبناء بلده بذاتهم. وكذلك نُبشت النقاط الأربع عشرة التي تقدَّم بها الرئيس الأميركي ويلسون إلى الكونغرس مطلع القرن الماضي، والتي يتصدرها منع الديبلوماسية السرية. وراح الباحثون يسعون لتفحص الأسس التي ارتكزت إليها ثورة 1776 الأميركية وما يحويه دستور الولايات المتحدة لجهة حق المواطنين في معرفة السياسة التي تمارس باسمهم... بل إن بعضهم خاض في التناقض الذي يمثله تطلب «أقل ما يمكن من الدولة» لدى الليبراليين، والسماح في الوقت نفسه لبعض أجهزة الدولة بالتحول إلى حصون منيعة وقوية إلى هذا الحد.
لكن كل ذلك يبقى شأناً نظرياً. ففي الأثناء، دُعي كبار القضاة والقانونيين الأميركيين إلى البحث عن الثغرات والفذلكات التي تمنح أدوات قانونية... لمنع وملاحقة ومقاضاة ويكيليكس وأشباهه، هذا إذا تجاهلنا الدعوات التي أُطلقت تحت قبة الكونغرس وفي أروقته لاغتيال أسانج، واعتبرناها مجرد كلام، لا يهم فيه مكان إطلاقه ولا مكانة مطلقيه.
وعلى بعد آلاف الأميال من واشنطن، وفي باريس التي قضى فيها بالذات فرنكلين عشر سنوات من حياته مبعوثاً لبلاده (ولم يكن تعبير «السفراء» قد درج بعد)، حدثت واقعة ثانية هذا الأسبوع، هي من دون أدنى مبالغة مما تقشعر له الأبدان. فقد طوق مئات رجال البوليس ممن كانوا يرتدون بزاتهم الرسمية، قصر العدل في مدينة «بوبيني»، وهي ضاحية قريبة من باريس، وتركوا أصوات وأضواء صفارات الإنذار التي تعتلي سياراتهم الرسمية ودراجاتهم، تلعلع لساعات، احتجاجاً على قرار المحكمة إدانة سبعة منهم بتهمة تزوير محضر رسمي، وإيقاع عقوبة السجن بهم.
كان المنظر أمام عدسات الكاميرات الكثيرة التي نقلته مرعباً، يستحضر مناظر مشابهة غالباً ما مهدت لحكم الكولونيلات. ولكن الأخطر من «تظاهرة» رجال الشرطة دفاعاً عن زملاء لهم مزورين لوثائق تتعلق بعملهم، هو رد فعل محافظ المنطقة وهو ضابط شرطة سابق، سارع إلى الحضور إلى المكان ليس لتقريع رجال البوليس هؤلاء، بل ليعرب لهم عن دعمه و «تفهمه». ثم وقعت الطامة الكبرى على يد، أو لسان، وزير الداخلية السيد هورتوفو، وهو بات منذ وقت أشهر وزراء السيد ساركوزي على الإطلاق، وأقربهم إليه. فالوزير دافع عن الشرطة، وانتقد الحكم القضائي واصفاً إياه بـ «المبالغة»! ومعلوم أن القانون الفرنسي يحظر التشكيك بالأحكام القضائية، فكيف إذا وقع هذا التشكيك من وزير الداخلية. وأشارت تعليقات متعددة إلى إمكان ملاحقة الوزير قانونياً وتوقيفه! وعوض أن يكون رد فعل الوزير بعد الحادث شيئاً من السعي لخفض التوتر الذي تسبب به مسلكه، والذي جره إلى صدام مع وزير العدل، حيث اضطر إلى تنبيه الأول علناً إلى خطئه، عاد السيد هورتوفو في تصريحات جديدة ليشدد على أنه يؤكد ما قاله ويجدده! وهو كذلك لم يأبه بالطبع لتعليقات افتتاحيات الصحف التي تكلمت عن «ذهول الفرنسيين لمشهد قصر العدل محاصراً من الشرطة في الشارع».
الجدير ذكره أن رجال البوليس هؤلاء كانوا يستنكرون في نهاية المطاف مبدأ خضوعهم للحساب والمسؤولية. فزملاؤهم السبعة المدانون زوّروا معاً محضراً يتهم مواطناً بصدم رجل شرطة عمداً بسيارته والتسبب بجرحه، وهي جناية عقوبتها الحبس المؤبد لأن السيناريو الذي ركَّبه معاً الشرطيون يشير إلى «محاولة قتل شرطي أثناء أدائه مهماته الرسمية»، بينما الحقيقة أن الشرطي وقع جريحاً لصدمه خطأ من جانب زملائه أنفسهم أثناء مطاردة سارق سيارة! وهو ما كان ليمر عملياً بلا عقاب عليهم! فلماذا هذا المسلك، وبعده هذا الاعتراض الصاخب، والمدعوم، إن لم يكن للتشديد على إفلات الشرطة من كل محاسبة!
تكررت إلى حد لافت (في بلد ديموقراطي متحضر!) حوادث الوفاة في مراكز الشرطة أو أثناء المطاردة أو التوقيف، بسبب الفظاظة الكبيرة في الوسائل المستخدمة، ومنها إطلاق النار أو الضرب المبرح، وكذلك استخدام تقنية الخنق. وقد مُوهت تلك الحوادث دوماً على أنها نتاج سكتة قلبية أو قصور صحي أصلي، على رغم الآثار البادية على جثث الضحايا... ومعظمهم من أبناء المهاجرين، حيث التبعات أقل واقعياً! بعض تلك الحوادث أشعل الضواحي بتمردات عنيفة وضعت في التساؤل مسألة الشرخ الوطني القائم على أسس عرقية أو دينية، تغذيها تصريحات وزراء، منهم السيد هورتوفو نفسه، وهو نجم في هذا. وتستند هذه الممارسات إلى خلفية عامة قائمة على تبني القمع الأمني فحسب للمشكلات الاجتماعية، ومنها مشاكل الضواحي حيث نسبة البطالة هي ثلاثة أضعاف النسبة الوطنية العامة، وحيث يمتزج الإهمال المتمادي بمسلك تحقيري وتمييزي خطير.
وأخيراً طالبت عرائض عامة بوقف استخدام مسدسات تايزر الكهربائية، التي تُلقي بشحنة من 50 ألف وات على المراد توقيفه، وقد تسببت بأكثر من حادث خطير منها وفاة رجل منذ أسابيع. كما فعلت بنادق الفلاش بول الواسعة الاستخدام من الشرطة.
ولكن، عدا المسخرة هذه، وبما يتجاوزها، وقع هنا اعتداء رئيسي على مبدأ الفصل بين السلطات، حيث نشهد تدخلاً سافراً من السلطة التنفيذية في عمل السلطة القضائية. ومعلوم أن الفصل ذاك جوهر فلسفة الديموقراطية، بينما ابتذالها بات يركز على تحقق أحد مظاهرها، وهو الانتخابات العامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات