بقلم يسرى فودة ١٧/ ١٠/ ٢٠١٠ |
تماماً مثلما كان البعض يتوقع – وربما لايزال البعض من هذا البعض يتوقع – أن تتحرر القدس على أيدى قناة فضائية عربية، يختلط الأمل بالوهم فى مصر فيلقى بعضنا على أكتاف مهنة الصحافة، مقروءة ومرئية، ما لا تطيقه وما لا يدخل أصلاً فى نطاقها فيظلمها ويظلمنا ويظلم المجتمع كله. ويزيد الأمر تعقيداً حين يتعدى اختلاط الأمل بالوهم مستوى السذاجة المهنية إلى مستوى «الغرض». وإذا كان المرء على استعداد لالتماس العذر لجانب من الصحافة المصرية وجدت نفسها – لأسباب مختلفة، منها ما هو سياسى ومنها ما هو تجارى ومنها ما هو شخصى – فى موقف تحاول معه أن تسد فراغ الشارع المصرى من دروب سياسية حقيقية يمكن لها أن تعبر بصدق عن آماله وآلامه وطموحاته وإحباطاته، فإن الذى لا يمكن لمنطق أن يتقبله هو أن تتحول صحيفة إلى حزب سياسى، أو أن تتحول قناة تليفزيونية إلى جماعة ضغط، أو أن يتحول صحفى إلى ناشط ولو حتى فى مجال حقوق الإنسان. بل إن البعض تحول إلى أداء دور المحافظ، وإلى أداء دور الوزير، وإلى أداء دور الجمعية الخيرية. يحكم الله على نواياهم، لكن ذلك – حتى بافتراض حسن النية – لا علاقة له بمهنة الصحافة، لا من قريب ولا من بعيد. سنظلم هذه الأطراف كلها إذا خلطنا بعضها بالبعض الآخر، وسنقدم – نحن الصحفيين – بأيدينا سلة ذرائع متكاملة للسلطة، أى سلطة، كى تحرم الصادقين من الصحفيين المهنيين من أدوات حاسمة يحتاجون إليها وهم يقومون بدورهم الحقيقى الذى يتلخص – على حد تعبير روبرت فيسك – فى كلمتين هما «تحدى السلطة»، أى سلطة، ولا يمكن لهذا أن يؤتى ثماره إلا عن طريق المعلومة الدقيقة المجردة والرأى العادل النزيه. لقد ألقت الصدفة فى أحد أيام عام ٢٠٠٤ بالزميل أحمد منصور إلى قلب الفلوجة وهى واقعة تحت حصار الأمريكيين. وبينما سيذكر التاريخ أنه ربما لأول مرة فى التاريخ يضع قائد قوات الحصار شروطاً لتخفيفه من بينها خروج صحفى من تلك المدينة المحاصرة، فإنه سيذكر أيضاً أن فرصة رائعة توفرت أمام أحمد منصور لكسب تعاطف الرأى العام العالمى وتقوية شوكة الرأى العام العربى، لكنه أضاعها بانخراطه فى منهج عاطفى لم يكن يحتاجه وفى تبنى موقف أيديولوجى كان ينبغى أن يضعه فى «فريزر» أثناء وقوفه أمام الكاميرا، وفى ارتكاب أخطاء مهنية ساذجة وفرت فى نهاية اليوم وقوداً استخدمه أساطين «الإعلام» الغربى فى حرق ما قدمه لنا كله، بما فيه من حقائق لو كان تركها تتحدث عن نفسها بنفسها لأخرستهم. وبعد ذلك كله خرج الزميل أحمد منصور من تلك الواقعة «بطلاً» بينما خسرنا نحن الواقعة نفسها. شىء من هذا القبيل يحدث الآن فى مصر، وهو ما دعانى إلى أن أكتب مقالاً قبل أشهر قليلة عنوانه «نعم لحبس الصحفيين» عندما يتعمدون الإساءة إلى الحقيقة عن جهل أو عن كسل أو عن غرض، ولا للمساس بهم (أو بأى مواطن) عندما يعبرون عن آرائهم التى يعلنون على الملأ أنها آراء تنطلق من حسن النية وتتزين بالأدب وتصطحب معها الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع لا تجاه السلطة، أى سلطة. مخاطراً بأن يتهمنى البعض بالانحياز إلى السلطة – وهو ما سينقصف قلمى قبل أن أفعله – أجد داخلى اليوم قليلاً من التعاطف مع من شملهم حتى الآن ما يبدو أنه بداية حملة تهدف إلى «قرص الودن»، مع بعض الاستثناءات بطبيعة الحال. إن البطولة الحقيقية للصحفى لا تكمن فى صوته العالى الذى يفرض نفسه على الآذان والأعين والمشاعر، مستغلاً فى الطريق أمة تشعر بالإحباط والغضب، بل إنها تكمن فى حقائقه الصارخة التى تفرض نفسها على العقل والمنطق والفطرة عسى أن يساهم يوماً فى محو أسباب الإحباط والغضب. وإمعاناً فى الفرز ينبغى أن يضاف إلى هذا أن البطولة الحقيقية للصحفى لا تكمن فى وصوله إلى الحقيقة وحسب، بل تكمن فى وصوله إلى الحقيقة فى إطار ما هو متاح من قوانين. فإذا رأى صحفى أن ما هو متاح من قوانين لا يكفى للقيام بالحد الأدنى من وظيفته فى المجتمع فربما يكون من الأجدى عندئذ أن يصبح ناشطاً سياسياً فى العلن كى لا يظلم الصحافة وكى لا تظلمه الصحافة. نخطئ كثيراً فى حق أنفسنا إذا اعتقدنا يوماً أن الصحافة «رامبو»، ونخطئ أكثر إذا اعتقدنا أنها «ميكى ماوس». إنها صحافة وحسب، وللصحافة قواعد.... والقواعد ليست سراً. والذى يبدو فيما يشهده الوسط الصحفى فى مصر هذه الأيام هو أن أحداً ما قرر لهدف ما – بغض النظر عن ذلك الهدف رغم أهميته فى حد ذاته – أن يقوم بإعادة ترتيب المنزل الصحفى نيابةً عنا، وهى مهمة كان ينبغى علينا نحن أن نقوم بها أولاً قبل أن نكتسب الحق فى إغلاق الباب دونه. من واجبنا على أنفسنا أن نعترف لأنفسنا بهذه الحقيقة مثلما هو من حقنا أن نتساءل عن كنه نوايا المتطوعين من خارجنا بترتيب المنزل. لكن الواجب يسبق الحق. الواجب وحده هو الذى يضعنا فى موقف قوة ننطلق منه إلى مكتسبات الحق. لا يتساوى موقف كهذا مع موقف يحتج البعض فيه بأنك مهما فعلت لن تعدم السلطة ذريعة لفرض ما شاءت متى شاءت. الفارق لا يحتاج إلى كثير من العبقرية؛ فحين تستكمل أدواتك أولاً يتولد لديك تلقائياً إحساس بالثقة بالنفس، وتفرض احترامك على الآخرين، وتتمكن من تطويع ما هو متاح من ظروف للوصول بأداء الواجب إلى أقصى نقطة ممكنة، ومن ثم تضطر الآخر إلى بذل مجهود أكبر وإلى التفكير جدياً قبل أن يواجهك. فإذا قرر أن يواجهك بعد ذلك كله سيقرر كاتب – كهذا الذى يكتب هذه السطور على سبيل المثال – أن يتخذ موقفاً أقوى من الذى يتخذه الآن إلى جانبك. استقيموا يرحمكم الله. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات