سلامة كيلة
كان واضحاً أن الثورة السورية كانت الكاشف لوضع اليسار العالمي، ولخواء فكري يعيشه، وإفلاس يعلن عنه. فقد أظهر عجزاً عن فهم التحولات العالمية، وعجزاً أكبر عن استيعاب معنى الثورات، لهذا ظل يكرر الخطاب الذي حفظه منذ زمن طويل، حين كان هناك استعمار، وبات المستعمرون هم "العدو الرئيسي"، وحين كان هناك اشتراكية، حيث كانت في تصارع مع الإمبريالية. وأيضاً لم يلمس التحولات التي طالت "بلدان التحرر الوطني"، وطبيعة الصراعات التي تنشأ بين الدول، بعد أن تلبرلت. ولهذا انساقت خلف النظام السوري، كونه أولاً من نظم "التحرر الوطني"، ويعتمد "التنمية الوطنية"، و"يدعم المقاومة" وفي محور الممانعة. وأيضاً هو "في تناقض" مع الإمبريالية الأميركية.
كل ذلك كان يظهر قصور الوعي، وغياب التحليل الماركسي، ويُظهر حنيناً جارفاً لماضٍ زال. وبهذا بات اليسار في صف رأسمالية مافياوية، ونظام استبدادي، وداعماً لوحشية لا مثيل لها. كما بات في صف الإمبريالية التي ينطلق من عدائه لها في موقفه ذاك، ومع النظم الرأسمالية التابعة التي كلها كانت تقف ضد الثورة، وعملت على تدميرها مباشرة كما فعلت إيران وروسيا وحزب الله والميليشيا الطائفية العراقية، أو بشكل غير مباشر عبر تفكيكها وأسلمتها كما فعلت السعودية وقطر. لقد بات اليسار العالمي في الصف المعادي للثورة، ولهزيمة الإمبريالية والرأسماليات المافياوية. بات في صف الرأسمالية ضد الشعوب، وبات يشكك في ثوراتها، ويدعم الساعين لسحقها.
(1)
اصطدمنا منذ البدء بموقف اليسار العالمي، الذي انطلق من الشكل القديم للعالم، أي من كون أميركا هي قوة السيطرة الإمبريالية، زعيمة الإمبريالية، التي تخوض الصراع ضد الشعوب.
هي كذلك، لكن جرى التعامل من منطلق أن كل من يختلف معها هو "تحرري" و"تقدمي"، وحتى "ثوري"، كونه "معادياً للإمبريالية" التي تتخلص في أميركا. تصبح هي "الشيطان الأكبر"، ويصبح كل مختلف معها، بغض النظر عن الأسباب، حاملاً لكل الصفات التي مرّ ذكرها. بالتالي هنا الدولة الإمبريالية الأميركية، وهناك الدول التي تختلف معها. لهذا نحن نحارب "الدولة الأميركية" كونها إمبريالية، ونقف مع الدول التي تختلف معها بغض النظر عن أسباب هذا الاختلاف.
المبدأ هنا يرتكز على السياسي، أي الدول، وينطلق من "الصراع السياسي" بين الدول، ولا يلتفت إلى الاقتصاد والطبقات والصراع الطبقي. يلتفت إلى الصراعات السياسية ولا يلتفت إلى الترابط أو التصارع الاقتصادي، متجاهلاً أن "السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد"، وأن الأمر في الماركسية يتعلق بكون الاقتصاد والبنى الاجتماعية التي تقوم عليه هي التي تحدِّد السياسة والأفكار. وأن فهم الإمبريالية يقوم على فهم الاقتصاد الذي شكّلها.
إن الخلاف الذي تفاقم بين أميركا والنظام بعد اغتيال رفيق الحريري، والعقوبات التي فرضتها أميركا، وسعيها لإسقاط النظام، جعل هذا النظام في نظر اليسار العالمي "معادياً للإمبريالية"، وأُسبغت عليه كل ابهة حركات التحرر والنزوع الاشتراكي، والبلد الذي لا زال مستمراً في تحقيق "التنمية المستقلة". رغم أن هذه المرحلة (2004/ 2007) كانت الأسرع في فرض اللبرلة، والميل للربط مع المركز الإمبريالي، ومع الطغم المالية، والرأسمال الخليجي والتركي، وبالتالي تكريس التشابك مع الرأسمالية من موقع التابع، كون الرأسمالية الجديدة التي نشأت عبر نهب الدولة والمجتمع، نشطت في القطاعات الريعية، وكانت تصدّر أموالها للتوظيف في الخارج. لنلمس هنا أن "الإشكال" السياسي الذي حدث ترافق مع ترابط اقتصادي وليس مع قطيعة اقتصادية، كان يحمل في مضمونه ميل للتصالح السياسي. وهذا ما حدث بعد وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة.
هنا إشكال نظري عميق، يقزِّم الماركسية إلى نظرية في الصراعات السياسية. يحل المفهوم الجيوسياسي محل التحليل الاقتصادي الطبقي. لهذا يكتفي هذا المنظور بمظهر الصراعات دون لمس جوهرها لكي يحدد مواقفه. وهو بذلك لا يحتاج إلى معلومات، وفهم للواقع وعنه، حيث أن الشكل (الصراع) "يعبِّر" عن الواقع، هو الواقع، بمعنى أن الواقع هو هذه الصراعات السياسية، ومن ثم علينا أن نكون هنا أو هناك. وفي هذا مراوغة، لأن للصراعات أسباب متعددة ليست كلها تحررية وثورية، فهناك التنافس بين الإمبرياليات، وهناك محاولات تحسين التوضّع فيما يتعلق بالرأسمالية التابعة، وسعيها إلى أن تضغط لكي تحقق مصالحها بشكل أفضل.
ويمكن أن نقول أن هذا الإشكال النظري تمثّل في البقاء في حدود المنطق الصوري، الذي يرى الشكل دون المضمون، ويلمس الحدث دون البحث في تاريخيته وأبعاده، وينطلق من ثنائية حتمية مبدؤها هو: إما/ أو، أو مع/ ضد. ولهذا إذا جرى اعتبار أميركا هي العدو فإن كل من يختلف معها هو صديق. وهذا المبدأ يحكم كل تحديد للعدو، ليكون المختلف معه صديقاً. بالتالي هنا ليس من ماركسية، حيث لم يرتق اليسار العالمي إلى مستوى تمثُّل منهجيتها: الجدل المادي. المادي، أي الذي ينطلق من الاقتصاد والطبقات وليس من السياسة والأيديولوجية، لأن هذه نتاج ذاك وليس العكس.
لهذا اقول ان أميركا إمبريالية، لكن أساس إمبرياليتها هو النمط الاقتصادي الذي فُرض على العالم، والذي تتحكم به هي. ولهذا فإن ما يكون ضرورياً أولاً فهم علاقة الطبقة المسيطرة في سورية بمجمل هذا النمط، هل أنها منخرطة به أو أنها في قطيعة معه. إن فرض اللبرلة عنى بالضرورة الانخراط في النمط الرأسمالي، لهذا باتت الرأسمالية السورية المسيطرة جزءاً تابعاً فيه بالضرورة. لماذا الخلاف؟ طبعاً يمكن أن يحدث خلاف بين راسمالية تابعة تحاول تحسين وضعها وإمبريالية تريد فرض علاقة لمصلحتها. وهذا ما كان واضحاً في سورية، حيث كان "رجال الأعمال الجدد" (المافيا العائلية)، يجهدون من أجل التفاهم مع أميركا، لكن كان المنظور الأميركي مختلفاً، بالضبط لأن سياسة بوش الإبن كانت تطمح بقيام نظام طوائفي في سورية في إطار منظورها للشرق الأوسط. بالتالي الخلاف كان بالضبط في رفض أميركا لاستمرار هذه السلطة لمصلحة سلطة طوائفية تنشأ من داخلها (غازي كنعان وعبد الحليم خدام).
(2)
في مستوى آخر، سنجد بأن هذا المنظور الصوري الذي حكم اليسار، تمظهر من خلال عكس الصراعات الداخلية في كل دولة، أو على صعيد أوسع، فحكم تحديد الموقف من الثورة السورية. حيث بات الخلاف مع النظام القائم، أو مع حزب ما، يحدد الموقف. فبات موقف النظام من الثورة أو موقف حزب معين، هو المحدِّد لموقف اليسار. وهنا يجري اعتماد الموقف المعلن للنظام دون تحديد أساسه والأسباب التي أدت إليه، ولا مدى عكسه للموقف الفعلي. ودون لمس أنه يمكن في لحظات أن يجري "التوافق" بين طرفين متصارعين في موقف معين. وما يحدد الموقف من قضية ما هو بحثها بمعزل عن تشابكاتها أولاً، وعن مواقف القوى الأخرى، فهي قضية قائمة بذاتها، ولا شك في أنها سوف تلقى مواقف من أطراف عديدة متناقضة، وعلى ضوء تحديد ماهية القضية يمكن فهم مواقف مختلف القوى. ما يجري هو العكس، فإن الموقف من قوة ما هو الذي يحدد الموقف من القضايا الأخرى.
إذن، هناك أولاً الموقف الحقيقي للقوى، وهناك ثانياً إمكانية توافق قوى متناقضة حول قضية معينة، هذا امر يجري في الواقع، وليس مطلوباً نتيجة ذلك تغيير الموقف من تلك القوة أو اتخاذ موقف خاطئ من القضية. لكن مع الأسف هذا ما يجري من قبل اليسار العالمي. فهو يرى العالم من خلال ثنائية تحكم منظوره، ويحدد مواقفه على ضوء صراعه مع طرف معين (حزب أو سلطة أو الإمبريالية). دائماً هناك طرف محدِّد لموقفه، هو ما يعتبر أنه "التناقض الرئيسي"، وما يخوض الصراع المستمر معه. بمعنى أن منظوره يقوم على عكس رأي "العدو الرئيسي" وليس على منهجية بدأ بتحليل الواقع بغض النظر عن مواقف القوى والدول. هنا يصبح تحديد المواقف سهلاً، لأنه يقوم على ضد موقف "العدو"، وهذا لا يحتاج إلى فهم وتحليل بل إلى "رد فعل"، بالتالي دون "عقل"، بل عبر "الغريزة".
أشرت قبلاً إلى الموقف من "الإمبريالية الأميركية"، وبالتالي اعتبار كل مختلف معها "معنا" أو نحن معه (بغض النظر عن التوصيف، هل هو تحرري أو تقدمي أو ثوري، أو برجوازية وطنية). لكن هناك أشكال أخرى يتمظهر فيها موقف اليسار من الثورة السورية. فمثلاً كان الموقف ضد نظم الخليج العربي، وخصوصاً السعودية، ومن ثم قطر، يفرض على اليسار أن يكون ضد الثورة، بالضبط لأن السعودية تعلن أنها مع "الشعب السوري"، بينما كانت في الواقع تدعم السلطة، وتجهد لوقف المدّ الثوري قبل أن يصل إليها، في وضع يسمح بذلك نتيجة الوضع الاقتصادي المزري لجزء كبير من الشعب. وهذا ما أشار إليه بشار الأسد في تصريح واضح بداية سنة 2015، حيث أشار إلى أنها طلبت منه أن يسحق الثورة ويسحق الإخوان. لم يجهد هذا اليسار لفهم الموقف الحقيقي للسعودية، لكنه أخذ "التصريحات" لكي يبني عليها موقفه، الموقف النقيض لموقفها، فوجد ذاته ضد الثورة بالضرورة. وهنا تظهر الصورية واضحة، ويظهر الكسل الفكري، أو الموات الفكري، بأجلى صوره.
بالنسبة لقطر الأمر مختلف قليلاً، فقد كانت في محور الممانعة، وداعمة للمقاومة، فكان موقف اليسار إيجابياً منها. لكن انقلب الموقف على ضوء اختلافها مع النظام دون فهم أسباب هذا الاختلاف، فباتت متآمرة وإمبريالية، كأنها لم تكن كذلك من قبل، وفقط حين اختلفت مع النظام باتت كذلك. بالتالي ليس التكوين الداخلي لقطر هو ما يحدد الموقف منها بل ان علاقتها بالنظام السوري هي هذا المحدِّد. لكن في الماركسية ليست العلاقة هي المحدِّد بل الوجود، الماهية، البنية.
هذا النظر الشكلي يحكم اليسار التركي، الذي ينطلق من صراعه مع حزب العدالة والتنمية في تحديد مواقفه. لهذا كان ضد الثورة السورية نتيجة "دعم" أردوغان لها. ولا شك في أن حزب العدالة والتنمية يمثل "برجوازية محافظة" مغلفة بالدين، وبالتالي فهي ليبرالية وأصولية معاً، لكن ليس هذا كافياً لاعتبار أن على اليسار أن يأخذ موقفاً مضاداً لها في كل القضايا، فقط لأنه ضدها. بل يجب فهم أسباب مواقفها، وكشف الهدف من هذه المواقف. لقد كان أردوغان في تحالف وثيق مع بشار الأسد، وحصل عبر هذا التحالف الإستراتيجي على مكاسب هائلة. وكان النظام يعزز هذه العلاقة، وفي سبيلها قدّم اتفاقات اقتصادية أضرت بالاقتصاد السوري. وحين نشبت الثورة سعت تركيا لأن تقنع بشار الأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية لكي يحافظ على سلطته، وظلت تضغط من أجل ذلك خمسة أشهر بعد الثورة، بالضبط لأنها حريصة على استمرار النظام نتيجة أرباحها الوفيرة. وحين قررت الانقلاب على النظام فعلت ذلك نتيجة خشيتها من تدخل أميركي يستغلّ استخدام النظام للجيش في مواجهته الشعب لكي تتدخل (وهو الوهم الذي حكم النظام والمعارضة)، ولهذا سعت لاختيار بديل يحقق مصالحها، على رأسه جماعة الإخوان المسلمين المرفوضين شعبياً.
هذا يعني أن أردوغان يدعم طرف في المعارضة لكي يصبح هو السلطة، وهو طرف لا شعبية له، ولم يكن فاعلاً في الثورة، سوى في التأثير السلبي فيها (الأسلمة، ودعم التدخل الإمبريالي). ولهذا كان تدخلها ضاراً بالثورة. بمعنى أن مصالح حزب العدالة والتنمية هي التي دفعت لدعم طرف يحلّ بدل بشار (الذي كان صديقاً حميماً) ما دام سيسقط نتيجة معاندته الثورة، وقراره بالمضي قدماً في العنف من أجل سحقها. وهذا ما كان يضرّ بالثورة لأنه يفرض طرفاً مرفوضاً كبديل، ويعمل على تقويته وتمكينه على حساب الثورة. ألم يكن دور اليسار هو كشف هذا الدور الضار بالثورة، وكشف الاهداف الحقيقية لحزب العدالة والتنمية؟ ومن ثم دعم الثورة لكي تقوى على حساب الأطراف التي تريدها تركيا؟
وإذا كانت بعض أطراف اليسار التركي في علاقة مع النظام السوري قبل الثورة، وخلال العلاقة الحميمة مع أردوغان، فإن هناك من اليسار الذي رأى فقط "دعم" أردوغان للثورة ليتخذ موقفاً ضدها. لكن أيضاً مع النظام السوري، الذي لا يختلف من حيث تكوينه الطبقي عن نظام حزب العدالة والتنمية. لكن "العقل الأحادي" يفرض هذه الثنائية التي تفترض الوقوف مع طرف ضد آخر، فليس من مجال أوسع، أو من خيارات أخرى.
في تونس ومصر، وبلدان أخرى، انبنى الموقف من الثورة السورية على موقف اليسار من الإخوان المسلمين والسلفيين، حيث فرض تصاعد دور قوى أصولية في الثورة السورية، وتصاعد حدة الصراع بين اليسار وحركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر، في إطار الصراع المجتمعي بعد سيطرة الإسلاميين على السلطة، فرض أن تجري رؤية الثورة السورية من منظور هذا الصراع، لهذا تحوّل موقف تيارات يسارية من تأييد الثورة إلى الوقوف ضدها ودعم النظام. لقد حكم الصراع الداخلي الموقف من الثورة السورية، خصوصاً أن جماعة الإخوان المسلمين تعلن دعمها للثورة السورية، ويرسل "جهاديين" من هذه البلدان إلى سورية للقتال مع داعش التي باتت تعتبر هي التي تقاتل النظام، رغم أنها تقاتل الثورة، ليظهر الخوف من هؤلاء، وليلمس الخوف من خطرهم المحلي.
هنا تنعكس تعقيدات الوضع الداخلي وتعقيد واقع الثورة على مواقف اليسار، ليقع في ثنائية الإسلاميين وضد الإسلاميين، ليصبح النظام السوري "علماني"، ومناهض للأصولية، رغم أنه كان يرعى وجودها وتضخمها طيلة عقود سابقة. وهو الذي أطلق هؤلاء "الجهاديين" الذين باتوا يقودون أهم المجموعات الأصولية، مثل النصرة وبالتالي داعش، وأحرار الشام وجيش الإسلام. وهو الذي يلعب بها ضد الثورة كما ظهر طيلة السنتين الماضيتين. ولا شك في أن جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين يدعمون "جماعتهم" وليس الثورة بشعاراتها وأهدافها. بالتالي كان على اليسار أن يقف مع الثورة ضد هؤلاء، كما ضد النظام الذي لم يكن يختلف عن نظام بن علي (وكان حليفة الوثيق) أو نظام حسني مبارك، والأنظمة الأخرى. ولقد كان الشعب، والكتائب المسلحة، تخوض صراعاً ضد القوى الأصولية، وضد أسلمة الثورة وإخضاعها لمصالح دول إقليمية.
(3)
إذا كان الموقف من "الإمبريالية" هو الإطار العام الذي يحكم نظر اليسار العالمي، وكانت الصراعات المحلية هي الإطار الذي يحكم نظر العديد من أحزاب اليسار كما أشرنا للتو، فإن عنصراً آخر لعب دوراً في تحديد الموقف من الثورة السورية، هذا العنصر هو: فلسطين. ورغم دور النظام السوري في تحجيم المقاومة الفلسطينية، والسيطرة عليها، ورغم استقرار جبهة الجولان طيلة العقود الماضية، وأيضاً رغم العلاقات المستمرة بين النظام والدولة الصهيونية، وآخرها تلك المفاوضات التي بدأت سرية سنة 2007 وباتت علنية برعاية تركية سنة 2008، فقد جرى تذكّر أن النظام السوري معني بـ "تحرير فلسطين"، ويدعم المقاومة الفلسطينية.
لا شك في أن صراعات النظام مع أميركا بعد سنة 2005 قد رفعت من مستوى خطاب النظام، لكنه ركض نحو الدولة الصهيونية لكي تتوسط مع أميركا بعد الحصار الأميركي الذي تبع اغتيال رفيق الحريري. وإذا كان استفاد من حرب سنة 2006 ضد حزب الله كونه ممر سلاح الحزب، فقد ظل يسعى للتفاهم مع أميركا كما أشرنا قبلاً، ومع الدولة الصهيونية، حيث أن وجوده بعد أن سيطرت رأسمالية مافياوية على السلطة بات مرتبطاً بتوضعه في الإطار الرأسمالي.
لكن ظل هنا من يرى أنه لم يوقع اتفاق مع الدولة الصهيونية، وأنه يدعم المقاومة، في وضع عربي باتت تتحكم به الإمبريالية الأميركية، وأخذ ينفتح على الدولة الصهيونية. هناك قطاع فلسطيني في الأرض المحتلة كان يرى أن ذلك كافياً للوقوف مع النظام. واتخذت قوى اليسار الموقف ذاته، رغم أن شباب هذه القوى كان يتخذ موقفاً آخر، يدعم الثورة السورية. وظهر أن السلطة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية تقف مع النظام ضد الثورة، حتى وهو يقصف مخيم اليرموك ومخيم خان الشيح، وقبلها يدمر مخيم درعا والرمل الجنوبي. ولا شك في أن موقف حماس الذي بدا أنه يدعم الثورة (قبل تراجعها) سبباً في وقوف السلطة وبعض الفصائل في صف النظام، ودفاعها عنه.
ولا شك في أن موقف اليسار الفلسطيني كان مؤثراً في مجمل اليسار العالمي نتيجة "قدسية" القضية الفلسطينية والتأييد المطلق لها من قبل هذا اليسار. لكن ربما كان موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو الأخطر هنا، نتيجة ثقة العديد من أطراف اليسار العالمي بمواقفها، وانسياقها خلفها دون تدقيق أو تحليل. وموقف الجبهة الشعبية انبنى بعضه على وهم دعم النظام السوري لفصائل المقاومة الفلسطينية، وموقفه الداعم لها، لكن الجزء الأهم من الموقف انبنى انطلاقاً من طبيعة العلاقة المركبة التي تحكم علاقتها بالنظام السوري، وهي التي تتواجد مكاتبها وقياداتها في دمشق، وبالتالي تتراوح مواقفها بين المصلحة والخوف ولا تخضع للتحليل والفهم. وهذه القيادات تعرف ما الذي فرض الثورة، وكيف اشتغل النظام لتشويهها، وكيف نشأت القوى الأصولية، لكنها تكرر خطاب السلطة (كما فعلت ليلى خالد)، ويبرئ النظام من كل ما يجري.
إن قدسية القضية الفلسطينية باتت تتحوّل إلى مدخل لتظهير نظام مافياوي وحشي، وهذا ما يتحمل مسئوليته اليسار الفلسطيني، وخصوصاً الجبهة الشعبية التي فرضت مصالحها الذاتية عليها أن تتخذ هذا الموقف الممالئ للنظام. وهو الأمر الذي شوه مواقف قطاع من اليسار العالمين وجعله يقف ضد الثورة ومع نظام مافياوي وحشي. رغم أنه "من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام"، لأن النظام عقبة في تطوير الصراع ضد الدولة الصهيونية، وهو يسعى للتفاهم معها، ولقد أنهى الصراع معها منذ زمن طويل بعد أن قرَّر أن السلام هو الخيار الإستراتيجي، وحفظ استقرار الجولان طيلة العقود الأربعة السابقة. ولقد كان حزب الله ورقة بيده، ضد اليسار اللبناني أولاً، حيث عمل الحزب، بالتعاون مع النظام، على إنهاء جبهة المقاومة اللبنانية التي أطلقت القتال ضد الاحتلال الصهيوني، وهو منذ سنة 2006 قد أنهى الصراع مع الدولة الصهيونية بعد أن وافق على القرار 1701 الذي ينهي الصراع ويبعد الحزب ثلاثين كيلو متراً شمال الحدود، وبات الحزب في وضع "دفاعي".
بالتالي فإن لليسار الفلسطيني، خصوصاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، دور سيء في موقف اليسار العالمي من الثورة السورية، فرضتها مصالحها الخاصة وليس الموقف المبدئي، وبالتالي فهي توقع هذا اليسار في شرك موقف خاطئ نتيجة مصلحة خاصة. وهذا أسوا ما يمكن أن يحكم يساراً.
(4)
يبقى وضع "اليسار السوري"، وأقصد ما يسمى اليسار الذي هو جزء من النظام القائم، والذي هو جزء من الأحزاب الشيوعية والعمالية، التكتل الذي هو استمرار للحركة الشيوعية العالمية، والتي أعادت تنظيم لقاءاتها بعد سنوات من انهيار الاشتراكية. ومن هذا الموقع فهو مؤثر في مواقف اليسار العالمي كونه جزء منه، ومشارك في السلطة في سورية، ليكون الموقف "الطبيعي" هو "وطنية" السلطة و"تقدميتها" و"معاداتها للإمبريالية".
لم يكن غريباً أن يكون هذا "اليسار" مع السلطة، وأن يدافع عنها بكل ما يستطيع، رغم خسارته قاعدته التنظيمية التي انخرطت في الثورة كونها من المفقرين، فقد بات منذ زمن بعيد جزءاً من بيروقراطية السلطة، حيث حصل على مواقع مهمة فيها (وزراء وأعضاء في مجلس الشعب، ومدراء عامين ومدراء شركات مهمة مثل النفط والحبوب، وأعضاء في مجالس المحافظات وقيادة النقابات). إنها جزء من بيروقراطية السلطة، ولهذا لا يمكن أن يكون موقفها إلا مع السلطة التي هي جزء منها. وهذا ما يجعلها تكرر خطاب السلطة، وتعتبر أن الصراع هو صراع ضد مجموعات أصولية، وأن ما جرى هو "مؤامرة إمبريالية" من أجل "النيل من صمود سورية".
والمشكلة أن هذا اليسار كان يشير إلى حالة الإفقار التي يتعرض الشعب لها، وكيف أن السياسة الاقتصادية سوف تؤدي إلى أزمة مجتمعية. ولقد نقد طويلاً تلك السياسات، لكن من منظور تنبيه السلطة لما يمكن أن تؤدي إليه. لكنه حين أدت تلك السياسات إلى الثورة اصطفّ مع السلطة ضد الشعب. وهو في موقفه هذا ينطلق من فكرة قالها خالد بكداش قبل ربع قرن، حيث برَّر تحالفة مع النظام بـ "موقفه المعادي للإمبريالية" رغم أن النظر للوضع الداخلي يفرض "الوقوف في المعارضة" كما قال. لهذا فإن الغطاء الذي تبرر به دعمها النظام هو هذا، أي اعتبار أنه "معادي للإمبرالية" رغم معرفتها بكل ميول المافيا التي باتت تسيطر على الدولة.
ليس التاريخ هو الذي يحدد من هو اليسار بل الواقع، وحين يصبح هذا اليسار جزءاً من سلطة مافياوية لا يعود يساراً، وتكون مواقفه من السلطة مجال تشكيك. لكنه بكونه كان جزءاً من الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، ظل معتمداً من هذا اليسار الذي وقف بقوة مع نظام مافياوي مستبد، وكان لرأيه رجحاناً لافتاً كونه سوري.
(5)
كان كل ذلك يشير إلى إفلاس، حيث ظهر أن المنظور المنهجي قاصر، شكلي صوري ينطلق من ترسيمة عامة، قامت على أساس سياسي كما أشرنا. لقد توضّح إفلاس اليسار العالمي الذي استمدَّ منظوره من "الماركسية السوفيتية"، أو تأثر بها. والذي أعلى من الصراع ضد الإمبريالية، محولاً إياه إلى تجريد، وحاصراً معنى الإمبريالية في منظور سياسوي ضيّق، كما أشرنا.
لكن وضع الثورة تعقّد بشكل كبير، فقد تحوّلت إلى حرب مسلحة، دون إستراتيجية أو خبرة، أو انتظام، فبدت كمجموعات مناطقية، حال تتحرر مناطقها تقيم سلطة سيئة، وتكتفي بذلك. وحيث انتهى تقريباً النشاط الشعبي الذي كان السمة الجوهرية لعام من عمر الثورة. وتشرّد أكثر من نصف السكان، جزء كبير منهم خارج سورية، فتقلص عدد الناشطين، خصوصاً بعد أن زُجَّ بقسم كبير منهم في السجون، وتعرَّض قسم آخر للقتل أو الهرب، أو التحق بالعمل المسلح.
كما تضخمت المجموعات الأصولية، بفعل الدعم الإقليمي والدولي، ونتيجة التحاق شباب بها لأنها تمتلك المال والسلاح في وضع بات الصراع فيه ينحكم للغريزة، ويتسم بالوحشية التي تمارسها السلطة. ومال جزء مهم نحو الأسلمة، سواء نتيجة الحاجة أو نتيجة الوحشية التي تعيد إلى الغريزة، أو بفعل تسيُّد "الوعي الشعبي". ولهذا ظهر أن الأسلمة هي التي تسيطر على مجمل الكتائب المسلحة، وأن المجموعات الأصولية (داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام) هي الأقوى والأكبر.
وتشابكت معظم المعارضة مع مصالح الدول الإقليمية، وباتت تخدم سياساتها، كما مالأت القوى الأصولية طويلاً، واندفع قطاع منها نحو التأسلم، وحتى الطائفية.
على ضوء كل ذلك بات السؤال هو: أين هي الثورة إذن؟
لقد "اختفت" تحت تراكم هائل من الأسلمة والتبعية لهذه الدولة أو تلك. لقد تراكم فوقها ركام من الأصولية والمرتزقة والفقاعات، أصبحت هي ما يركّز الإعلام عليها، ويعتبر أنها هي الثورة. لقد تغطت الثورة بغلاف سميك من الأوهام والأساطير معززة بوجود تلك القوى الأصولية، وهؤلاء المرتزقة والمرتبطين بهذه الدولة أو تلك، وبكثير من الإعلام المضلل. هذا ما سهّل تراجع قطاعات من اليسار دعمت الثورة في مرحلة أولى، حيث بدا لها أن الثورة تحوّلت إلى صراع طائفي، أو حرب أهلية بين قوى "رجعية"، أو باتت تمثّل صراعاً بين السلطة والمجموعات الأصولية (داعش والنصرة). وأيضاً أنها باتت تنحكم لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
هل نستطيع نحن أن نجيب على سؤال: أين الثورة؟ وهل لا زال في سورية ثورة؟
هذا سؤال لنا، يخصنا، لكي نستطيع مواجهة كل المشككين، والمرتبكين، والذين تشوشت مواقفهم بعد تعقُّد الوضع، وتشابكه.
(6)
ما الحرب في سورية؟
في سورية صارت الحرب المسلحة هي "كل شيء"، فتراجع الحراك الشعبي الذي وسمها منذ البدء، وتهمّشت التظاهرات، وتقريباً اختفى النشاط المدني لمصلحة الصراع المسلح. لست هنا في وارد البحث في من سبّب ذلك، فقد أشرت إليه مراراً، حيث فرضت وحشية السلطة الانتقال إلى العمل المسلح، رغم أن قوى في المعارضة حاولت أن تستغله، ودفعته إلى متاهات أضرته. لهذا يُطرح السؤال حول طبيعة الصراع في سورية؟ هل لازال ثورة شعبية؟ هل هو حرب أهلية؟ أو هو صراع طائفي؟
التحديد المتداول يعطي ما يجري صفة "حرب أهلية". ومعنى الحرب الأهلية المتداول هو "الاقتتال الأهلي"، كما حدث في لبنان حسب الذين يطلقون هذا التوصيف. ورغم أن ماركس كان يعطي الصراع الطبقي صفة حرب أهلية (مثلاً كتابه الحرب الأهلية في فرنسا" الذي يتناول كومونة باريس وثورة البروليتاريا)، حيث أن الطبقات هي "أهلية"، أي من المجتمع، لكن هنا يجري الصراع عبر الدولة، حيث تكون سلطة الطبقة المسيطرة التي تخوض الصراع الدموي ضد تمرّد الشعب، كما حدث في ثورات 1848 وضد كومونة باريس سنة 1871. بالتالي فإن الصراع الطبقي و حرب أهلية بهذا المعنى، لكن المعنى المتداول يتجاوز ذلك، بالضبط لأنه يرى الحرب الأهلية كصراع بين فئات المجتمع، كتقاتل مجتمعي، بعيداً عن الدولة. لهذا يُعطى صفة طائفية كما في لبنان، أو قبلية أو مناطقية. رغم أن كل هذه الصراعات تجد جذراً طبقياً، وإنْ كانت تستخدم "ترابطات" سواء كانت "أيديولوجية" أو مناطقية، أو تعصبية إثنية.
فقد عمدت البرجوازية المسيحية اللبنانية إلى تكتيل المسيحيين خلفها انطلاقاً من "المسيحية" ذاتها، التي كان الاستعمار قد قدّم لتلك البرجوازية امتيازات باسمها، من أجل مواجهة الصراع الطبقي الذي تفجّر، فكان في طرف من الحرب الأحزاب المسيحية جارّين قطاعات مسيحية خلفها، وفي الطرف الآخر الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وكانت الدولة "خارج" الصراع، أو وسيطاً بين أطرافه، فهي دولة المحاصصة الطائفية أصلاً. لكن الصراع أنمى قوى أرادت تعديل المحاصصة الطائفية، وهذا ما حكم الصراع بعد وقف الحرب الأهلية الأولى (1975/ 1976)، وأفضى إلى اتفاق الطائف الذي عدّل من التوازن الطائفي في السيطرة على السلطة بعد أن قُسمت الأمور مناصفة، لكنه حسّن خصوصاً من وضع البرجوازية الشيعية التي حصلت على مواقع متساوية مع البرجوازيات الأخرى.
ربما هذا هو ما أُطلق عليه الحرب الأهلية، حيث كان واضحاً الصراع بين فئات من الشعب، لكل منها أحزابه، وجرى الشغل على أن يتخذ مظهر صراع طائفي. لكن ماذا يمكن أن تسمي ما يجري في سورية؟
فقد تفجّر الصراع بين الشعب والسلطة، وعمدت السلطة منذ البدء إلى استخدام العنف لكي لا يكون ممكناً استقرار الحشود الكبيرة في الساحات. رغم ذلك ظلت التظاهرات هي أساس الصراع لسنة بعد انطلاق الثورة، رغم بدء دخول العمل المسلح كرديف بعد ستة أشهر منها. ومن ثم توازى العمل العسكري والحراك الشعبي لفترة قليلة قبل أن تبدأ هجرات المناطق والقرى جرّاء القصف الوحشي، ويتصاعد عدد اللاجئين، وبالتالي تتراجع أكثر إمكانية استمرار التظاهرات. لكن الأمر اختلف بعد ذلك، حيث أصبح العمل العسكري هو الشكل الرئيسي في الصراع، وبات جزءاً كبيراً من المتظاهرين مسلحين أو لاجئين أو معنيين باللاجئين. ومن ثم نشأت الكتائب المسلحة في معظم مناطق سورية، وباتت تسيطر على جزء كبير من سورية بعد انسحاب قوات السلطة من كثير منها. حيث انتهى النشاط الشعبي فيها كذلك.
لكن، أيضاً، ظهرت مجموعات سلفية تابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة وداعش التي انفصلت فيما بعد وباتت بديلاً عنه)، ومجموعات سلفية أخرى تريد إقامة "الدولة الإسلامية" مثل أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام، وعديد من الأسماء التابعة لهذه المجموعات أو المستقلة عنها. حيث بات يظهر أن الصراع هو بين قوى أصولية وسلطة "علوية". وهذا ما كان يغذي الميل لتأكيد طائفية السلطة وتبرير طائفية تلك المجموعات، أو حتى دعمها أو الانخراط فيها. وبهذا فقد بات السؤال هو: هل أن ما يجري هو حرب أهلية أو حرب طائفية؟
فالنظام يوصّف بأنه طائفي، وتلك التنظيمات "الجهادية" تقوم على الصراع الطائفي، لأن أولويتها كما كانت تُطرح في العراق هي قتال الروافض والمارقين والكفرة، وليس في أجندتها قتال على أساس سياسي.
طبعاً الصراع الطائفي هو حرب أهلية كما جرى توصيف الحالة اللبنانية، أي حرب أهلية تتخذ شكلاً طائفياً. الآن ما هي طبيعة الصراع في سورية؟ حرب أهلية؟ صراع طائفي؟ سنلاحظ أولاً أن السلطة كسلطة (رغم أن قواها التي تستخدمها باتت من حزب الله وإيران والعراق وبلدان أخرى) هي التي تخوض الصراع ضد كل المناطق التي خرجت عن سيطرتها، وهي التي تعتقل وتقتل في مناطق سيطرتها. طبعاً هناك منظور طائفي يحكم القوى التي تدعمها، وهذا واضح في الخطاب الإيراني الذي يدافع عن السلطة ويرسل هؤلاء المقاتلين، اعتماداً على "العصبية الشيعية" (رغم أن العلويين ليسوا شيعة). وهناك ميل طائفي لدى العصابات التي شكلتها السلطة، والتي أعطتها فيما بعد إسم الجيش الوطني. هذا الميل يشمل بعض الفئات العلوية المنخرطة فيه، لأنه يضم من مختلف الطوائف. كما أن السلطة قامت بمجازر طائفية بهدف دفع الثورة إلى أن تأخذ منحى رد الفعل الطائفي، ولا شك في أن ذلك أسهم في "أسلمة" بعض الفئات السنية، وميلها للتعصب. لكن في كل ذلك تظهر السلطة كأساس في الصراع ضد الشعب. بمعنى أن السلطة تدافع عن مواقعها، وإيران تريد بقاء السلطة حماية لمصالحها، كذلك روسيا.
في الثورة، انتقل كثير من الشباب من التظاهر إلى العمل المسلح لتحقيق الهدف ذاته، أي إسقاط النظام. لكننا اليوم في وضع من التشتت والتفكك والفوضى كبير. فقد أُدخلت الأسلمة إلى الكتائب المسلحة تحت ضغط المال، ثم أُدخل "الجهاديون"، خصوصاً بعد أن أطلقت السلطة كل هؤلاء الذين كانوا في سجونها أشهراً بعد الثورة. لهذا وجدنا أن العمل المسلح بات يتوزع بين الدفاع عن المناطق، أو "تحرير" مناطق مجاورة، أو السيطرة على مناطق انسحبت السلطة منها. وإذا كانت جبهة النصرة قد "تحرشت" بالدروز، وحاولت أن تمارس صراعاً طائفياً في عديد من المناطق، كذلك داعش، وحتى جيش الإسلام، فإن المنطق العام الذي يحكم داعش هو أن الأولوية في الصراع هي ضد "المرتدين"، أي كل من تعتبره هي قد خرج عن الإسلام، لهذا تسعى لفرض سلطتها عليه، حيث "الإسلام" (أي ذاك الذي تعتقده هي) أو القتل. كل ذلك وهي تسعى لفرض "الخلافة" (أو الدولة الإسلامية). بالتالي فإن أولوية الصراعها هي مع الشعب الذي خاض الثورة، في المناطق التي انسحبت السلطة عنها. هذه أولويتها رغم أنه يظهر أنها تشتبك مع قوات السلطة هنا وهناك أحياناً (رغم تزايد ذلك بعد الغارات الأميركية). معركتها إذن هي مع الشعب تحت مسمى الحرب ضد المرتدين. أيضاً جبهة النصرة فعلت مثل ذلك، ورغم أنه يبدو عليها أولوية الصراع ضد السلطة، فإن حروبها تطال الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطةن وتسعى لفرض سلطتها و"خلافتها"، ومواجهة المرتدين والكفار. وربما أحرار الشام لم تفعل ذلك، لكن جيش الإسلام يخضع لتكتيك "خارجي"، لكنه يفرض سلطة أصولية في المناطق التي يسيطر عليها.
بمعنى أن كل تلك الممارسات هي ضد الشعب، الشعب الذي بات يواجه السلطة بكل وحشيتها، ويواجهة "الجهاديين" بعدد تنظيماتهم. لقد دفعت السلطة لأن تتحوّل الثورة إلى صراع أهلي، ساعدها في ذلك دول إقليمية ودولية، هل تحقق ذلك؟ ربما ما تحقق هو أستعصاء الصراع، وبالتالي العجز عن الحسم، حيث أن قوى متعددة تقاتل الشعب، والقوى التي تدافع عنه ومنه لا زالت مشتتة ودون خبرة كافية. إنها حرب الكل ضد الشعب، هكذا باختصار.
في سورية ثورة
يبدو أن تعقيد الصراع في سورية قد أوصل إلى تصور سهل ينطلق من أن ما يجري هو صراع بين النظام وقوى أصولية. ولا شك في أن الإعلام متعدد المصالح قد عمل على أن يظهر الأمر كذلك، لكن أن يقبل الأمر دون تدقيق فهو ما يستحق التساؤل. وأيضاً لا بد من التأكيد على وجود مجموعات أصولية، "جهادية" (وهي وهابية بالطبع)، من جبهة النصرة وداعش إلى جيش الإسلام وأحرار الشام، لكن هذا الوجود لا يوصل إلى استنتاج سريع بأن الصراع هو بين النظام وهذه المجموعات. ولا أن الصراع بات محصوراً بهذه المجموعات.
كماركسيين ننطلق من التحديد الطبقي أولاً وأساساً، لهذا لا يمكن أن نرى انفجار الصراع في سورية غلا كتعبير عن أزمة مجتمعية نتجت عن نهب طويل مارسته فئات في السلطة واصبحت من خلاله تشكل طبقة جديدة تمتلك الثروة، مشكلة أساساً من "العائلة" (أي عائلة الأسد ومخلوف وشاليش)، فرض ذلك تهميش أغلبية مجتمعية كانت الاحتقان يتصاعد لديها ككل البلدان العربية. ورغم ضرورة الديمقراطية والحريات في ظل سلطة مستبدة (كانت متحالفة مع نظام بن علي وتنسق معه أمنياً)، فإن الانحدار الاقتصادي الذي عاشته تلك الأغلبية هو الذي فجّر الثورة. فقد كانت سورية من أسوأ البلدان العربية من حيث الفارق بين الأجور والأسعار، ومن حيث معدّل البطالة (30-33%). لهذا كان من الطبيعي أن تلحق بالثورات التي بدأت من تونس، وأن تحاول السير على منوالها.
لكن السلطة قررت ألا يحدث لها كما حدث في تونس ومصر، لهذا قررت خوض الصراع العنيف منذ البدء، وعملت لتبرير ذلك إلى تعميم خطاب ينطلق من أن ما يجري هو فعل مجموعات إرهابية أصولية إخوانية (رغم أن بشار الأسد بعد عام وثلاث أشهر من الثورة قال في خطاب في مجلس الشعب أنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين)، ودفعت إلى أن تفرض على المتظاهرين الانتقال إلى السلاح بعنفها ووحشيتها، ومن ثم أطلقت كادرات من تنظيم القاعدة ومن السلفيين من السجون ليصبح هؤلاء هم قادة وكادر أحرار الشام وصقور الشام وجيش الإسلام وجبهة النصرة، وحتى داعش. كل ذلك في سياق تكريس خطابه كأمر واقع من أجل تحويل الصراع من صراع شعب يريد التغيير إلى صراع ضد الإرهاب، وفي ذلك يكسب تشويه الثورة ودعم الدول الإمبريالية التي تدعي "الحرب على الإرهاب". ولقد حصلت بعض هذه المجموعات على السلاح، مثل النصرة وداعش، من النظام عبر معارك وهمية أو تسليم مباشر في أكثر من موقع. هذه المجموعات، خصوصاً داعش والنصرة وجيش الإسلام، عملت على خوض الصراع ضد البيئة الشعبية التي تحتضن الثورة، وضد الناشطين المتظاهرين (في المراحل الأولى) والعاملين في الإغاثة والإعلام، وقتلت قادة وكادرات في الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة. وكل ذلك جعل صراعها هو مع الثورة وليس مع السلطة، خصوصاً أن الفتوى التي باتت تنطلق منها هي أولوية قتال المرتد على الكافر، والسعي لفرض "الخلافة" في كل منطقة تستطيع السيطرة عليها من الكتائب المسلحة.
طبعاً هذا الفعل السلطوي لم يكن منعزلاً عن فعل متعدد من دول إقليمية مثل السعودية التي أرادت وقف المد الثوري الذي بدأ من تونس ووصل إلى كل المنطقة المحيطة بها، وكما صرّح بشار الأسد مؤخراً فقد طلبت منه سحق الثورة وسحق الإخوان، ولقد أمدته بالمال ودعمت خطابه بالعمل على أسلمة قطاعات من الكتائب السلحة، وإظهار الثورة كحراك "إسلامي"، كما فعلت قطر التي ارادت فرض الإخوان المسلمين من خلال المجلس الوطني سلطة بديلة بعد ان يئست هي وتركيا من إقناع السلطة بتحقيق انفراج ينهي الثورة (حيث كانتا قد حصلتا على مصالح اقتصادية هائلة من بشار الأسد). ولهذا كان الشغل على أسلمة الثورة وتحويل الصراع إلى صراع طائفي و"حرب أهلية" لكي يتوقف هذا المدّ الثوري.
ولا شك في أن الإمبريالية الأميركية كانت تريد كل ذلك سواء لجهة دور قطر/ تركيا أو دور السعودية لأنها أرادت أن توقف الثورات، وأيضاً لم تكن تمانع في تدمير سورية بيد السلطة كما فعلت هي في العراق.
مقابل ذلك، وبعد أن ضعفت قوة السلطة نهاية سنة 2012، وقبل دخول المجموعات الأصولية (التي زاد دورها منذ صيف سنة 2013)، أرسلت إيران قوات حزب الله والعديد من الميليشيا الطائفية العراقية، ثم الحرس الثوري لمنع سقوط السلطة، وباتت الآن هي التي توقفه على قدميه، بقواتها وسياساتها، وهي التي تقرر سياساته. وكان يظهر المنظور الطائفي في كل هذا الحشد عبر القول بحماية "المقدسات الشيعية"، أو باستجلاب "شيعة" من كل أنحاء العالم (أفغانستان وباكستان وطاجاكستان، ومن العراق ولبنان). كما حدث مع داعش والنصرة التي باتتا يستجلبان "جهاديين" من كل أنحاء العالم.
لهذا أصبح الشعب، إما لاجئ (أكثر من نصف الشعب) أو يعيش في أوضاع بالغة الصعوبة سواء تحت سلطة النظام أو داعش والنصرة. وهو يقاتل بالتالي على عدة جبهات في الوقت ذاته، ضد السلطة وضد داعش والنصرة وجيش الإسلام، وضد قوات حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني. ولقد واجهت الكتائب المسلحة النصرة منذ البدء، كما واجهت داعش وطردتها من شمال سورية قبل أن تلاقي الدعم من السلطة ومن نوري المالكي، ثم الآن من الإمبريالية الأميركية التي تدعي قتالها. حرب على عدة جبهات، هذه هي صعوبة الثورة وتعقيدها، وازمتها، بعد أن بدا أن كل القوى الإمبريالية والنظم الإقليمية تريد تدميرها، وأن هذا هو هدفها الأول.
ما يجب أن يكون موقف اليسار في هذه الوضعية؟
مع الشعب الذي يقاتل كل هذه القوى أو مع السلطة التي تقتل وتدمر وتهجر؟ وبالتالي مع السعودية وقطر وأميركا وتركيا التي لا تريد للثورة أن تنتصر بل ان تتحول إلى "حرب أهلية" تخضع لحل دولي؟ من يضع أميركا في مواجهة السلطة مخطئ، ومع يعتقد بأن صراعاً يقوم بين السلطة والسعودية مخطئ، الصراع كله هو ضد الثورات العربية مجسدة في الثورة السورية. بالتالي أن المعركة في سورية هي معركة استمرار الثورات العربية وانتصارها أو هزيمتها. هذا هو الوضع الذي يجب أن يجعل اليسار مع الشعب السوري ومع الثورة السورية، ضد كل تلك القوى.
(7)
ربما علينا أن ندرس الثورة السورية، ليس بمعزل عن الثورات العربية، ولا بمعزل عن الأزمة الاقتصادية العالمية. وهاتان المسألتان غابتا عن مجمل اليسار العالمي، لهذا جرى رؤية الثورات كحدث خاص بالمنطقة العربية، كما جرى تناول كل منها بمعزل عن الأخرى. لهذا جرى رؤية الثورات انطلاقاً من طبيعة النظم فقط، أي انطلاقاً من علاقة النظم بالإمبريالية أو اختلافها معها. بالتالي دون لمس أن هناك أساس موضوعي فرض نشوؤها وتوسعها عربياً. وأن الأزمة المالية فتحت على وضع عالمي جديد تجاوز الوضع الذي ساد خلال الحرب الباردة، ومرحلة الأحادية القطبية بعد انهيار الاشتراكية.
لقد استحكمت منظومة "فكرية" في رؤية اليسار العالمي لم تهزها لا الأزمة المالية سنة 2008، ولا انفجار الثورات العربية. فظلت أميركا هي الإمبريالية العدو الرئيسي، رغم أن الأزمة هزّت كلية وضعها، وأظهرت ضعفها عن السيطرة العالمية كما طمحت بعد انهيار الاشتراكية، وبزغت إمبرياليات جديدة. وبالتالي ظل تفسير الأحداث ينحكم لتحليل "المؤامرة الإمبريالية"، وسعي أميركا لتغيير النظم "الوطنية". عالم يتغيّر، وتنهار الأحادية القطبية لمصلحة محاولات لبناء تعددية قطبية، في نمط رأسمالي بات مريضاً، ويعيش على احتمالات انهيارات جديدة، ورأسمالية باتت الطغم المالية هي التي تسيطر فيها، تعمل على تعميم الفوضى العالمية، لأن نشاطها هو نشاط مافياوي يقوم على المضاربة.
ولقد أدت المضاربات على السلع قبيل الأزمة (2006/ 2008)، ومن ثم نشوب الأزمة، إلى تفاقم الوضع الاقتصادي في مجمل البلدان العربية. وهو ما أدى إلى انفجار الإضرابات في مصر (2007/2011) وفي تونس (2008)، وكذلك في المغرب ودول أخرى، وصولاً إلى انفجار الثورات العربية. لكن لا بد من أن نلمس أثر الأزمة على السياسات العامة للدول الإمبريالية من جهة، وعلى رد فعلها على انفجار الثورات من جهة أخرى. فقد ظهر أن أميركا في تراجع، وهي تعدّ لـ "الانسحاب" من "الشرق الأوسط" (الذي لا يشمل بلدان الخليج العربي بما في ذلك العراق). وهذا ما ضعضع من سطوتها، وأضعف حلفاءها. لقد اعتبرت الإمبريالية الأميركية أن أولويتها تتمحور حول مواجهة احتمالية تفاقم "الخطر الصيني"، فباتت منطقة آسيا والمحيط الهادي هي الأولوية بالنسبة لها. وهذا ما سمح بأن تتعرى المنطقة العربية على ضوء الميل للتخلي عنها، وخصوصاً بعد تراجع القدرة الأميركية في التدخل العسكري، واضطرارها للانسحاب من العراق. بالتالي فقد نشبت الثورات في لحظة "ضعف القبضة الأميركية"، بعد أن أنهك النهب الإمبريالي المنطقة. لكن أيضاً في لحظة تقدم دول جديدة لكي "تتقاسم الأسواق"، وهنا روسيا بالخصوص، التي باتت إمبريالية.
ولأن الأزمة الاقتصادية باتت تهدد النمط الرأسمالي ككل، وهي ممكنة التكرار، وربما بشكل أكبر، وبعد أن توصلت الإدارة الأميركية، ومن خلفها الطغم المالية الإمبريالية، إلى أن هذه الأزمة دون حل، وأن ما يمكن فعله هو إدارتها فقط، فقد استشعرت خطر انفجار الثورات العربية، حيث باتت ترى أنها يمكن أن تتوسع إلى مناطق كثيرة في العالم الذي عانى طويلاً من النهب ويُدفع إلى التقشف، وأيضاً ليس من إمكانية للتراجع عن النهب، على العكس من ذلك لا بد من تصعيده. ولقد زاد من التخوّف هو انتشار الثورة، بشكل أو بآخر، بشكل سريع إلى معظم البلدان العربية.
هذا الأمر كان يفرض السعي لوقف هذا الانتشار، وحصر الثورة، ومن ثم تدميرها قبل أن تتوسع إلى مناطق أخرى. وبعد محاولة الالتفاف على الثورة في تونس ومصر، وسحقها في البحرين، والمراوغة في اليمن، وتدخل الأطلسي في ليبيا، كان لا بد من مستوى أعلى في المواجهة من أجل وقف توسع الثورة. وربما كان عنف النظام السوري منذ بدء الثورة قد أغرى بأن تصبح سورية هي البلد الذي يسمح بوقف هذا المدّ الجارف. وهذا ما ظهر خلال سنتين من الثورة، حيث جرى العمل على تطييف الثورة ودعم خطاب النظام الذي كان يصرّ منذ البدء على أنه يواجه مجموعات إرهابية سلفية وإخوانية، لكي تفشل في إسقاط النظام، وبما يدخل سورية في صراع يتجاوز كون ما يجري هو ثورة، ليجري الحديث عن "حرب أهلية" أو "صراع طائفي"، قبل أن يصبح صراعاً إقليمياً.
لكن استمرار الثورة بعد ذلك، رغم كل العنف والوحشية الممارسة من قبل النظام، دفع إلى الشغل على أن تغرق سورية في صراع دموي تدميري. أصبح من الضروري أن يصبح هناك مثال على تحوّل كل تمرّد إلى مجزرة. كل ذلك بالإفادة من وجود نظام مافياوي دموي وحشي قرَّر أصلاً أنْ: الأسد أو نحرق البلد، ويمارس القتل والتدمير والاعتقال بلا حساب سوى حساب بقاءه في السلطة. بعد سنوات من استمرار الثورة، خصوصاً أن الوضع في البلدان الأخرى لم يستقرّ، ويهدد بثورات من جديد، وتعيش بلدان أخرى حالة احتقان يمكن أن تنفجر، بات إذن من الضروري أن تغرق سورية بمجزرة لكي يظهر كيف أن الثورة لا تؤدي سوى إلى الوحشية والانفلات والخراب، والصراع الطائفي والمناطقي، ويستجلب المجموعات "الجهادية" مثل القاعدة وداعش، والإرهاب، كما بات يردد الإعلام الإمبريالي وإعلام النظم، وحيث بات كل احتجاج أو إضراب يواجه بخطاب يقول: هل تريدون أن يحدث لكم ما يحدث في سورية؟
لقد باتت الثورة، إزاء الأزمة المستمرة في الرأسمالية، هي الخطر الداهم، ولهذا كان يجب أن تصبح هي مركز تحديد السياسات، ومركز بناء العلاقات والتكتيكات، لقد باتت "الخطر الرئيسي" الذي يستوجب المواجهة. ولهذا أصبح تجاوز الإستراتيجيات السابقة، وتحديدها للصراعات العالمية، والأولويات التي كانت تضعها، هو ما تقوم به الطغم المالية والدول الإمبريالية. فقد بات إطفاء حريق الثورات هو الهدف المركزي، وبات تدمير الثورة السورية هو ما تريده كل القوى الإمبريالية والدول الإقليمية، من السعودية إلى إيران. لهذا وجدنا أن كل الدول الإمبريالية، من أميركا إلى روسيا، وكل الدول الإقليمية، تعتبر أن وقف المدّ الثوري، وتدمير الثورة، هو الأولوية، حين وصلت الثورة إلى سورية. وبالتالي كانت القوى التي تبدة "متناقضةط متوافقة في الواقع على أن المطلوب هو تدمير الثورة السورية، وخلق "مثال" يقول بأن الثورة تعني القتل والتدمير والإرهاب والأصولية والتهجير.
إن الأزمة الاقتصادية والثورات العربية قد خلخلتا بنية النظام العالمي الذي كان يجري صنعه قبل سنة 2008، ونبهتا إلى حدود قدرة أميركا، والأخطار التي تهدد النمط الرأسمالي. وهذا ما كسّر الثنائية التي تشكلت "في الذهن" منذ سنوات الحرب الباردة. وأسّس لـ "ثنائية" جديدة هي: أن تكون مع الثورة أو مع الإمبريالية، وليس من خيار آخر.
(8)
كيف تحوّلت الثورة السورية إلى مثال للعقاب على التمرُّد؟
في سورية حدثت ثورة كما في البلدان العربية الأخرى، بغض النظر عن السبب المباشر الذي فجّرها، حيث كان الوضع الاقتصادي قد أوصل كتلة شعبية كبيرة إلى حالة فقر شديد، وبالتالي راكمت احتقاناً لم يكن يظهر قبل إذ. ولا شك في أن انفجار الثورات الأخرى كان سبباً مباشراً في هذا الانفجار، ولهذا ظلت أشهراً ملتزمة السياق الذي سارت فيه الثورات تلك، وتريد الوصول إلى النتيجة ذاتها. فقد قلّدت تجربة مصر في الخروج من الجوامع، وفي السعي للإعتصام في الميادين، وكانت تكتفي بإزاحة الرئيس والذهاب إلى مرحلة انتقالية تعطي بعض الحريات.
لكن الثورة في سورية "تحوّلت إلى مجزرة"، حيث مارست السلطة أقصى الوحشية، وظهرت المجموعات الأصولية "الجهادية" التي تمارس القتل والإرهاب ضد الشعب. لكن أخذ يظهر الصراع كصراع بين السلطة والمجموعات الإرهابية، وبدا أن الثورة قد "تلاشت" "تحت أقدام" هؤلاء. وأصبحت هذه الثنائية هي التي تحكم النظر إلى ما يجري، وتدفع إلى التخوّف من تلك المجموعات الأصولية "الجهادية"، بالتالي إلى الاصطفاف خلف النظام.
لهذا بات يجري التركيز أولاً على القتل والتدمير، وعلى الوضع لكأن مجزرة تحدث، وثانياً على الإرهاب والخطر الإرهابي لكأن ما جرى هو من صنع مجموعات إرهابية منذ البدء، وليس من صنع ثورة خاضها الشعب. الشعب الذي بات يواجه السلطة وداعش والنصرة وجيش الإسلام، ويواجه الفوضى والتهجير والفقر.
لقد ظهر أن الثورة السورية تحوّلت إلى مثال بارز للنتيجة التي يمكن أن تكون حين يتمرّد شعب. كانت درساً للشعوب بأن تمردها يعني الفوضى والقتل والتدمير وكل هذه الوحشية، وأيضاً انتشار الإرهاب وتمدد المجموعات "الجهادية". هل حدث ذلك صدفة؟ هل أن تحوّل الثورة إلى مجزرة جاء صدفة؟ وهل أن تعميم أنها مثال على النتيجة التي يقود التمرُّد إليها في كل الوسائل الإعلامية يأتي صدفة؟
لهذا حين متابعة الخطاب الإعلامي في مصر وتونس، وفي العالم كذلك، نجد أن التركيز يتمحور حول كيف أن التمرد على السلطة يقود حتماً إلى مجزرة ودمار وتهجير، بالتالي على الشعوب التي تعيش عصرها الزاهي، عصر الثورة، أن تستكين وتقبل ما هو قائم.
كيف تحوّلت الثورة في سورية إلى الأسلمة والتسلح؟ وكيف باتت تظهر كمجزرة؟
لماذا يركّز الخطاب الإعلامي على المجزرة متناسياً أن ما يحدث هو ثورة يراد لها أن تظهر كمجزرة؟
لا يمكن فهم الثورة السورية دون فهم انعكاس نشوب الثورة وامتدادها من تونس إلى سورية على الدول الإقليمية وعلى الرأسمالية، كما على النظم ذاتها. وبالتالي لا يمكن فهم ما حدث في الثورة السورية إلا كفعل "عالمي" مضاد للثورة. وبهذا يكون الخطاب الإعلامي المشار إليه نتيجة "واقعية" في عالم ينزع إلى الثورة، حيث يجب "إرعاب" الشعوب من نتيجة أفعالها، من تجرئها على التمرد.
لهذا كان الإعلام "الغربي" (أي الرأسمالي) يركز منذ الأشهر الأولى على "الحرب الأهلية" و"الصراع الطائفي"، ويعطي طابعاً "إسلامياً" للثورة حين كانت الثورة ترفض السلفية والإخوان رداً على خطاب النظام الإتهامي الذي كان يعتبر أيضاً أنها من فِعل مجموعات سلفية إخوانية وليس من فِعل الشعب. إن مَنْ يراجع كل ما قاله الإعلام الخليجي والأوروبي الأميركي يلمس هذا الميل لإظهار أن الثورة هي حراك "إسلامي"، وأن ما يجري هو "صراع طائفي" أو "حرب أهلية". لم يكن ذلك صدفة، بل كان رد الطغم الإمبريالية التي تتحكم بالإعلام على توسّع الثورة من تونس إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا ومن ثم سورية، مع حراك كبير في المغرب والأردن والعراق ولبنان، وحراك قصير في الجزائر وعُمان. لقد قررت أن "تحوّل المسار"، مسار الثورة إلى مسار آخر مضاد للثورات. هذا الأمر كان يفترض تحويل الصراع من صراع طبقي حيث تنهض الشعوب لكي تغيِّر وضعها الاقتصادي السيئ، إلى صراعات دينية وطائفية وإثنية، وهي الفكرة التي اخترعتها منذ زمن طويل، وعملت عليها قبلاً، والتي اعتقدت أنها نجحت فيها.
ما يمكن توضيحه هنا هو أن امتداد الثورة كـ "النار في الهشيم" من تونس إلى سورية في زمن قارب الأشهر الثلاث أطلق حالة من الذعر في مواقع مختلفة، لدى دول إقليمية شعرت أنها يمكن أن تخسر مصالحها في سورية (تركيا وقطر) أو شعرت أن دورها هو التالي لسورية بعد أن طوقتها الثورات، ووضعها الداخلي مهيأ لذلك (السعودية)، وكل الدول الرافضة للثورة والتغيير (دول الخليج وإيران وروسيا). كما الدول الإمبريالية التي تعيش منذ سنة 2008 أزمة اقتصادية عميقة، وتفاقم في المشكلات الاقتصادية، توجد احتقاناً عالمياً عاماً مضاداً للرأسمالية. بالتالي فالدول الإقليمية باتت تخاف الثورة، لهذا كان عليها وقف توسعها، والدول الإمبريالية تخافها لأنها يمكن أن تكون الشرارة التي تنشر الثورات في مختلف أرجاء عالم محتقن ويمكن أن يثور.
هذه الحالة الإقليمية العالمية فرضت وضع إستراتيجية لمواجهة الثورات توقفها في سورية، وتحوّلها إلى مجزرة تكون عبرة لكل شعوب العالم. وهذا ما كان يلتقي مع منظور النظام ذاته، النظام الذي عمل على إتهام الثورة بالأسلمة والسفلية والإرهاب منذ اليوم الأول، ومن ثم أطلق من أوجد المجموعات الإرهابية السلفية (النصرة وجزئياً داعش، وجيش الإسلام وأحرار الشام)، ولقد مارس كل الوحشية التي تطلق العنان للغرائز بعد أن سحق الفئات التي لعبت دوراً مركزياً في المراحل الأولى للثورة، والتي كانت تتسم بالعلمنة والمدنية، وتمتلك قدراً من الفهم، ليطلق غرائز فئات مسحوقة يمكن إتهامها بالسلفية والأصولية. وهو الوضع الذي أوجد البيئة لتحوّل كثير من الشباب الثوري إلى الانخراط في هذه التنظيمات. وليظهر أن قتاله (وهو الشباب الذي كان العنصر الأساسي في التظاهرات) ينطلق من "تعصب ديني" وليس لأن الوضع الذي أوجده النظام به هو الذي قاده إلى ذلك.
إذن، النظام دفع نحو تشكيل وضع يضخم الأصولية، إضافة إلى الدور الكبير الذي قام به في التدمير والقتل، أي في الوحشية، حيث اشتغل وفق قانون: الأسد أو نحرق البلد. ولا شك في أن هذا المنظور الذي حكم النظام، والذي كان معروفاً هو الذي ساعد التدخلات الخارجية لكي تسهم في تحوّل الثورة إلى مجزرة، والى توسيع دور المجموعات "الجهادية". فقد كان موقف الدول الإقليمية والدولية يتمثّل في مساعدته على زيادة الوحشية، وقامت في تحويل قطاع من الثورة إلى الأسلمة بعد أن فرضت الوحشية التي مارسها النظام إلى انتقال التظاهرات السلمية إلى عمل مسلح مارسه جزء من الشباب الذي كان يتظاهر. لقد عملت السعودية على تجسيد خطاب النظام عملياً من خلال الشغل على أسلمة الكتائب المسلحة من خلال إدعاء دعمها مالياً وعسكرياً، ولقد قامت بذلك ليس بعيداً عن التفاهم مع النظام ذاته، حتى حينما أطلق سراح من شكّل تنظيم جبهة النصرة التي حظيت بدعم سعودي. فقد دفع رعب السعودية من انتقال الثورة إليها إلى الشغل الحثيث مع النظام (خصوصاً إلى بداية سنة 2013، حيث تدخلت إيران مباشرة لدعم النظام) من أجل أسلمة الثورة (وهو ما كانت تقوم به إعلامياً منذ البدء). حيث عملت على تحويل الصراع من صراع شعب ضد نظام مافياوي استبدادي إلى صراع طائفي ديني وحرب أهلية لا حلّ لها سوى بالتفاوض. وهذا ما أسهمت به تركيا بعد أن لمست أن أميركا تمنع تدخلها في سورية، وخصوصاً بعد أن أصبح واضحاً أن هناك تفاهم أميركي روسي تبلور في مبادئ جنيف1. ومن ثم أصبح الدور السعودي التركي القطري يتمثل في تعزيز المجموعات الأصولية والإسلامية على حساب الكتائب المسلحة والجيش الحرّ.
أميركا كانت تسعى في البدء لترتيب سيطرة روسية على سورية، لكن عجز هذه الأخيرة جعلها تلعب دور إدارة الصراع، وتعزيز دور المجموعات الأصولية (وهنا داعش بالأساس). وبالتالي باتت تعمل على استفزاز النظام لكي يزيد عنفه، وتدفع إلى زيادة دور الأصولية، لتتوافق مع النظام بأن يكون الصراع هو صراع النظام مع مجموعات أصولية بالأساس. كما أنها منعت تدخل تركيا ودعم الكتائب المسلحة بأسلحة نوعية. وغطت على دور روسيا وإيران. والأهم هنا أنها منعت محاسبة النظام على كل الجرائم التي ارتكبها. في المقابل دعمت إيران النظام بقوى طائفية (حزب الله، عصائب أهل الحق، فيلق بدر وكتائب أبو الفضل العباس، وفيلق الزينبيون وغيرهم)، وبالحرس الثوري الإيراني. حيث كانت تدعم استمرار وحشية النظام، كما حدث مع روسيا قبل تدخلها وبعده.
كل هذه العناصر كانت تجعل الصراع وحشياً ومدمراً، كما شهدنا في الواقع، سواء تعلق الأمر باللاجئين (أكثر من 12 مليون أربعة منهم لاجئون في الخارج)، أو المعتقلين (الذين هم بمئآت الآلاف، الذين قتل جزء كبير منهم)، أو الذين استشهدوا (ربما أكثر من 300 ألف). وما أدى إليه من دمار هائل طال مناطق واسعة من سورية.
إذن، لا بد من التأكيد على أن الاختلاف الذي كان يظهر بين الدول المتصارعة حول سورية (وهنا إيران وروسيا من جهة، وتركيا وقطر والسعودية من جهة أخرى، وأميركا من جهة ثالثة) لم يكن يمنع التوافق على تدمير الثورة السورية نتيجة تخوفات مختلفة، وأن تعمل جميعاً في إتساق رغم عدم تحاورها حول ذلك، بالضبط لأنها جميعاً كانت تخاف الثورة، وأرادت أن تدمرها قبل أن تمتدّ إلى مناطق أخرى. وما حكم العلاقات بين هذه الدول هو سعي كل منها فرض سيطرته على سورية، وهنا بالخصوص روسيا التي اعتبرت أن السيطرة على سورية خطوة حاسمة في سياق السيطرة على الشرق الأوسط. وإيران التي تعتبر أن سورية ورقة مهمة بذاتها، وبكونها طريق تدعيم حزب الله، في إطار الضغوط من أجل تحسين وضعها الإقليمي والدولي. وفي المقابل تركيا وقطر (وفرنسا)، الدول التي كانت تريد الحفاظ على مصالحها المتحققة في ظل نظام بشار الأسد، وفرنسا التي تريد تحقيق مصالح لها في سورية كما حاولت منذ فترة حكم جاك شيراك. بينما كانت أميركا تناور من خلال دعم سيطرة روسيا على سورية في إطار التقاسم العالمي الذي بدأ بعد ضعف أميركا وتراجعها على ضوء الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها.
كل هذه العناصر هي التي حوّلت الثورة إلى مثال للعقاب على التمرّد، وفتحت لصراعات إقليمية ودولية للسيطرة على سورية. وهي كما نرى تنطلق من "توافق" إمبريالي، ومن النظم الإقليمية على سحق الثورة، وتهشيمها، وتحويلها إلى مجزرة. سواء كان ذلك بالتأثير المباشر في قوى الثورة كما فعلت نظم مثل السعودية خصوصاً، أو الإمبريالية الأميركية، حيث كان هدفها هو تخريبها وليس دعمها لإسقاط النظام، الأمر الذي كان يخدم سياسة النظام الذي قرّر منذ البدء أسلمة الثورة وتحويلها إلى مجموعات سلفية إرهابية، بعد أن يدفع إلى الانتقال إلى السلاح. وهو ما أوصل إلى هذا الوضع بعد أن دعمت إيران النظام كي لا يسقط بفعل الثورة خلال سنة ونصف من نضال الشعب. وكل ما حدث بعد ذلك أدى إلى الدخول في استعصاء، وسيطرة الصراع المسلح، وظهور المجموعات السلفية "الجهادية" كقوة "مسيطرة"، والتركيز الإعلامي على هذا المظهر من الصراع دون تناول صراع الشعب الذي ظل مستمراً.
وعبر الدعم "الخارجي" (السعودي القطري التركي خصوصاً) لكتائب مسلحة باتت أساسية، أصبحت الدول الداعمة هي المتحكمة بتلك الكتائب، في مقابل تحكم إيران ثم روسيا بقرار النظام. وبهذا بات الصراع إقليمياً دولياً، صراع إمبرياليات من أجل السيطرة (أميركا/ روسيا)، وصراع إقليمي من أجل السيطرة كذلك (تركيا/ إيران).
بالتالي ليظهر أن الثورة أدت إلى عنف وحشي من قبل النظام، وتحشيد الإرهابيين، وتحوّل الصراع إلى صراع "أهلي"، "طائفي"، ومن ثم حدوث تدخلات إقليمية ودولية هي التي تتحكم بالصراع، وتتصارع من أجل السيطرة. والنتيجة دمار وقتل وحشي وتلاشي الدولة. هذه هي النتيجة التي تعمم عبر الإعلام المسيطر عليه من قبل الطغم الإمبريالية ومن قبل النظم، والهدف التخويف من الثورة.
(9)
ستار الأيديولوجية
ربما تكون متابعة مواقف "اليسار الممانع" من سورية هي الأفضل في فهم كيف يمكن للأيديولوجية أن تشكّل حجاباً سميكاً لفهم ما يجري في الواقع. كيف تكون الإجابات السهلة فيها بديلاً عن رؤية الواقع والبحث فيه، والتدقيق في مساراته. ومن ثم كيف تعمل على صياغة الواقع بما يناسب الأيديولوجية تلك، وما يؤكد منظورها. هنا "يشتغل العقل" داخل ذاته، لا يخرج لمعرفة الوقائع، ولا لتفسيرها طبعاً، بالضبط لأنه يمتلك الإجابات. فالواقع هو انعكاس للأفكار التي في "الذهن"، الأفكار الأيديولوجية التي تملأ "الذهن".
فمن المعروف أن "الأيديولوجية الممانعة" تعتبر أن النظام السوري على حق، وانه "معادٍ للإمبريالية"، وأن ما يجري هو مؤامرة عليه. بالتالي لا حاجة لمتابعة الوقائع، أو التدقيق فيما يجري، أو وضع سياق لسياسات دول أو قوى. فهذه كلها ضد النظام السوري، وتعمل على إسقاطه.
لنأخذ مثلاً داعش، خطاب الممانعة ينطلق من أن النظام يخوض الحرب ضد داعش، فهي مدعومة من الإمبريالية وأتباعها. ولا شك في أن داعش صناعة أميركية، لكنها وطئت الأرض التي نشبت الثورة فيها وإضطرت السلطة الانسحاب منها، وخاضت صراعها ضد قوى الثورة (ضد كل الناشطين في الثورة والإغاثة والإعلام والعمل المسلح). وظهر في أكثر من موقع أن السلطة تنسحب لمصلحتها، وأنها تدعمها بالقصف الجوي حين تحاصر. وأصلاً لم تقصف مواقعها المكشوفة في الرقة ودير الزور وكل المنطقة الشرقية، رغم أنها قصفت بشكل مستمر كل المناطق التي تقع بيد الثورة،وكانت حين تسيطر داعش عليها توقف القصف. وهي حين تنسحب أمام تقدم داعش تترك كل مخازن السلاح، وهو ما لا تفعله حين تنسحب أمام الكتائب المسلحة. والغريب أن داعش تنوجد في كل المناطق التي تضعف السلطة فيها لتقاتل الكتائب المسلحة، كما فعلت في حلب ومخيم اليرموك، وفي القدم جنوب دمشق، والآن في ريف حلب الشمالي. في القلمون كان الجيش الحر يخوض حربين، ضد حزب الله والسلطة من طرف، وداعش من طرف آخر.
في كل الأحوال ليست مناطق داعش هي مناطق اشتباك السلطة (ولا قوات حزب الله والحرس الثوري وكل الطائفيين الذين تلملمهم إيران)، وحين يحدث "اشتباك" يكون هناك هدف يظهر بعدئذ، حيث تصبح داعش في مواجهة الثورة، أي يكون الهدف هو تسهيل وصول داعش إلى مناطق الثورة.
رغم كل ذلك، تظل أيديولوجية الممانعة تكرر أن صراع النظام هو مع الإرهاب الذي تمثله داعش والنصرة.
في مستوى آخر جرى اعتبار أن أميركا هي التي تقود المؤامرة ضد سورية، ربما كان الموقف الأميركي "مبهم" في المراحل الأولى من الثورة، لكنه الآن واضح بشكل كامل. فما توصلت إليه هو أن الأولوية هي الحرب ضد داعش، ورغم أنها تقول أنْ لا مكان لبشار الأسد في المرحلة القادمة إلا أنها تريد استمرار الدولة (الأمن والجيش والمؤسسات)، وبالتالي تقول أنها ليست معنية بالحرب ضده. على العكس فهي تعمل على تحويل مقاتلي الثورة إلى قوات للحرب ضد داعش فقط، أي أنها تريد إفراغ الثورة من مقاتليها. وهي تعمل على أن يتوحد هؤلاء الذين تدربهم مع قوات النظام لقتال داعش. كما أنها لا زالت تمنع "حلفائها" من تسليح الجيش الحر، أو السماح لهم بحسم الصراع عسكرياً، بالضبط لأن الحل سياسي.
وكانت قبل ذلك تفشل ضغط تركيا وفرنسا على الحلف الأطلسي للتدخل. وهي تمنع تركيا من التدخل، لكنها تسمح لروسيا بأن تكون المشرف على الحل السياسي، ووفق الشروط الروسية، وهي الآن تقف مربكة بعد أن أصبح الجيش الروسي في سورية. كما لعبت دوراً مهماً في تخريب الثورة.
هل داعش تقاتل النظام؟ وهل أن أميركا تريد إسقاط النظام؟
من الصعب على الأيديولوجية السميكة التي تغطي الأدمغة، والتي ترسم الواقع مسبقاً، بحيث يظل النظام السوري هو النظام الممانع الذي تريد أميركا إسقاطه، من الصعب عليها أن تقبل الحقائق، لأنها تكسّرها، لهذا أفضل أن تبقى "المثالية الذاتية" هي الحاكمة، لأنها تريح من تعب البحث في الواقع، الواقع الذي يكسّر الأيديولوجية الراسخة في العقل منذ عقود.
الأيديولوجية كجريمة
إذا كانت الأيديولوجية هي الوعي المطابق أو المفارق لمصالح الطبقات، فإن هذه المصالح يمكن أن تدفعها إلى حدها الأقصى بما يجعلها "أداة جريمة". هذا ما فعلته النازية والفاشية، حيث دفعت أيديولوجية التفوق العنصري إلى حدّ تبرير ارتكاب جرائم ضد البشرية.
وإذا كانت الأيديولوجية اليسارية تُطرح خدمة لمصالح الشعوب، فإن تكلسها يفضي أحياناً إلى أن تتحوّل إلى "أداة" لتبرير الجرائم. أقصد بالضبط أيديولوجية اليسار العالمي الذي أسس كل منظوره على أساس طبيعة الصراع في مرحلة الحرب الباردة، ومن منظور الأولوية التي طرحتها الدولة السوفيتية. حيث انبنت على أساس ثنائية صراع إمبريالية/ اشتراكية، أو إمبريالية/ تحرر وطني كما تكررت في البلدان المخلَّفة. وأصبحت الأولوية تتمركز هنا، ليتحدد الصراع الداخلي على ضوء هذا المنظور، بحيث يكون كل "متناقض" معها وطنياً، وجزءاً من "حركة التحرر الوطني"، أو من "التحالف المعادي للإمبريالية".
ولا شك في أن الصراع حينها كان يتمحور ضد الإمبريالية، والأميركية خصوصاً، وكان صحيحاً مواجهة الإمبريالية، رغم أن التعميم الذي يحكمها كان يوجد مشكلات كبيرة في الصراع الداخلي، سواء في تحديد الطبقات التي هي في تناقض حقيقي مع الإمبريالية، أو في قيادة التحالف ضد الإمبريالية، أو كذلك في الأولويات بعد أن بات "الصراع مع الإمبريالية" هو الأولوية، وهو ما ألغى التناقض الطبقي الداخلي، الذي هو حسب الماركسية التناقض الرئيسي (والتناقض مع النمط الرأسمالي ككل هو التناقض الأساسي).
هذا الخلل كان يؤسس لمنظور "وطني"، وظل الشعار العام هو التحرر الوطني بعد أن استقلت الدول، وبات الربط الاقتصادي الطبقي هو العنصر المركزي في تكييف المحلي لمصلحة الطغم الإمبريالية. وبهذا أدى تضخم "الوطنية" إلى اعتبار "الصراع ضد الإمبريالية" هو المطلق، هو كل شيء، وهو الذي يحدِّد كل المواقف والسياسات والتكتيكات. بالتالي أصبح الوطن فوق المواطنين، وبات "الدفاع عن الوطن" أهم من سحق الشعب، ويبرر سحق الشعب. لقد بات الوطن أقنوم بالغ التجريد، وأيضاً القدسية. والوطن يُختزل في السلطة (الدولة) التي تكون في "تناقض" مع الإمبريالية، أو هكذا يجري التوهم. ولهذا تصبح السلطة هي القوة الثورية التقدمية، المقدس الذي يمثله الوطن، ويكون الشعب لا شيء.
الوطن مقدس، إذن الشعب لا شيء. ولأن السلطة هي الوطن يصبح من حقها ممارسة كل أشكال العنف ضد الشعب، خصوصاً إذا تمرّد عليها. فهي "المعادية للإمبريالية"، ولهذا فإن كل مخالف لها يجب أن يكون مع الإمبريالية، وهذا يبرَّر سحقه. فهو يتناقض مع "السلطة المعادية للإمبريالية"، "السلطة المقدسة" بالتالي. وبهذا يستحقّ الجزاء، بما في ذلك القتل، أي الإبادة. فهو يتمرد على سلطة "معادية للإمبريالية"، "تحمي الوطن من السيطرة الإمبريالية".
الفكرة هنا باتت مطلقاً، ولقد باتت تعمل على تحويل ما تعتقد أنه متوافق معها إلى مطلق، والباقي هو من التراب، هو دون، لهذا يستحق السحق. يستحق الكيماوي والصواريخ البالستية والبراميل المتفجرة والحصار المميت، والقتل في السجن، والتشريد إلى أقاصي الأرض. لقد تمرد "على الإله"، الذي هو السلطة. ومن ثم فإن الفكرة هنا باتت أساس أيديولوجية فاشية، تستسهل قتل الشعوب، وتبرر هذا القتل بـ "أفكار سامية"، أفكار "ثورية" و"جذرية"، بالضبط لأنها "معادية للإمبريالية". لهذا باتت تؤدي الدور الإمبريالي ذاته، الدور الذي يقوم على سحق الشعوب وتدمير قدراتها وتشريدها.
الشعب أهم من الوطن، ودون الشعب ليس من وطن. والشعب يعلو على الوطن بالتالي. وكل تحليل لا ينطلق من هذه البديهية يكون غارقاً في مثالية مفرطة، المثالية التي تتحوّل إلى فاشية فعلية. فـ "الإنسان أثمن رأسمال" (أظن أن هذا هو اسم كراس كتبه ستالين، لكنه أساس الماركسية بالأصل)، ومنه تتشكل الطبقات، ويُبنى الوطن، ويتأسس النهوض.
أظن أن كل ما كتبته هنا يتعلق بموقف "اليسار الممانع" من سورية بالتحديد، وبشكل أعم من الشعوب، لأنه يتعلق بالأفكار، يغرق بالأفكار، الأفكار التي لا تلمس الواقع. هذه خبرة تاريخية لديه جعلته يحصل على الدكتوراة في الفشل.
ففي سورية شعب يخوض ثورة، وهذا اليسار يصطف مع الإمبريالية وأدواتها في صف واحد ضدها.
عقل بسيط في وضع معقد
وضع المنطقة يزداد تعقيداً، والصراعات تتشابك، وكل المحاور تداخلت. هذا هو التوصيف الممكن لما يحدث بعد نشوب الثورة السورية، وما وصلنا إليه الآن بعد الغارات الجوية الأميركية على العراق. ولم تعد تظهر حدود بين المحاور المرسومة في "الذهن" منذ فترة الحرب الباردة، رغم استمرار الحدود في "الذهن" لدى قطاع من النخب لا تريد مغادرة الماضي لأنها تريد البقاء في "حالة رومانسية" نشأت في الماضي.
في سورية كل التصوّر أن جبهة النصرة وداعش هما من تصنيع أميركي، وبالتالي هما جزء من "المؤامرة الإمبريالية" على "النظام الوطني" في سورية وعلى محور الممانعة (إيران وحزب الله والنظام السوري). لكن، فيما عدا عن بعض الاحتكاك بينها وبين النظام السوري، فإن كل معاركها، وكل نشاطها، وممارساتها، هي ضد الكتائب المسلحة، والناشطين ضد النظام، إضافة إلى أنها تفرض "قوانينها" التي هي مضادة للتكوين المجتمعي. ولهذا فرضت على الكتائب المسلحة أن تخوض الصراع ضدها. قامت بذلك قبل مدة وطردت داعش من الشمال السوري، وهي الآن تخوض الصراع من جديد. كما خاضت الصراع ضدها في دير الزور والرقة. وجرت اشتباكات عديدة مع جبهة النصرة، وهي الآن تهددها في منطقة درعا.
بالتالي ليس النظام هو الذي يخوض "الحرب ضد الإرهاب" بل أن الثورة هي التي تخوض هذه الحرب، ويساعد النظام داعش في هجماتها عبر القصف الجوي والمدفعي، وتسهيل حصولها على السلاح والذخائر.
في العراق تحرّك قطاع من الشعب عسكرياً بعد أن اعتصم لأشهر عديدة، سُحق بعنف جيش المالكي. وتحالف بعض هؤلاء مع داعش دون فهم لطبيعتها، ومن ثم انقلبت داعش كالعادة لكي تلعب دوراً يخدم المالكي وإيران في التشويش على الحراك الشعبي، واستغلال دورها لتخويف الشعب والتدخل. لهذا، كما اشرنا في مقالات سابقة، لعبت داعش دوراً تخريبياً في الموصل، وللسيطرة على الشمال العراقي، ومن ثم هاجمت المناطق الكردية لأن الأكراد كانوا يميلون للحراك، ويقفون ضد التجديد للمالكي.
الآن تدخل أميركا الحرب عبر قواتها الجوية، فتقصف داعش ليس في الشمال العراقي فقط، بل في الأنبار ومحافظة صلاح الدين. وبهذا باتت القوات الأميركية بالتنسيق مع القوات العراقية المدعومة من قبل النظام الإيراني، تخوض الصراع "ضد داعش". هذا يطرح السؤال، إذن ما هي داعش إذا كانت أميركا ضدها؟
من اعتبر أن الصراع ضد النظام السوري هو من فعل داعش أساساً، وأن الصراع مع داعش هو الأولوية، سيكون مع الدور الأميركي الذي بدأ في العراق، وسيظهر تقارب كبير بين "قوى الممانعة" التي تقاتل داعش وأميركا التي تعتبر أنها الخطر الرئيسي الآن، بعد أن تلاشى دور القاعدة بعد انشقاق داعش. بهذا لا يعود هناك محور "مقاومة وممانعة" ومحور إمبريالي سعودي قطري، فقد باتت قوات الممانعة تقاتل إلى جانب القوات الأميركية، حيث الطيران السوري قصف "داعش" (كما أُعلن)، وقوات الحرس الثوري تدافع عن النظام العراقي، وحزب الله يرسل قوات إلى العراق كما يرسل إلى سورية. وفي هذه الحرب يشكل الطيران الأميركي الغطاء الجوي لتقدم قوات المالكي والحرس الثوري وحزب الله والبيشمركة.
أليست الإمبريالية الأميركية هي التي تشكّل الغطاء لوحشية النظم التي تريد سحق الثورات؟
الثورات هي "الحلقة المركزية" التي توحّد كل هذا الخليط، أو الذي يبدو خليطاً رغم توافقه العام واختلافه الجزئي، ليس داعش ولا النصرة ولا القاعدة، التي كلها أدوات ضد الثورات. و"الاسم الحركي" لسحق الثورات، والاسم السحري لتوحيد كل هذه البلدان والقوى.
عن أميركا وداعش والممانعة والمؤامرة الإمبريالية:
العقل الأحادي في مواجهة واقع معقد
منذ بدء الثورة السورية ظهر أن منظور اليسار أضيق من أن يفهم ما يجري، حيث تاه في الفارق بين ما كان يجري التوهم بأنه توضّع النظام السوري عالمياً وبين حراك الطبقات التي أخذت تتململ ومن ثم تحاول التغيير. بمعنى أنه فشل في الإجابة على سؤال: هل أن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل يسمح بأن يكون النظام في موقع معاداة الإمبريالية الأميركية، أو أنه قد انخرط في "العولمة" عبر تطبيق السياسات التي عادة ما يفرضها صندوق النقد الدولي، ومن ثم أن الخلاف مع أميركا خصوصاً هو نتاج اختلاف سياسات وليس نتيجة تناقض مصالح؟ هذا التكوين الاقتصادي هو الذي كان يؤسس لتفاقم الأزمة المجتمعية وتراكم الاحتقان، ومن ثم أفضى إلى الثورة. حيث فرضت الفئة الحاكمة تعميم اللبرلة وتطبيق شروط صندوق النقد الدولي حتى دون تفاهم رسمي معه.
عدم الفهم هذا أسَّس لموقف داعم للنظام انطلاقاً من "الممانعة" التي يبديها تجاه "المخططات الإمبريالية". وبالتالي كان "المبدأ" الذي يحكم هذا اليسار هو اعتبار الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، ومن ثم دعم كل من يقف في تعارض أو تناقض معها. لكن هذا المنطق لم يصمد أمام تزايد التعقيد في الواقع السوري، وبات يقود إلى عكس ما بدأ منه. فهذه "البساطة" (أو لنقل السطحية) في التحليل لا تصمد أمام تعقيدات الواقع دائماً
لقد كانت كل القوى التي تقف مع النظام السوري ضد الثورة، والتي أسست رؤيتها على "معاداة الإمبريالية"، مع تنظيم القاعدة بعد الحادي عشر من سيبتمبر سنة 2001، ومع النظام العراقي، ضد الإمبريالية التي زحفت من أجل احتلال أفغانستان والعراق. وكانت ضد الدور الإيراني في العراق منذ الاحتلال، متهمة إياها بأنها عملت عبر ميليشياتها على تدمير العراق وفرض سيطرة طائفية على السلطة التي أنشأها الاحتلال الأميركي.
ولقد دعمت الثورات في تونس ومصر واليمن والبحرين لأنها ضد نظم تابعة للإمبريالية الأميركية، ومن المنظور ذاته وقفت مع النظام السوري كونها تصنفه كـ "ممانعة" و"مقاومة". وبالتالي باتت الثورة هي "مؤامرة إمبريالية" (أميركية)، تنفّذ من خلال مجموعات إرهابية أصولية بدعم سعودي قطري. وكان الحديث يجري عن "الجهاديين" الذين أسسوا عدداً من التشكيلات بعد عام من الثورة، ومنهم جبهة النصرة التي هي فرع للقاعدة، ثم داعش التي باتت بديلاً للقاعدة. بمعنى أن الصراع في سورية بالنسبة لهم بات بين نظام "وطني" و"ممانع" و"الجهاديين" مدعومين من قبل أميركا والسعودية وقطر. هنا انقلب الموقف من "الجهاديين" الذين كان يطبّل لهم حين كانوا "يقاتلون" أميركا (كما كان يجري توهم أنهم يقاتلونها). لقد باتوا العدو الذي يريد إسقاط نظام "ممانع" و"يدعم المقاومة"، لكن هذه المرة انطلاقاً من أنهم أدوات أميركية. بالتالي لم يعودوا ضد أميركا كما جرى التنظير سابقاً بل أداة بيدها.
الآن، أميركا تحشد ضد داعش والنصرة، وتؤلف تحالفاً دولياً من أجل هزيمتهما، ولقد بدأت الحرب ضدها، في العراق أولاً، والآن في سورية. بالتالي يبدو أن "الرابط" الذي جرت الإشارة إليه بين أميركا وداعش لم يعد قائماً، وتقدمت أميركا للحرب ضد داعش، ولقد بدأتها. ما هو الموقف الممكن لكل داعمي النظام السوري، الذين طبلوا لقتال النظام ضد المجموعات الإرهابية، خصوصاً النصرة وداعش؟ النظام طلب التحالف، فبالنسبة له ليست أميركا هي العدو، لا الرئيسي ولا الثانوي، بل لقد اختلف معها نتيجة "تطاولها" بالدعوة لتغيير شكل السيطرة على السلطة، عبر الدعوة لحكم "الأغلبية" (بمعناها الديني). وها هو يهلل للحرب "المشتركة" بين القوات الأميركية و"الجيش العربي السوري" ضد الإرهاب.
إن الفكرة الجوهرية التي قامت عليها سياسات تلك القوى هي أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، وهذا ما جعلها تدعم "الجهاديين" سابقاً. الآن، بعد أن أصبح هؤلاء "الجهاديين" هم العدو ضد نظام "وطني" و"ممانع"، كيف يمكن أن يستوعب العقل الأحادي الأمر. هذا العقل يقوم على مبدأ إما/ أو، مع/ ضد. الآن يتقاتل "ضدان"، أين سيكون موقفها؟ العودة إلى تأييد "الجهاديين"، أو تغيير كلية الفهم بالتخلي عن أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي؟ في كلا الحالين سينهار كل المنطق الذي تأست المواقف عليه، لأنه يفرض أن يكونوا مع أميركا أو مع داعش. أن يتخلوا عن أن داعش هي "صنيعة" أميركا، ومن ثم يجري كسر "الممانعة" بالتحالف مع أميركا، أو أن يظلوا متمسكين بـ "الممانعة" ويكشفوا "تحالفهم" مع داعش. ميل السلطة هو نحو أميركا لأن كل خوفها يتمحور حول الخشية من "ضربة أميركية" كما كان منذ بدء الثورة، ولأنها لعبت بداعش من أجل الوصول إلى ذلك. لكن هذا الموقف الذي تريده السلطة أصلاً سيربك "اليسار الممانع" الذي يكسر كل منطقه الذي كرره طيلة سنوات ثلاث حول "المؤامرة الإمبريالية"، وكون النصرة وداعش هما أداة المؤامرة.
لقد رسم هؤلاء معادلة بسيطة تنطلق من: إمبريالية (أميركا)/ ضد إمبريالية، وكان الضد هو السلطة السورية، لهذا جرى اعتبار ما يجري مؤامرة، وباتت داعش (التي هي التجسيد العملي لخطاب السلطة الذي أطلقته منذ اللحظة الأولى) هي امتداد لهذه الإمبريالية. لهذا بات الصراع هو: السلطة/ داعش (طبعاً والنصرة)، ومن ثم باتت الإمبريالية ضد داعش. هذا الأمر يفرض كسر أحد الخطين هذين، الأول: أميركا/ السلطة، والثاني داعش/ السلطة. كما سنرى فقد انقلبت الأولوية في التحديد من الإمبريالية إلى السلطة، وبات الاختيار هو بين الإمبريالية أو داعش.
في كلا الحالين سيظهر أن كل الخطاب الذي كرره هذا اليسار (وكل خطاب السلطة كذلك) كخطاب كاذب، لأن المؤامرة كانت تتحقق من قبل المركب: الإمبريالية/ داعش. السلطة تتخلى عن ممانعتها من خلال الدعوة لتحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها، لكن ما هو خيار "اليسار الممانع"؟ الوقوف على الحياد؟ وهذا يسقط المنطق الذي أقاموا كل تصوراتهم عليه، والذي يفرض أن تكون مع طرف ضد الآخر. أو أن يقفوا ضد الطرفين؟ أيضاً هذا يسقط منطقهم الذي حرّم على الآخرين اتخاذ موقف ضد داعش والنصرة وأميركا. واصلاً كان يمكن لهم أن يتخذوا هذا الموقف منذ البدء، بحيث لا يكونوا إما مع السلطة او مع الثورة، من خلال رؤية الصراع الطبقي الواقعي وتعقيدات التناقضات العالمية. اللحظة الآن، تعلن انهيار كل المنظور الذي أسس هؤلاء مواقفهم عليه، وتوضح كم كانت الشكلية والسطحية مسيطرة، بحيث وضعوا العالم في "معسكرين" لا غير، وأسسوا كل الصراعات على أساس هذين المعسكرين، ليظهر الآن تهافت هذا المنظور، وخطل كل تلك المواقف. بحيث باتوا مجبرين إتخاذ موقف دمّر أساس منظورهم. ولهذا وجدنا كيف ينشق "المعسكر" الذي بنوه في الخيال، بين روسيا وإيران وحزب الله الرافضين للتدخل الإمبريالي الأميركي (مثل الإخوان المسلمين السوريين بالضبط)، والسلطة السورية التي رحبت بـالحرب "المشتركة" ضد الإرهاب. أين سيقفون؟ متاهة تكشف عن هزل التحليل، وانحراف المنطق، وأيضاً غياب الأخلاق.
الأزمة هي في العقل الأحادي ذاته، الذي هو التعبير عن سيادة المنطق الصوري، المغرق في السطحية. والذي يبسط الأمور إلى ثنائيات متعادية، فيتوه حين تتشابك الصراعات وتتعدد التناقضات. ولأن الواقع متعدد التناقضات بالضرورة يلون إلى النهاية. إذن هنا، سيندثر هذا اليسار "الممانع" لأنه سقط في الوحل. ثنائيته وسطحيته قادتاه إلى ذلك. لكن سنسجل أنه لعب دوراً تشويهياً كبيراً، ودافع عن سلطة مافياوية مجرمة، وبرّر لها كل القتل والتدمير الذي مارسته، وكل الوحشية التي ظهرت فيها. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا يمكن غفرانه.
(10) اليسار الممانع في مساره المتقلب
في العقود الماضية كان اليسار يتهمش ويتلاشى، بالضبط لأن سياسته لم تكن مطابقة للواقع، حيث كان يؤسس مواقفه بناءً على هواجس أو انطلاقاً من فهم "سياسوي" يقوم على العلاقات وليس على فهم الواقع الذي يبدأ من الوجود. فالعلاقة هي نتاج الوجود وليست بديله، ولا تحلّ محله، ولا تحظى بأسبقية عليه. وهنا حلت العلاقة السياسية محل الوجود، ليُنظر إلى العالم من منظور العلاقات بين الدول، بحيث تلمس طبيعة هذه العلاقات فقط.
وضمن هذا المنظور يجري تحديد "الطرف الرئيسي" كعدو أو كصديق، ليجري بعد إذ تحديد المواقف من القوى الأخرى، لتكون صديقاً أو عدواً بناءً على موقفها من "الطرف الرئيسي". على ضوء ذلك حدد "اليسار الممانع"، أي "اليسار" الذي يدعم النظام السوري ألان، مواقفه طيلة السنوات الماضية. ولا شك في أن سرد هذه المواقف منذ بداية القرن الجديد سوف توضّح المتاهات التي عاشها، وكيف أنه تقلّب يمنة ويسرة، واعتبر الخاطئ صحيحاً والصحيح خاطئاً، ولم يكن الثابت في كل ذلك سوى معادلة أن العدو الرئيسي هو الإمبريالية الأميركية، أو أن الصديق الرئيسي هو "المقاومة"، ومن ثم "الممانعة". لكن كان يطغى منطلق العدو الرئيسي في العقد الأول (أي قبل الثورات)، ليصبح الصديق الرئيسي هو الذي يطغى بعدئذ. والفارق في الأولوية هنا، كان يحدد المواقف من القوى الأخرى ومن التحالفات.
خلال السنوات الأربعين السابقة كان الصراع الرئيسي يتركز على الإمبريالية الأميركية، سواء لأنها تحتل وتقاتل الشعوب، أو لأنها تدعم الدولة الصهيونية والنظم "العميلة"، أو لأنها في صراع مع الاتحاد السوفيتي. لقد كانت العدو الرئيسي، العدو الذي يمثّل التناقض "الرئيسي"، في مواجهة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني. واقعياً انتهت حركة التحرر الوطني منذ عقود، كما انتهت الاشتراكية، لكن الإمبريالية الأميركية ظلت هي العدو الرئيسي. ولا شك في أنها عدو رئيسي كونها المركز للنمط الرأسمالي، لكن منظور "اليسار الممانع" لا ينطلق من هذا الأساس، لأن هذا الأساس يفرض الوقوف ضد كل رأسمالية، لأنها باتت تكرّس الهيمنة الإمبريالية، بل ينطلق من "العلاقة السياسية"، أي من طبيعة العلاقة السياسية لهذه الإمبريالية، ليبدو أن كل مختلف معها هو عدوها، وبالتالي هو جزء من حركة التحرر الوطني. هنا أصبح الخلاف معها هو وحده كافياً لتحديد "طبيعة" المختلف، وتصنيفه في "قالب جاهز" هو استمرار لماضٍ مضى، فيكون من حركة التحرر الوطني، وبالتالي يجب الوقوف معه ودعمه، والتحالف معه.
وإذا كانت سنوات تسعينات القرن العشرين هي سنوات فوضى فكرية على ضوء انهيار النظم الاشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفيتي، وبالتالي نهاية الحلفاء والرفاق، الذين كانوا معنا في الصراع ضد الإمبريالية، الأميركية خصوصاً. فقد كان القرن الجديد هو الذي أوضح تخبط وتقلب مواقف هذا "اليسار"، حيث ظل ينطلق من المنظور ذاته، بثنائية مبسطة استقاها منذ مرحلة الحرب الباردة، رغم اختلاف الأحوال وتغير مواقع الدول، وهو ما كان يوقعه في هذا التخبط والتقلب. وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 هي التعبير عن ذلك، فلأن الحادث كان ضد أميركا نال بن لادن وتنظيم القاعدة كل الرضى والمديح، وأُلبس بن لادن وجه جيفارا، للتعبير عن أن هذا التنظيم هو الشكل الجديد للحركة الثورية القديمة التي كانت تقاتل أميركا. لقد انتشر الشعور المليء بالفرح بحدوث نهوض ثوري جديد أساسه "الإسلام الجهادي". ولهذا لقي التأييد والدعم، والاندفاع، إلى أن بدأت الشكوك تحوم حول طبيعة التنظيم، خصوصاً بعد احتلال العراق والدور الذي لعبه فرع تنظيم القاعدة هناك. وهذا يُظهر "السطحية" التي حكمت الموقف، والمنطق الآلي الذي جعل كل منْ يظهر أنه ضد أميركا ثورياً. وهي السطحية والآلية ذاتها التي حكمت كل مواقف هذا "اليسار"، الذي سيبدو أنه ليس يساراً بأي حال.
ثم، مع بداية القرن الجديد كانت حركة حماس تظهر كـ "حركة مقاومة"، حيث مارست العمل المسلح ضد الاحتلال. طبعاً كان الموقف هو "الدعم المطلق"، دون تدقيق في ماهية حماس، وما الدور الذي تقوم به، والى أين سيوصل؟ بلا شك يجب دعم كل مقاومة ضد الاحتلال، لكن هذا يفرض التدقيق في بنيتها وفهم أهدافها الحقيقية، وهو ما كان يحتاج إلى منطق أعمق من المنطق الصوري الذي يحكم هذا "اليسار". الأسوأ كان في اعتبار كل "الإسلام السياسي" تحرري ومعادي للإمبريالية، وبالتالي الانجراف المذلَ للتحالف معه، أو بالأدق للتبعية له من قبل هذا "اليسار"، وتعميم الأوهام حول طبيعته ومواقفه، والدور الذي يلعبه. ولقد كان دوره هذا من المسببات التي ضخمت "الإسلام السياسي"، وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين. نلمس ذلك في مصر، ومن قبل معظم اليسار الذي يقف الآن مع النظام السوري. ونلمس ذلك في الأردن، أيضاً من الأحزاب التي تدافع الآن باستماتة عن النظام السوري. وفي فلسطين حيث التحق اليسار بحماس لسنوات. وفي تونس حيث تحقق التحالف مع حركة النهضة. وفي مجمل "اليسار الممانع" الذي هلّل وطبّل لـ "الإسلاميين"، ونفخ فيهم، بدل أن يكشف بنيتهم ومنظورهم والمصالح التي يعبّرون عنها، وبالتالي حدود صراعهم مع "الإمبريالية" أو مع الدولة الصهيونية.
لقد سار معظم اليسار العربي، و"اليسار الممانع" بالأساس، خلف الإسلاميين، وروّج بأنهم معادون للإمبريالية ومع تحرير فلسطين، وضد النظم التابعة، وبأنهم الشكل الجديد لحركة التحرر الوطني.
في مستوى آخر، كان هذا "اليسار" متحمساً لقطر التي قررت إعمار الجنوب اللبناني بعد حرب سنة 2006، وبات أميرها "أمير المقاومة" كما وصّفه حسن نصرالله. كما كان يدافع باستماتة عن تركيا التي خاضت صراعاً مع الدولة الصهيونية، بعد حادث "اسطول الحرية" سنة 2009. وبالتالي كان يصطف في صف محور الممانعة الذي كان يتشكل من كل من تركيا وقطر والنظام السوري، والى حدّ ما إيران. وكان الإسلاميون يوضعون ضمن هذا المحور. هذه هي الصورة التي كان يظهر هذا "اليسار" فيها، وكان يتوضح أن سطحيته هي التي تجعله يصطف هنا، دون فهم لطبيعة هذه الدول والقوى. ولهذا ببساطة انقلب موقفه من هذه الدول والقوى، حيث باتت "عميلة للإمبريالية" الأميركية. كيف يمكن أن ينقلب الموقف بهذه البساطة؟ بالضبط لأن هذا "اليسار" لم يحلل تكوين هذه الدول والقوى، ولم يفهم بنيتها، فقط انطلق من موقفها في لحظة معينة ظهرت فيها أنها في صدام مع الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني. ونتيجة عدم فهم البنية التحق بهذه الدول والقوى، ونظّر لها، وبرر سياساتها. وهذه هي السمة العامة لهذا "اليسار".
هذا ما ظهر في الموقف من النظام السوري، ورغم "الصراعات" التي حكمت بعض هذا "اليسار" مع النظام، فقد ظهر بعد "نشوب صراع" الإمبريالية الأميركية معه، أنه ما بقي من "رائحة الماضي"، أي أنه الباقي من "حركة التحرر الوطني". وأصبح مركز "الممانعة" و"المقاومة"، الذي يجب الدفاع عنه بكل قوة، لأن أميركا تحيك المؤامرات ضده. لا نريد هنا أن نبحث في الخلاف الأميركي السوري، والأسباب التي أوجدته، وكيف انتهى بعد وصول باراك أوباما إلى الرئاسة، حيث يمكن توهم صراع حقيقي على ضوء ما يظهر إعلامياً ما دام البحث لم يطل بنية النظام، وسياساته، وخصوصاً المسار الذي اتخذه على الصعيد الاقتصادي بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة. وبالتالي تحديد طبيعة الطبقة التي تسيطر على الاقتصاد وتقرر سياسة الدولة. فهذه ليست في قاموس "اليسار الممانع"، بالضبط لأنه ينطلق من العلاقة، وهنا علاقة النظام بالإمبريالية الأميركية. فما دامت "سيئة" لا بد من الوقوف معه ودعمه والدفاع عنه بكل شراسة، فهو بالتالي "ضد الإمبريالية"، وأيضاً مستقلّ وتحرري.
لكن، ما هو الموقف من إيران، الحليف الأساسي للنظام، التي باتت تسيطر على القرار في دمشق؟
هنا سنلمس انقلاباً معكوساً عما حدث مع كل من تركيا وقطر، حيث كان موقف هذا "اليسار" من إيران، ليس سلبياً فقط، بل أن البعض منه اعتبر أنها باتت العدو الرئيسي أكثر من الدولة الصهيونية. حدث ذلك بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والمساعدة الكبيرة التي قدمتها إيران، ومن ثم الدور الخطر الذي لعبته لتدمير العراق وقتل طياريه وعلمائه، والإسهام في تفكيكه طائفياً. لقد كانت إيران عدواً رئيسياً وحليفاً لـ "الإمبريالية الأميركية". وباتت الآن حليفاً، وجزءاً من القوى "المعادية للإمبريالية"، ومن دول التحرر، إلى حدّ دفع البعض إلى الحديث عن "نهضة عربية جديدة بقيادة إيران والشيعة". وهنا انقلاب في الموقف كذلك، فبعد أن كانت عدواً رئيسياً باتت حليفاً رئيسياً، وهذا يوضّح المنطق الشكلاني الذي يحكم النظر، حيث ينقلب الموقف من طرف إلى الطرف المقابل، في وضع يجري تصويره على أنه يتضمن طرفين فقط. طبعاً دون فهم وضع إيران وبنيتها الاقتصادية والطبقية، وسبب خلافها مع الإمبريالية الأميركية، ومتى يمكن أن تتحالف معها بالتالي. هنا كانت العلاقة مع النظام السوري هي التي أحدثت هذا الانقلاب، الذي لا يمكن توصيفه إلا أنه انقلاب بهلواني، لا تحتمله الماركسية، لأنه يتأسس على المنطق الذي تجاوزته: أي المنطق الصوري.
روسيا كذلك، فقد كانت مهملة، وخارج كل حساب في الفترة السابقة للثورات. بل كان النظر إليها كون نظامها الحالي هو الذي دمّر الاشتراكية، والتحق بالإمبريالية الأميركية. الآن تعامل كـ "دولة تحررية"، وتكون البرجوازية المسيطرة فيها، رغم طابعها المافياوي، هي "برجوازية مستقلة"، وتسعى إلى مواجهة الإمبريالية من هذا المنظور التحرري. ويصبح اعتبار أنها إمبريالية هرطقة، رغم أن كل ما تقوم به هو التعبير المباشر عن طابعها الإمبريالي. حدث كل ذلك فقط حين دعمت النظام السوري، وحمته من السقوط (إلى الآن)، رغم أنها فرضت قواعدها العسكرية في سورية ككل إمبريالية، وتقتل وترتكب مجازر ضد الشعب السوري من أجل إنقاذ نظام على شفير السقوط.
حينما ينقلب الموقف من نقيض إلى نقيض يتوضّح غياب كل منطق علمي، وتظهر السطحية بكل وضوح، فهو يدلّ على تقدير صوري للقوى والدول، وتكون العلاقات هي التي تحدد الموقف، ولأن العلاقات متغيرة تتغيّر المواقف، فينقلب الصديق عدواً، والعدو صديقاً، في تحوّل سريالي. ربما يسمح التكتيك في تحويل بعض المواقف، لكن أن يتحوّل كل التقييم والتقدير نتيجة تحوّل العلاقات فهو ما يعني أن الشكلانية هي التي تحكم المنطق، وهو ما حاولت توضيحه منذ البدء. الأمر الذي يعني العجز عن فهم الماركسية، وتمثّل منهجيتها، المنهجية التي تتجاوز الشكل إلى الجوهر، ولا تقسم العالم إلى طرفين، بل تلمس تعدد التناقضات، وتعدد الصراعات، وتنطلق من التحليل الاقتصادي الطبقي بالأساس وليس من منظور العلاقات/ الصراعات الدولية، وعبر ذلك يمكن أن تُفهم أسباب الصراعات، ومدى علاقتها بمنظور اليسار في صراعه من أجل تجاوز الرأسمالية.
البهلوانية سمة من سمات المنطق الصوري، الذي يبدأ بالسكون ويتوقف عنده. لهذا فإن سمة اليسار الممانع هي البهلوانية بالتأكيد.
كان واضحاً أن الثورة السورية كانت الكاشف لوضع اليسار العالمي، ولخواء فكري يعيشه، وإفلاس يعلن عنه. فقد أظهر عجزاً عن فهم التحولات العالمية، وعجزاً أكبر عن استيعاب معنى الثورات، لهذا ظل يكرر الخطاب الذي حفظه منذ زمن طويل، حين كان هناك استعمار، وبات المستعمرون هم "العدو الرئيسي"، وحين كان هناك اشتراكية، حيث كانت في تصارع مع الإمبريالية. وأيضاً لم يلمس التحولات التي طالت "بلدان التحرر الوطني"، وطبيعة الصراعات التي تنشأ بين الدول، بعد أن تلبرلت. ولهذا انساقت خلف النظام السوري، كونه أولاً من نظم "التحرر الوطني"، ويعتمد "التنمية الوطنية"، و"يدعم المقاومة" وفي محور الممانعة. وأيضاً هو "في تناقض" مع الإمبريالية الأميركية.
كل ذلك كان يظهر قصور الوعي، وغياب التحليل الماركسي، ويُظهر حنيناً جارفاً لماضٍ زال. وبهذا بات اليسار في صف رأسمالية مافياوية، ونظام استبدادي، وداعماً لوحشية لا مثيل لها. كما بات في صف الإمبريالية التي ينطلق من عدائه لها في موقفه ذاك، ومع النظم الرأسمالية التابعة التي كلها كانت تقف ضد الثورة، وعملت على تدميرها مباشرة كما فعلت إيران وروسيا وحزب الله والميليشيا الطائفية العراقية، أو بشكل غير مباشر عبر تفكيكها وأسلمتها كما فعلت السعودية وقطر. لقد بات اليسار العالمي في الصف المعادي للثورة، ولهزيمة الإمبريالية والرأسماليات المافياوية. بات في صف الرأسمالية ضد الشعوب، وبات يشكك في ثوراتها، ويدعم الساعين لسحقها.
(1)
اصطدمنا منذ البدء بموقف اليسار العالمي، الذي انطلق من الشكل القديم للعالم، أي من كون أميركا هي قوة السيطرة الإمبريالية، زعيمة الإمبريالية، التي تخوض الصراع ضد الشعوب.
هي كذلك، لكن جرى التعامل من منطلق أن كل من يختلف معها هو "تحرري" و"تقدمي"، وحتى "ثوري"، كونه "معادياً للإمبريالية" التي تتخلص في أميركا. تصبح هي "الشيطان الأكبر"، ويصبح كل مختلف معها، بغض النظر عن الأسباب، حاملاً لكل الصفات التي مرّ ذكرها. بالتالي هنا الدولة الإمبريالية الأميركية، وهناك الدول التي تختلف معها. لهذا نحن نحارب "الدولة الأميركية" كونها إمبريالية، ونقف مع الدول التي تختلف معها بغض النظر عن أسباب هذا الاختلاف.
المبدأ هنا يرتكز على السياسي، أي الدول، وينطلق من "الصراع السياسي" بين الدول، ولا يلتفت إلى الاقتصاد والطبقات والصراع الطبقي. يلتفت إلى الصراعات السياسية ولا يلتفت إلى الترابط أو التصارع الاقتصادي، متجاهلاً أن "السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد"، وأن الأمر في الماركسية يتعلق بكون الاقتصاد والبنى الاجتماعية التي تقوم عليه هي التي تحدِّد السياسة والأفكار. وأن فهم الإمبريالية يقوم على فهم الاقتصاد الذي شكّلها.
إن الخلاف الذي تفاقم بين أميركا والنظام بعد اغتيال رفيق الحريري، والعقوبات التي فرضتها أميركا، وسعيها لإسقاط النظام، جعل هذا النظام في نظر اليسار العالمي "معادياً للإمبريالية"، وأُسبغت عليه كل ابهة حركات التحرر والنزوع الاشتراكي، والبلد الذي لا زال مستمراً في تحقيق "التنمية المستقلة". رغم أن هذه المرحلة (2004/ 2007) كانت الأسرع في فرض اللبرلة، والميل للربط مع المركز الإمبريالي، ومع الطغم المالية، والرأسمال الخليجي والتركي، وبالتالي تكريس التشابك مع الرأسمالية من موقع التابع، كون الرأسمالية الجديدة التي نشأت عبر نهب الدولة والمجتمع، نشطت في القطاعات الريعية، وكانت تصدّر أموالها للتوظيف في الخارج. لنلمس هنا أن "الإشكال" السياسي الذي حدث ترافق مع ترابط اقتصادي وليس مع قطيعة اقتصادية، كان يحمل في مضمونه ميل للتصالح السياسي. وهذا ما حدث بعد وصول باراك أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة.
هنا إشكال نظري عميق، يقزِّم الماركسية إلى نظرية في الصراعات السياسية. يحل المفهوم الجيوسياسي محل التحليل الاقتصادي الطبقي. لهذا يكتفي هذا المنظور بمظهر الصراعات دون لمس جوهرها لكي يحدد مواقفه. وهو بذلك لا يحتاج إلى معلومات، وفهم للواقع وعنه، حيث أن الشكل (الصراع) "يعبِّر" عن الواقع، هو الواقع، بمعنى أن الواقع هو هذه الصراعات السياسية، ومن ثم علينا أن نكون هنا أو هناك. وفي هذا مراوغة، لأن للصراعات أسباب متعددة ليست كلها تحررية وثورية، فهناك التنافس بين الإمبرياليات، وهناك محاولات تحسين التوضّع فيما يتعلق بالرأسمالية التابعة، وسعيها إلى أن تضغط لكي تحقق مصالحها بشكل أفضل.
ويمكن أن نقول أن هذا الإشكال النظري تمثّل في البقاء في حدود المنطق الصوري، الذي يرى الشكل دون المضمون، ويلمس الحدث دون البحث في تاريخيته وأبعاده، وينطلق من ثنائية حتمية مبدؤها هو: إما/ أو، أو مع/ ضد. ولهذا إذا جرى اعتبار أميركا هي العدو فإن كل من يختلف معها هو صديق. وهذا المبدأ يحكم كل تحديد للعدو، ليكون المختلف معه صديقاً. بالتالي هنا ليس من ماركسية، حيث لم يرتق اليسار العالمي إلى مستوى تمثُّل منهجيتها: الجدل المادي. المادي، أي الذي ينطلق من الاقتصاد والطبقات وليس من السياسة والأيديولوجية، لأن هذه نتاج ذاك وليس العكس.
لهذا اقول ان أميركا إمبريالية، لكن أساس إمبرياليتها هو النمط الاقتصادي الذي فُرض على العالم، والذي تتحكم به هي. ولهذا فإن ما يكون ضرورياً أولاً فهم علاقة الطبقة المسيطرة في سورية بمجمل هذا النمط، هل أنها منخرطة به أو أنها في قطيعة معه. إن فرض اللبرلة عنى بالضرورة الانخراط في النمط الرأسمالي، لهذا باتت الرأسمالية السورية المسيطرة جزءاً تابعاً فيه بالضرورة. لماذا الخلاف؟ طبعاً يمكن أن يحدث خلاف بين راسمالية تابعة تحاول تحسين وضعها وإمبريالية تريد فرض علاقة لمصلحتها. وهذا ما كان واضحاً في سورية، حيث كان "رجال الأعمال الجدد" (المافيا العائلية)، يجهدون من أجل التفاهم مع أميركا، لكن كان المنظور الأميركي مختلفاً، بالضبط لأن سياسة بوش الإبن كانت تطمح بقيام نظام طوائفي في سورية في إطار منظورها للشرق الأوسط. بالتالي الخلاف كان بالضبط في رفض أميركا لاستمرار هذه السلطة لمصلحة سلطة طوائفية تنشأ من داخلها (غازي كنعان وعبد الحليم خدام).
(2)
في مستوى آخر، سنجد بأن هذا المنظور الصوري الذي حكم اليسار، تمظهر من خلال عكس الصراعات الداخلية في كل دولة، أو على صعيد أوسع، فحكم تحديد الموقف من الثورة السورية. حيث بات الخلاف مع النظام القائم، أو مع حزب ما، يحدد الموقف. فبات موقف النظام من الثورة أو موقف حزب معين، هو المحدِّد لموقف اليسار. وهنا يجري اعتماد الموقف المعلن للنظام دون تحديد أساسه والأسباب التي أدت إليه، ولا مدى عكسه للموقف الفعلي. ودون لمس أنه يمكن في لحظات أن يجري "التوافق" بين طرفين متصارعين في موقف معين. وما يحدد الموقف من قضية ما هو بحثها بمعزل عن تشابكاتها أولاً، وعن مواقف القوى الأخرى، فهي قضية قائمة بذاتها، ولا شك في أنها سوف تلقى مواقف من أطراف عديدة متناقضة، وعلى ضوء تحديد ماهية القضية يمكن فهم مواقف مختلف القوى. ما يجري هو العكس، فإن الموقف من قوة ما هو الذي يحدد الموقف من القضايا الأخرى.
إذن، هناك أولاً الموقف الحقيقي للقوى، وهناك ثانياً إمكانية توافق قوى متناقضة حول قضية معينة، هذا امر يجري في الواقع، وليس مطلوباً نتيجة ذلك تغيير الموقف من تلك القوة أو اتخاذ موقف خاطئ من القضية. لكن مع الأسف هذا ما يجري من قبل اليسار العالمي. فهو يرى العالم من خلال ثنائية تحكم منظوره، ويحدد مواقفه على ضوء صراعه مع طرف معين (حزب أو سلطة أو الإمبريالية). دائماً هناك طرف محدِّد لموقفه، هو ما يعتبر أنه "التناقض الرئيسي"، وما يخوض الصراع المستمر معه. بمعنى أن منظوره يقوم على عكس رأي "العدو الرئيسي" وليس على منهجية بدأ بتحليل الواقع بغض النظر عن مواقف القوى والدول. هنا يصبح تحديد المواقف سهلاً، لأنه يقوم على ضد موقف "العدو"، وهذا لا يحتاج إلى فهم وتحليل بل إلى "رد فعل"، بالتالي دون "عقل"، بل عبر "الغريزة".
أشرت قبلاً إلى الموقف من "الإمبريالية الأميركية"، وبالتالي اعتبار كل مختلف معها "معنا" أو نحن معه (بغض النظر عن التوصيف، هل هو تحرري أو تقدمي أو ثوري، أو برجوازية وطنية). لكن هناك أشكال أخرى يتمظهر فيها موقف اليسار من الثورة السورية. فمثلاً كان الموقف ضد نظم الخليج العربي، وخصوصاً السعودية، ومن ثم قطر، يفرض على اليسار أن يكون ضد الثورة، بالضبط لأن السعودية تعلن أنها مع "الشعب السوري"، بينما كانت في الواقع تدعم السلطة، وتجهد لوقف المدّ الثوري قبل أن يصل إليها، في وضع يسمح بذلك نتيجة الوضع الاقتصادي المزري لجزء كبير من الشعب. وهذا ما أشار إليه بشار الأسد في تصريح واضح بداية سنة 2015، حيث أشار إلى أنها طلبت منه أن يسحق الثورة ويسحق الإخوان. لم يجهد هذا اليسار لفهم الموقف الحقيقي للسعودية، لكنه أخذ "التصريحات" لكي يبني عليها موقفه، الموقف النقيض لموقفها، فوجد ذاته ضد الثورة بالضرورة. وهنا تظهر الصورية واضحة، ويظهر الكسل الفكري، أو الموات الفكري، بأجلى صوره.
بالنسبة لقطر الأمر مختلف قليلاً، فقد كانت في محور الممانعة، وداعمة للمقاومة، فكان موقف اليسار إيجابياً منها. لكن انقلب الموقف على ضوء اختلافها مع النظام دون فهم أسباب هذا الاختلاف، فباتت متآمرة وإمبريالية، كأنها لم تكن كذلك من قبل، وفقط حين اختلفت مع النظام باتت كذلك. بالتالي ليس التكوين الداخلي لقطر هو ما يحدد الموقف منها بل ان علاقتها بالنظام السوري هي هذا المحدِّد. لكن في الماركسية ليست العلاقة هي المحدِّد بل الوجود، الماهية، البنية.
هذا النظر الشكلي يحكم اليسار التركي، الذي ينطلق من صراعه مع حزب العدالة والتنمية في تحديد مواقفه. لهذا كان ضد الثورة السورية نتيجة "دعم" أردوغان لها. ولا شك في أن حزب العدالة والتنمية يمثل "برجوازية محافظة" مغلفة بالدين، وبالتالي فهي ليبرالية وأصولية معاً، لكن ليس هذا كافياً لاعتبار أن على اليسار أن يأخذ موقفاً مضاداً لها في كل القضايا، فقط لأنه ضدها. بل يجب فهم أسباب مواقفها، وكشف الهدف من هذه المواقف. لقد كان أردوغان في تحالف وثيق مع بشار الأسد، وحصل عبر هذا التحالف الإستراتيجي على مكاسب هائلة. وكان النظام يعزز هذه العلاقة، وفي سبيلها قدّم اتفاقات اقتصادية أضرت بالاقتصاد السوري. وحين نشبت الثورة سعت تركيا لأن تقنع بشار الأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية لكي يحافظ على سلطته، وظلت تضغط من أجل ذلك خمسة أشهر بعد الثورة، بالضبط لأنها حريصة على استمرار النظام نتيجة أرباحها الوفيرة. وحين قررت الانقلاب على النظام فعلت ذلك نتيجة خشيتها من تدخل أميركي يستغلّ استخدام النظام للجيش في مواجهته الشعب لكي تتدخل (وهو الوهم الذي حكم النظام والمعارضة)، ولهذا سعت لاختيار بديل يحقق مصالحها، على رأسه جماعة الإخوان المسلمين المرفوضين شعبياً.
هذا يعني أن أردوغان يدعم طرف في المعارضة لكي يصبح هو السلطة، وهو طرف لا شعبية له، ولم يكن فاعلاً في الثورة، سوى في التأثير السلبي فيها (الأسلمة، ودعم التدخل الإمبريالي). ولهذا كان تدخلها ضاراً بالثورة. بمعنى أن مصالح حزب العدالة والتنمية هي التي دفعت لدعم طرف يحلّ بدل بشار (الذي كان صديقاً حميماً) ما دام سيسقط نتيجة معاندته الثورة، وقراره بالمضي قدماً في العنف من أجل سحقها. وهذا ما كان يضرّ بالثورة لأنه يفرض طرفاً مرفوضاً كبديل، ويعمل على تقويته وتمكينه على حساب الثورة. ألم يكن دور اليسار هو كشف هذا الدور الضار بالثورة، وكشف الاهداف الحقيقية لحزب العدالة والتنمية؟ ومن ثم دعم الثورة لكي تقوى على حساب الأطراف التي تريدها تركيا؟
وإذا كانت بعض أطراف اليسار التركي في علاقة مع النظام السوري قبل الثورة، وخلال العلاقة الحميمة مع أردوغان، فإن هناك من اليسار الذي رأى فقط "دعم" أردوغان للثورة ليتخذ موقفاً ضدها. لكن أيضاً مع النظام السوري، الذي لا يختلف من حيث تكوينه الطبقي عن نظام حزب العدالة والتنمية. لكن "العقل الأحادي" يفرض هذه الثنائية التي تفترض الوقوف مع طرف ضد آخر، فليس من مجال أوسع، أو من خيارات أخرى.
في تونس ومصر، وبلدان أخرى، انبنى الموقف من الثورة السورية على موقف اليسار من الإخوان المسلمين والسلفيين، حيث فرض تصاعد دور قوى أصولية في الثورة السورية، وتصاعد حدة الصراع بين اليسار وحركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر، في إطار الصراع المجتمعي بعد سيطرة الإسلاميين على السلطة، فرض أن تجري رؤية الثورة السورية من منظور هذا الصراع، لهذا تحوّل موقف تيارات يسارية من تأييد الثورة إلى الوقوف ضدها ودعم النظام. لقد حكم الصراع الداخلي الموقف من الثورة السورية، خصوصاً أن جماعة الإخوان المسلمين تعلن دعمها للثورة السورية، ويرسل "جهاديين" من هذه البلدان إلى سورية للقتال مع داعش التي باتت تعتبر هي التي تقاتل النظام، رغم أنها تقاتل الثورة، ليظهر الخوف من هؤلاء، وليلمس الخوف من خطرهم المحلي.
هنا تنعكس تعقيدات الوضع الداخلي وتعقيد واقع الثورة على مواقف اليسار، ليقع في ثنائية الإسلاميين وضد الإسلاميين، ليصبح النظام السوري "علماني"، ومناهض للأصولية، رغم أنه كان يرعى وجودها وتضخمها طيلة عقود سابقة. وهو الذي أطلق هؤلاء "الجهاديين" الذين باتوا يقودون أهم المجموعات الأصولية، مثل النصرة وبالتالي داعش، وأحرار الشام وجيش الإسلام. وهو الذي يلعب بها ضد الثورة كما ظهر طيلة السنتين الماضيتين. ولا شك في أن جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين يدعمون "جماعتهم" وليس الثورة بشعاراتها وأهدافها. بالتالي كان على اليسار أن يقف مع الثورة ضد هؤلاء، كما ضد النظام الذي لم يكن يختلف عن نظام بن علي (وكان حليفة الوثيق) أو نظام حسني مبارك، والأنظمة الأخرى. ولقد كان الشعب، والكتائب المسلحة، تخوض صراعاً ضد القوى الأصولية، وضد أسلمة الثورة وإخضاعها لمصالح دول إقليمية.
(3)
إذا كان الموقف من "الإمبريالية" هو الإطار العام الذي يحكم نظر اليسار العالمي، وكانت الصراعات المحلية هي الإطار الذي يحكم نظر العديد من أحزاب اليسار كما أشرنا للتو، فإن عنصراً آخر لعب دوراً في تحديد الموقف من الثورة السورية، هذا العنصر هو: فلسطين. ورغم دور النظام السوري في تحجيم المقاومة الفلسطينية، والسيطرة عليها، ورغم استقرار جبهة الجولان طيلة العقود الماضية، وأيضاً رغم العلاقات المستمرة بين النظام والدولة الصهيونية، وآخرها تلك المفاوضات التي بدأت سرية سنة 2007 وباتت علنية برعاية تركية سنة 2008، فقد جرى تذكّر أن النظام السوري معني بـ "تحرير فلسطين"، ويدعم المقاومة الفلسطينية.
لا شك في أن صراعات النظام مع أميركا بعد سنة 2005 قد رفعت من مستوى خطاب النظام، لكنه ركض نحو الدولة الصهيونية لكي تتوسط مع أميركا بعد الحصار الأميركي الذي تبع اغتيال رفيق الحريري. وإذا كان استفاد من حرب سنة 2006 ضد حزب الله كونه ممر سلاح الحزب، فقد ظل يسعى للتفاهم مع أميركا كما أشرنا قبلاً، ومع الدولة الصهيونية، حيث أن وجوده بعد أن سيطرت رأسمالية مافياوية على السلطة بات مرتبطاً بتوضعه في الإطار الرأسمالي.
لكن ظل هنا من يرى أنه لم يوقع اتفاق مع الدولة الصهيونية، وأنه يدعم المقاومة، في وضع عربي باتت تتحكم به الإمبريالية الأميركية، وأخذ ينفتح على الدولة الصهيونية. هناك قطاع فلسطيني في الأرض المحتلة كان يرى أن ذلك كافياً للوقوف مع النظام. واتخذت قوى اليسار الموقف ذاته، رغم أن شباب هذه القوى كان يتخذ موقفاً آخر، يدعم الثورة السورية. وظهر أن السلطة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية تقف مع النظام ضد الثورة، حتى وهو يقصف مخيم اليرموك ومخيم خان الشيح، وقبلها يدمر مخيم درعا والرمل الجنوبي. ولا شك في أن موقف حماس الذي بدا أنه يدعم الثورة (قبل تراجعها) سبباً في وقوف السلطة وبعض الفصائل في صف النظام، ودفاعها عنه.
ولا شك في أن موقف اليسار الفلسطيني كان مؤثراً في مجمل اليسار العالمي نتيجة "قدسية" القضية الفلسطينية والتأييد المطلق لها من قبل هذا اليسار. لكن ربما كان موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو الأخطر هنا، نتيجة ثقة العديد من أطراف اليسار العالمي بمواقفها، وانسياقها خلفها دون تدقيق أو تحليل. وموقف الجبهة الشعبية انبنى بعضه على وهم دعم النظام السوري لفصائل المقاومة الفلسطينية، وموقفه الداعم لها، لكن الجزء الأهم من الموقف انبنى انطلاقاً من طبيعة العلاقة المركبة التي تحكم علاقتها بالنظام السوري، وهي التي تتواجد مكاتبها وقياداتها في دمشق، وبالتالي تتراوح مواقفها بين المصلحة والخوف ولا تخضع للتحليل والفهم. وهذه القيادات تعرف ما الذي فرض الثورة، وكيف اشتغل النظام لتشويهها، وكيف نشأت القوى الأصولية، لكنها تكرر خطاب السلطة (كما فعلت ليلى خالد)، ويبرئ النظام من كل ما يجري.
إن قدسية القضية الفلسطينية باتت تتحوّل إلى مدخل لتظهير نظام مافياوي وحشي، وهذا ما يتحمل مسئوليته اليسار الفلسطيني، وخصوصاً الجبهة الشعبية التي فرضت مصالحها الذاتية عليها أن تتخذ هذا الموقف الممالئ للنظام. وهو الأمر الذي شوه مواقف قطاع من اليسار العالمين وجعله يقف ضد الثورة ومع نظام مافياوي وحشي. رغم أنه "من أجل تحرير فلسطين نريد إسقاط النظام"، لأن النظام عقبة في تطوير الصراع ضد الدولة الصهيونية، وهو يسعى للتفاهم معها، ولقد أنهى الصراع معها منذ زمن طويل بعد أن قرَّر أن السلام هو الخيار الإستراتيجي، وحفظ استقرار الجولان طيلة العقود الأربعة السابقة. ولقد كان حزب الله ورقة بيده، ضد اليسار اللبناني أولاً، حيث عمل الحزب، بالتعاون مع النظام، على إنهاء جبهة المقاومة اللبنانية التي أطلقت القتال ضد الاحتلال الصهيوني، وهو منذ سنة 2006 قد أنهى الصراع مع الدولة الصهيونية بعد أن وافق على القرار 1701 الذي ينهي الصراع ويبعد الحزب ثلاثين كيلو متراً شمال الحدود، وبات الحزب في وضع "دفاعي".
بالتالي فإن لليسار الفلسطيني، خصوصاً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، دور سيء في موقف اليسار العالمي من الثورة السورية، فرضتها مصالحها الخاصة وليس الموقف المبدئي، وبالتالي فهي توقع هذا اليسار في شرك موقف خاطئ نتيجة مصلحة خاصة. وهذا أسوا ما يمكن أن يحكم يساراً.
(4)
يبقى وضع "اليسار السوري"، وأقصد ما يسمى اليسار الذي هو جزء من النظام القائم، والذي هو جزء من الأحزاب الشيوعية والعمالية، التكتل الذي هو استمرار للحركة الشيوعية العالمية، والتي أعادت تنظيم لقاءاتها بعد سنوات من انهيار الاشتراكية. ومن هذا الموقع فهو مؤثر في مواقف اليسار العالمي كونه جزء منه، ومشارك في السلطة في سورية، ليكون الموقف "الطبيعي" هو "وطنية" السلطة و"تقدميتها" و"معاداتها للإمبريالية".
لم يكن غريباً أن يكون هذا "اليسار" مع السلطة، وأن يدافع عنها بكل ما يستطيع، رغم خسارته قاعدته التنظيمية التي انخرطت في الثورة كونها من المفقرين، فقد بات منذ زمن بعيد جزءاً من بيروقراطية السلطة، حيث حصل على مواقع مهمة فيها (وزراء وأعضاء في مجلس الشعب، ومدراء عامين ومدراء شركات مهمة مثل النفط والحبوب، وأعضاء في مجالس المحافظات وقيادة النقابات). إنها جزء من بيروقراطية السلطة، ولهذا لا يمكن أن يكون موقفها إلا مع السلطة التي هي جزء منها. وهذا ما يجعلها تكرر خطاب السلطة، وتعتبر أن الصراع هو صراع ضد مجموعات أصولية، وأن ما جرى هو "مؤامرة إمبريالية" من أجل "النيل من صمود سورية".
والمشكلة أن هذا اليسار كان يشير إلى حالة الإفقار التي يتعرض الشعب لها، وكيف أن السياسة الاقتصادية سوف تؤدي إلى أزمة مجتمعية. ولقد نقد طويلاً تلك السياسات، لكن من منظور تنبيه السلطة لما يمكن أن تؤدي إليه. لكنه حين أدت تلك السياسات إلى الثورة اصطفّ مع السلطة ضد الشعب. وهو في موقفه هذا ينطلق من فكرة قالها خالد بكداش قبل ربع قرن، حيث برَّر تحالفة مع النظام بـ "موقفه المعادي للإمبريالية" رغم أن النظر للوضع الداخلي يفرض "الوقوف في المعارضة" كما قال. لهذا فإن الغطاء الذي تبرر به دعمها النظام هو هذا، أي اعتبار أنه "معادي للإمبرالية" رغم معرفتها بكل ميول المافيا التي باتت تسيطر على الدولة.
ليس التاريخ هو الذي يحدد من هو اليسار بل الواقع، وحين يصبح هذا اليسار جزءاً من سلطة مافياوية لا يعود يساراً، وتكون مواقفه من السلطة مجال تشكيك. لكنه بكونه كان جزءاً من الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمية، ظل معتمداً من هذا اليسار الذي وقف بقوة مع نظام مافياوي مستبد، وكان لرأيه رجحاناً لافتاً كونه سوري.
(5)
كان كل ذلك يشير إلى إفلاس، حيث ظهر أن المنظور المنهجي قاصر، شكلي صوري ينطلق من ترسيمة عامة، قامت على أساس سياسي كما أشرنا. لقد توضّح إفلاس اليسار العالمي الذي استمدَّ منظوره من "الماركسية السوفيتية"، أو تأثر بها. والذي أعلى من الصراع ضد الإمبريالية، محولاً إياه إلى تجريد، وحاصراً معنى الإمبريالية في منظور سياسوي ضيّق، كما أشرنا.
لكن وضع الثورة تعقّد بشكل كبير، فقد تحوّلت إلى حرب مسلحة، دون إستراتيجية أو خبرة، أو انتظام، فبدت كمجموعات مناطقية، حال تتحرر مناطقها تقيم سلطة سيئة، وتكتفي بذلك. وحيث انتهى تقريباً النشاط الشعبي الذي كان السمة الجوهرية لعام من عمر الثورة. وتشرّد أكثر من نصف السكان، جزء كبير منهم خارج سورية، فتقلص عدد الناشطين، خصوصاً بعد أن زُجَّ بقسم كبير منهم في السجون، وتعرَّض قسم آخر للقتل أو الهرب، أو التحق بالعمل المسلح.
كما تضخمت المجموعات الأصولية، بفعل الدعم الإقليمي والدولي، ونتيجة التحاق شباب بها لأنها تمتلك المال والسلاح في وضع بات الصراع فيه ينحكم للغريزة، ويتسم بالوحشية التي تمارسها السلطة. ومال جزء مهم نحو الأسلمة، سواء نتيجة الحاجة أو نتيجة الوحشية التي تعيد إلى الغريزة، أو بفعل تسيُّد "الوعي الشعبي". ولهذا ظهر أن الأسلمة هي التي تسيطر على مجمل الكتائب المسلحة، وأن المجموعات الأصولية (داعش والنصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام) هي الأقوى والأكبر.
وتشابكت معظم المعارضة مع مصالح الدول الإقليمية، وباتت تخدم سياساتها، كما مالأت القوى الأصولية طويلاً، واندفع قطاع منها نحو التأسلم، وحتى الطائفية.
على ضوء كل ذلك بات السؤال هو: أين هي الثورة إذن؟
لقد "اختفت" تحت تراكم هائل من الأسلمة والتبعية لهذه الدولة أو تلك. لقد تراكم فوقها ركام من الأصولية والمرتزقة والفقاعات، أصبحت هي ما يركّز الإعلام عليها، ويعتبر أنها هي الثورة. لقد تغطت الثورة بغلاف سميك من الأوهام والأساطير معززة بوجود تلك القوى الأصولية، وهؤلاء المرتزقة والمرتبطين بهذه الدولة أو تلك، وبكثير من الإعلام المضلل. هذا ما سهّل تراجع قطاعات من اليسار دعمت الثورة في مرحلة أولى، حيث بدا لها أن الثورة تحوّلت إلى صراع طائفي، أو حرب أهلية بين قوى "رجعية"، أو باتت تمثّل صراعاً بين السلطة والمجموعات الأصولية (داعش والنصرة). وأيضاً أنها باتت تنحكم لصراعات القوى الإقليمية والدولية.
هل نستطيع نحن أن نجيب على سؤال: أين الثورة؟ وهل لا زال في سورية ثورة؟
هذا سؤال لنا، يخصنا، لكي نستطيع مواجهة كل المشككين، والمرتبكين، والذين تشوشت مواقفهم بعد تعقُّد الوضع، وتشابكه.
(6)
ما الحرب في سورية؟
في سورية صارت الحرب المسلحة هي "كل شيء"، فتراجع الحراك الشعبي الذي وسمها منذ البدء، وتهمّشت التظاهرات، وتقريباً اختفى النشاط المدني لمصلحة الصراع المسلح. لست هنا في وارد البحث في من سبّب ذلك، فقد أشرت إليه مراراً، حيث فرضت وحشية السلطة الانتقال إلى العمل المسلح، رغم أن قوى في المعارضة حاولت أن تستغله، ودفعته إلى متاهات أضرته. لهذا يُطرح السؤال حول طبيعة الصراع في سورية؟ هل لازال ثورة شعبية؟ هل هو حرب أهلية؟ أو هو صراع طائفي؟
التحديد المتداول يعطي ما يجري صفة "حرب أهلية". ومعنى الحرب الأهلية المتداول هو "الاقتتال الأهلي"، كما حدث في لبنان حسب الذين يطلقون هذا التوصيف. ورغم أن ماركس كان يعطي الصراع الطبقي صفة حرب أهلية (مثلاً كتابه الحرب الأهلية في فرنسا" الذي يتناول كومونة باريس وثورة البروليتاريا)، حيث أن الطبقات هي "أهلية"، أي من المجتمع، لكن هنا يجري الصراع عبر الدولة، حيث تكون سلطة الطبقة المسيطرة التي تخوض الصراع الدموي ضد تمرّد الشعب، كما حدث في ثورات 1848 وضد كومونة باريس سنة 1871. بالتالي فإن الصراع الطبقي و حرب أهلية بهذا المعنى، لكن المعنى المتداول يتجاوز ذلك، بالضبط لأنه يرى الحرب الأهلية كصراع بين فئات المجتمع، كتقاتل مجتمعي، بعيداً عن الدولة. لهذا يُعطى صفة طائفية كما في لبنان، أو قبلية أو مناطقية. رغم أن كل هذه الصراعات تجد جذراً طبقياً، وإنْ كانت تستخدم "ترابطات" سواء كانت "أيديولوجية" أو مناطقية، أو تعصبية إثنية.
فقد عمدت البرجوازية المسيحية اللبنانية إلى تكتيل المسيحيين خلفها انطلاقاً من "المسيحية" ذاتها، التي كان الاستعمار قد قدّم لتلك البرجوازية امتيازات باسمها، من أجل مواجهة الصراع الطبقي الذي تفجّر، فكان في طرف من الحرب الأحزاب المسيحية جارّين قطاعات مسيحية خلفها، وفي الطرف الآخر الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وكانت الدولة "خارج" الصراع، أو وسيطاً بين أطرافه، فهي دولة المحاصصة الطائفية أصلاً. لكن الصراع أنمى قوى أرادت تعديل المحاصصة الطائفية، وهذا ما حكم الصراع بعد وقف الحرب الأهلية الأولى (1975/ 1976)، وأفضى إلى اتفاق الطائف الذي عدّل من التوازن الطائفي في السيطرة على السلطة بعد أن قُسمت الأمور مناصفة، لكنه حسّن خصوصاً من وضع البرجوازية الشيعية التي حصلت على مواقع متساوية مع البرجوازيات الأخرى.
ربما هذا هو ما أُطلق عليه الحرب الأهلية، حيث كان واضحاً الصراع بين فئات من الشعب، لكل منها أحزابه، وجرى الشغل على أن يتخذ مظهر صراع طائفي. لكن ماذا يمكن أن تسمي ما يجري في سورية؟
فقد تفجّر الصراع بين الشعب والسلطة، وعمدت السلطة منذ البدء إلى استخدام العنف لكي لا يكون ممكناً استقرار الحشود الكبيرة في الساحات. رغم ذلك ظلت التظاهرات هي أساس الصراع لسنة بعد انطلاق الثورة، رغم بدء دخول العمل المسلح كرديف بعد ستة أشهر منها. ومن ثم توازى العمل العسكري والحراك الشعبي لفترة قليلة قبل أن تبدأ هجرات المناطق والقرى جرّاء القصف الوحشي، ويتصاعد عدد اللاجئين، وبالتالي تتراجع أكثر إمكانية استمرار التظاهرات. لكن الأمر اختلف بعد ذلك، حيث أصبح العمل العسكري هو الشكل الرئيسي في الصراع، وبات جزءاً كبيراً من المتظاهرين مسلحين أو لاجئين أو معنيين باللاجئين. ومن ثم نشأت الكتائب المسلحة في معظم مناطق سورية، وباتت تسيطر على جزء كبير من سورية بعد انسحاب قوات السلطة من كثير منها. حيث انتهى النشاط الشعبي فيها كذلك.
لكن، أيضاً، ظهرت مجموعات سلفية تابعة لتنظيم القاعدة (جبهة النصرة وداعش التي انفصلت فيما بعد وباتت بديلاً عنه)، ومجموعات سلفية أخرى تريد إقامة "الدولة الإسلامية" مثل أحرار الشام وجيش الإسلام وصقور الشام، وعديد من الأسماء التابعة لهذه المجموعات أو المستقلة عنها. حيث بات يظهر أن الصراع هو بين قوى أصولية وسلطة "علوية". وهذا ما كان يغذي الميل لتأكيد طائفية السلطة وتبرير طائفية تلك المجموعات، أو حتى دعمها أو الانخراط فيها. وبهذا فقد بات السؤال هو: هل أن ما يجري هو حرب أهلية أو حرب طائفية؟
فالنظام يوصّف بأنه طائفي، وتلك التنظيمات "الجهادية" تقوم على الصراع الطائفي، لأن أولويتها كما كانت تُطرح في العراق هي قتال الروافض والمارقين والكفرة، وليس في أجندتها قتال على أساس سياسي.
طبعاً الصراع الطائفي هو حرب أهلية كما جرى توصيف الحالة اللبنانية، أي حرب أهلية تتخذ شكلاً طائفياً. الآن ما هي طبيعة الصراع في سورية؟ حرب أهلية؟ صراع طائفي؟ سنلاحظ أولاً أن السلطة كسلطة (رغم أن قواها التي تستخدمها باتت من حزب الله وإيران والعراق وبلدان أخرى) هي التي تخوض الصراع ضد كل المناطق التي خرجت عن سيطرتها، وهي التي تعتقل وتقتل في مناطق سيطرتها. طبعاً هناك منظور طائفي يحكم القوى التي تدعمها، وهذا واضح في الخطاب الإيراني الذي يدافع عن السلطة ويرسل هؤلاء المقاتلين، اعتماداً على "العصبية الشيعية" (رغم أن العلويين ليسوا شيعة). وهناك ميل طائفي لدى العصابات التي شكلتها السلطة، والتي أعطتها فيما بعد إسم الجيش الوطني. هذا الميل يشمل بعض الفئات العلوية المنخرطة فيه، لأنه يضم من مختلف الطوائف. كما أن السلطة قامت بمجازر طائفية بهدف دفع الثورة إلى أن تأخذ منحى رد الفعل الطائفي، ولا شك في أن ذلك أسهم في "أسلمة" بعض الفئات السنية، وميلها للتعصب. لكن في كل ذلك تظهر السلطة كأساس في الصراع ضد الشعب. بمعنى أن السلطة تدافع عن مواقعها، وإيران تريد بقاء السلطة حماية لمصالحها، كذلك روسيا.
في الثورة، انتقل كثير من الشباب من التظاهر إلى العمل المسلح لتحقيق الهدف ذاته، أي إسقاط النظام. لكننا اليوم في وضع من التشتت والتفكك والفوضى كبير. فقد أُدخلت الأسلمة إلى الكتائب المسلحة تحت ضغط المال، ثم أُدخل "الجهاديون"، خصوصاً بعد أن أطلقت السلطة كل هؤلاء الذين كانوا في سجونها أشهراً بعد الثورة. لهذا وجدنا أن العمل المسلح بات يتوزع بين الدفاع عن المناطق، أو "تحرير" مناطق مجاورة، أو السيطرة على مناطق انسحبت السلطة منها. وإذا كانت جبهة النصرة قد "تحرشت" بالدروز، وحاولت أن تمارس صراعاً طائفياً في عديد من المناطق، كذلك داعش، وحتى جيش الإسلام، فإن المنطق العام الذي يحكم داعش هو أن الأولوية في الصراع هي ضد "المرتدين"، أي كل من تعتبره هي قد خرج عن الإسلام، لهذا تسعى لفرض سلطتها عليه، حيث "الإسلام" (أي ذاك الذي تعتقده هي) أو القتل. كل ذلك وهي تسعى لفرض "الخلافة" (أو الدولة الإسلامية). بالتالي فإن أولوية الصراعها هي مع الشعب الذي خاض الثورة، في المناطق التي انسحبت السلطة عنها. هذه أولويتها رغم أنه يظهر أنها تشتبك مع قوات السلطة هنا وهناك أحياناً (رغم تزايد ذلك بعد الغارات الأميركية). معركتها إذن هي مع الشعب تحت مسمى الحرب ضد المرتدين. أيضاً جبهة النصرة فعلت مثل ذلك، ورغم أنه يبدو عليها أولوية الصراع ضد السلطة، فإن حروبها تطال الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطةن وتسعى لفرض سلطتها و"خلافتها"، ومواجهة المرتدين والكفار. وربما أحرار الشام لم تفعل ذلك، لكن جيش الإسلام يخضع لتكتيك "خارجي"، لكنه يفرض سلطة أصولية في المناطق التي يسيطر عليها.
بمعنى أن كل تلك الممارسات هي ضد الشعب، الشعب الذي بات يواجه السلطة بكل وحشيتها، ويواجهة "الجهاديين" بعدد تنظيماتهم. لقد دفعت السلطة لأن تتحوّل الثورة إلى صراع أهلي، ساعدها في ذلك دول إقليمية ودولية، هل تحقق ذلك؟ ربما ما تحقق هو أستعصاء الصراع، وبالتالي العجز عن الحسم، حيث أن قوى متعددة تقاتل الشعب، والقوى التي تدافع عنه ومنه لا زالت مشتتة ودون خبرة كافية. إنها حرب الكل ضد الشعب، هكذا باختصار.
في سورية ثورة
يبدو أن تعقيد الصراع في سورية قد أوصل إلى تصور سهل ينطلق من أن ما يجري هو صراع بين النظام وقوى أصولية. ولا شك في أن الإعلام متعدد المصالح قد عمل على أن يظهر الأمر كذلك، لكن أن يقبل الأمر دون تدقيق فهو ما يستحق التساؤل. وأيضاً لا بد من التأكيد على وجود مجموعات أصولية، "جهادية" (وهي وهابية بالطبع)، من جبهة النصرة وداعش إلى جيش الإسلام وأحرار الشام، لكن هذا الوجود لا يوصل إلى استنتاج سريع بأن الصراع هو بين النظام وهذه المجموعات. ولا أن الصراع بات محصوراً بهذه المجموعات.
كماركسيين ننطلق من التحديد الطبقي أولاً وأساساً، لهذا لا يمكن أن نرى انفجار الصراع في سورية غلا كتعبير عن أزمة مجتمعية نتجت عن نهب طويل مارسته فئات في السلطة واصبحت من خلاله تشكل طبقة جديدة تمتلك الثروة، مشكلة أساساً من "العائلة" (أي عائلة الأسد ومخلوف وشاليش)، فرض ذلك تهميش أغلبية مجتمعية كانت الاحتقان يتصاعد لديها ككل البلدان العربية. ورغم ضرورة الديمقراطية والحريات في ظل سلطة مستبدة (كانت متحالفة مع نظام بن علي وتنسق معه أمنياً)، فإن الانحدار الاقتصادي الذي عاشته تلك الأغلبية هو الذي فجّر الثورة. فقد كانت سورية من أسوأ البلدان العربية من حيث الفارق بين الأجور والأسعار، ومن حيث معدّل البطالة (30-33%). لهذا كان من الطبيعي أن تلحق بالثورات التي بدأت من تونس، وأن تحاول السير على منوالها.
لكن السلطة قررت ألا يحدث لها كما حدث في تونس ومصر، لهذا قررت خوض الصراع العنيف منذ البدء، وعملت لتبرير ذلك إلى تعميم خطاب ينطلق من أن ما يجري هو فعل مجموعات إرهابية أصولية إخوانية (رغم أن بشار الأسد بعد عام وثلاث أشهر من الثورة قال في خطاب في مجلس الشعب أنه في الستة أشهر الأولى لم يكن هناك سلاح ولا مسلحين)، ودفعت إلى أن تفرض على المتظاهرين الانتقال إلى السلاح بعنفها ووحشيتها، ومن ثم أطلقت كادرات من تنظيم القاعدة ومن السلفيين من السجون ليصبح هؤلاء هم قادة وكادر أحرار الشام وصقور الشام وجيش الإسلام وجبهة النصرة، وحتى داعش. كل ذلك في سياق تكريس خطابه كأمر واقع من أجل تحويل الصراع من صراع شعب يريد التغيير إلى صراع ضد الإرهاب، وفي ذلك يكسب تشويه الثورة ودعم الدول الإمبريالية التي تدعي "الحرب على الإرهاب". ولقد حصلت بعض هذه المجموعات على السلاح، مثل النصرة وداعش، من النظام عبر معارك وهمية أو تسليم مباشر في أكثر من موقع. هذه المجموعات، خصوصاً داعش والنصرة وجيش الإسلام، عملت على خوض الصراع ضد البيئة الشعبية التي تحتضن الثورة، وضد الناشطين المتظاهرين (في المراحل الأولى) والعاملين في الإغاثة والإعلام، وقتلت قادة وكادرات في الكتائب المسلحة التي تقاتل السلطة. وكل ذلك جعل صراعها هو مع الثورة وليس مع السلطة، خصوصاً أن الفتوى التي باتت تنطلق منها هي أولوية قتال المرتد على الكافر، والسعي لفرض "الخلافة" في كل منطقة تستطيع السيطرة عليها من الكتائب المسلحة.
طبعاً هذا الفعل السلطوي لم يكن منعزلاً عن فعل متعدد من دول إقليمية مثل السعودية التي أرادت وقف المد الثوري الذي بدأ من تونس ووصل إلى كل المنطقة المحيطة بها، وكما صرّح بشار الأسد مؤخراً فقد طلبت منه سحق الثورة وسحق الإخوان، ولقد أمدته بالمال ودعمت خطابه بالعمل على أسلمة قطاعات من الكتائب السلحة، وإظهار الثورة كحراك "إسلامي"، كما فعلت قطر التي ارادت فرض الإخوان المسلمين من خلال المجلس الوطني سلطة بديلة بعد ان يئست هي وتركيا من إقناع السلطة بتحقيق انفراج ينهي الثورة (حيث كانتا قد حصلتا على مصالح اقتصادية هائلة من بشار الأسد). ولهذا كان الشغل على أسلمة الثورة وتحويل الصراع إلى صراع طائفي و"حرب أهلية" لكي يتوقف هذا المدّ الثوري.
ولا شك في أن الإمبريالية الأميركية كانت تريد كل ذلك سواء لجهة دور قطر/ تركيا أو دور السعودية لأنها أرادت أن توقف الثورات، وأيضاً لم تكن تمانع في تدمير سورية بيد السلطة كما فعلت هي في العراق.
مقابل ذلك، وبعد أن ضعفت قوة السلطة نهاية سنة 2012، وقبل دخول المجموعات الأصولية (التي زاد دورها منذ صيف سنة 2013)، أرسلت إيران قوات حزب الله والعديد من الميليشيا الطائفية العراقية، ثم الحرس الثوري لمنع سقوط السلطة، وباتت الآن هي التي توقفه على قدميه، بقواتها وسياساتها، وهي التي تقرر سياساته. وكان يظهر المنظور الطائفي في كل هذا الحشد عبر القول بحماية "المقدسات الشيعية"، أو باستجلاب "شيعة" من كل أنحاء العالم (أفغانستان وباكستان وطاجاكستان، ومن العراق ولبنان). كما حدث مع داعش والنصرة التي باتتا يستجلبان "جهاديين" من كل أنحاء العالم.
لهذا أصبح الشعب، إما لاجئ (أكثر من نصف الشعب) أو يعيش في أوضاع بالغة الصعوبة سواء تحت سلطة النظام أو داعش والنصرة. وهو يقاتل بالتالي على عدة جبهات في الوقت ذاته، ضد السلطة وضد داعش والنصرة وجيش الإسلام، وضد قوات حزب الله والميليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني. ولقد واجهت الكتائب المسلحة النصرة منذ البدء، كما واجهت داعش وطردتها من شمال سورية قبل أن تلاقي الدعم من السلطة ومن نوري المالكي، ثم الآن من الإمبريالية الأميركية التي تدعي قتالها. حرب على عدة جبهات، هذه هي صعوبة الثورة وتعقيدها، وازمتها، بعد أن بدا أن كل القوى الإمبريالية والنظم الإقليمية تريد تدميرها، وأن هذا هو هدفها الأول.
ما يجب أن يكون موقف اليسار في هذه الوضعية؟
مع الشعب الذي يقاتل كل هذه القوى أو مع السلطة التي تقتل وتدمر وتهجر؟ وبالتالي مع السعودية وقطر وأميركا وتركيا التي لا تريد للثورة أن تنتصر بل ان تتحول إلى "حرب أهلية" تخضع لحل دولي؟ من يضع أميركا في مواجهة السلطة مخطئ، ومع يعتقد بأن صراعاً يقوم بين السلطة والسعودية مخطئ، الصراع كله هو ضد الثورات العربية مجسدة في الثورة السورية. بالتالي أن المعركة في سورية هي معركة استمرار الثورات العربية وانتصارها أو هزيمتها. هذا هو الوضع الذي يجب أن يجعل اليسار مع الشعب السوري ومع الثورة السورية، ضد كل تلك القوى.
(7)
ربما علينا أن ندرس الثورة السورية، ليس بمعزل عن الثورات العربية، ولا بمعزل عن الأزمة الاقتصادية العالمية. وهاتان المسألتان غابتا عن مجمل اليسار العالمي، لهذا جرى رؤية الثورات كحدث خاص بالمنطقة العربية، كما جرى تناول كل منها بمعزل عن الأخرى. لهذا جرى رؤية الثورات انطلاقاً من طبيعة النظم فقط، أي انطلاقاً من علاقة النظم بالإمبريالية أو اختلافها معها. بالتالي دون لمس أن هناك أساس موضوعي فرض نشوؤها وتوسعها عربياً. وأن الأزمة المالية فتحت على وضع عالمي جديد تجاوز الوضع الذي ساد خلال الحرب الباردة، ومرحلة الأحادية القطبية بعد انهيار الاشتراكية.
لقد استحكمت منظومة "فكرية" في رؤية اليسار العالمي لم تهزها لا الأزمة المالية سنة 2008، ولا انفجار الثورات العربية. فظلت أميركا هي الإمبريالية العدو الرئيسي، رغم أن الأزمة هزّت كلية وضعها، وأظهرت ضعفها عن السيطرة العالمية كما طمحت بعد انهيار الاشتراكية، وبزغت إمبرياليات جديدة. وبالتالي ظل تفسير الأحداث ينحكم لتحليل "المؤامرة الإمبريالية"، وسعي أميركا لتغيير النظم "الوطنية". عالم يتغيّر، وتنهار الأحادية القطبية لمصلحة محاولات لبناء تعددية قطبية، في نمط رأسمالي بات مريضاً، ويعيش على احتمالات انهيارات جديدة، ورأسمالية باتت الطغم المالية هي التي تسيطر فيها، تعمل على تعميم الفوضى العالمية، لأن نشاطها هو نشاط مافياوي يقوم على المضاربة.
ولقد أدت المضاربات على السلع قبيل الأزمة (2006/ 2008)، ومن ثم نشوب الأزمة، إلى تفاقم الوضع الاقتصادي في مجمل البلدان العربية. وهو ما أدى إلى انفجار الإضرابات في مصر (2007/2011) وفي تونس (2008)، وكذلك في المغرب ودول أخرى، وصولاً إلى انفجار الثورات العربية. لكن لا بد من أن نلمس أثر الأزمة على السياسات العامة للدول الإمبريالية من جهة، وعلى رد فعلها على انفجار الثورات من جهة أخرى. فقد ظهر أن أميركا في تراجع، وهي تعدّ لـ "الانسحاب" من "الشرق الأوسط" (الذي لا يشمل بلدان الخليج العربي بما في ذلك العراق). وهذا ما ضعضع من سطوتها، وأضعف حلفاءها. لقد اعتبرت الإمبريالية الأميركية أن أولويتها تتمحور حول مواجهة احتمالية تفاقم "الخطر الصيني"، فباتت منطقة آسيا والمحيط الهادي هي الأولوية بالنسبة لها. وهذا ما سمح بأن تتعرى المنطقة العربية على ضوء الميل للتخلي عنها، وخصوصاً بعد تراجع القدرة الأميركية في التدخل العسكري، واضطرارها للانسحاب من العراق. بالتالي فقد نشبت الثورات في لحظة "ضعف القبضة الأميركية"، بعد أن أنهك النهب الإمبريالي المنطقة. لكن أيضاً في لحظة تقدم دول جديدة لكي "تتقاسم الأسواق"، وهنا روسيا بالخصوص، التي باتت إمبريالية.
ولأن الأزمة الاقتصادية باتت تهدد النمط الرأسمالي ككل، وهي ممكنة التكرار، وربما بشكل أكبر، وبعد أن توصلت الإدارة الأميركية، ومن خلفها الطغم المالية الإمبريالية، إلى أن هذه الأزمة دون حل، وأن ما يمكن فعله هو إدارتها فقط، فقد استشعرت خطر انفجار الثورات العربية، حيث باتت ترى أنها يمكن أن تتوسع إلى مناطق كثيرة في العالم الذي عانى طويلاً من النهب ويُدفع إلى التقشف، وأيضاً ليس من إمكانية للتراجع عن النهب، على العكس من ذلك لا بد من تصعيده. ولقد زاد من التخوّف هو انتشار الثورة، بشكل أو بآخر، بشكل سريع إلى معظم البلدان العربية.
هذا الأمر كان يفرض السعي لوقف هذا الانتشار، وحصر الثورة، ومن ثم تدميرها قبل أن تتوسع إلى مناطق أخرى. وبعد محاولة الالتفاف على الثورة في تونس ومصر، وسحقها في البحرين، والمراوغة في اليمن، وتدخل الأطلسي في ليبيا، كان لا بد من مستوى أعلى في المواجهة من أجل وقف توسع الثورة. وربما كان عنف النظام السوري منذ بدء الثورة قد أغرى بأن تصبح سورية هي البلد الذي يسمح بوقف هذا المدّ الجارف. وهذا ما ظهر خلال سنتين من الثورة، حيث جرى العمل على تطييف الثورة ودعم خطاب النظام الذي كان يصرّ منذ البدء على أنه يواجه مجموعات إرهابية سلفية وإخوانية، لكي تفشل في إسقاط النظام، وبما يدخل سورية في صراع يتجاوز كون ما يجري هو ثورة، ليجري الحديث عن "حرب أهلية" أو "صراع طائفي"، قبل أن يصبح صراعاً إقليمياً.
لكن استمرار الثورة بعد ذلك، رغم كل العنف والوحشية الممارسة من قبل النظام، دفع إلى الشغل على أن تغرق سورية في صراع دموي تدميري. أصبح من الضروري أن يصبح هناك مثال على تحوّل كل تمرّد إلى مجزرة. كل ذلك بالإفادة من وجود نظام مافياوي دموي وحشي قرَّر أصلاً أنْ: الأسد أو نحرق البلد، ويمارس القتل والتدمير والاعتقال بلا حساب سوى حساب بقاءه في السلطة. بعد سنوات من استمرار الثورة، خصوصاً أن الوضع في البلدان الأخرى لم يستقرّ، ويهدد بثورات من جديد، وتعيش بلدان أخرى حالة احتقان يمكن أن تنفجر، بات إذن من الضروري أن تغرق سورية بمجزرة لكي يظهر كيف أن الثورة لا تؤدي سوى إلى الوحشية والانفلات والخراب، والصراع الطائفي والمناطقي، ويستجلب المجموعات "الجهادية" مثل القاعدة وداعش، والإرهاب، كما بات يردد الإعلام الإمبريالي وإعلام النظم، وحيث بات كل احتجاج أو إضراب يواجه بخطاب يقول: هل تريدون أن يحدث لكم ما يحدث في سورية؟
لقد باتت الثورة، إزاء الأزمة المستمرة في الرأسمالية، هي الخطر الداهم، ولهذا كان يجب أن تصبح هي مركز تحديد السياسات، ومركز بناء العلاقات والتكتيكات، لقد باتت "الخطر الرئيسي" الذي يستوجب المواجهة. ولهذا أصبح تجاوز الإستراتيجيات السابقة، وتحديدها للصراعات العالمية، والأولويات التي كانت تضعها، هو ما تقوم به الطغم المالية والدول الإمبريالية. فقد بات إطفاء حريق الثورات هو الهدف المركزي، وبات تدمير الثورة السورية هو ما تريده كل القوى الإمبريالية والدول الإقليمية، من السعودية إلى إيران. لهذا وجدنا أن كل الدول الإمبريالية، من أميركا إلى روسيا، وكل الدول الإقليمية، تعتبر أن وقف المدّ الثوري، وتدمير الثورة، هو الأولوية، حين وصلت الثورة إلى سورية. وبالتالي كانت القوى التي تبدة "متناقضةط متوافقة في الواقع على أن المطلوب هو تدمير الثورة السورية، وخلق "مثال" يقول بأن الثورة تعني القتل والتدمير والإرهاب والأصولية والتهجير.
إن الأزمة الاقتصادية والثورات العربية قد خلخلتا بنية النظام العالمي الذي كان يجري صنعه قبل سنة 2008، ونبهتا إلى حدود قدرة أميركا، والأخطار التي تهدد النمط الرأسمالي. وهذا ما كسّر الثنائية التي تشكلت "في الذهن" منذ سنوات الحرب الباردة. وأسّس لـ "ثنائية" جديدة هي: أن تكون مع الثورة أو مع الإمبريالية، وليس من خيار آخر.
(8)
كيف تحوّلت الثورة السورية إلى مثال للعقاب على التمرُّد؟
في سورية حدثت ثورة كما في البلدان العربية الأخرى، بغض النظر عن السبب المباشر الذي فجّرها، حيث كان الوضع الاقتصادي قد أوصل كتلة شعبية كبيرة إلى حالة فقر شديد، وبالتالي راكمت احتقاناً لم يكن يظهر قبل إذ. ولا شك في أن انفجار الثورات الأخرى كان سبباً مباشراً في هذا الانفجار، ولهذا ظلت أشهراً ملتزمة السياق الذي سارت فيه الثورات تلك، وتريد الوصول إلى النتيجة ذاتها. فقد قلّدت تجربة مصر في الخروج من الجوامع، وفي السعي للإعتصام في الميادين، وكانت تكتفي بإزاحة الرئيس والذهاب إلى مرحلة انتقالية تعطي بعض الحريات.
لكن الثورة في سورية "تحوّلت إلى مجزرة"، حيث مارست السلطة أقصى الوحشية، وظهرت المجموعات الأصولية "الجهادية" التي تمارس القتل والإرهاب ضد الشعب. لكن أخذ يظهر الصراع كصراع بين السلطة والمجموعات الإرهابية، وبدا أن الثورة قد "تلاشت" "تحت أقدام" هؤلاء. وأصبحت هذه الثنائية هي التي تحكم النظر إلى ما يجري، وتدفع إلى التخوّف من تلك المجموعات الأصولية "الجهادية"، بالتالي إلى الاصطفاف خلف النظام.
لهذا بات يجري التركيز أولاً على القتل والتدمير، وعلى الوضع لكأن مجزرة تحدث، وثانياً على الإرهاب والخطر الإرهابي لكأن ما جرى هو من صنع مجموعات إرهابية منذ البدء، وليس من صنع ثورة خاضها الشعب. الشعب الذي بات يواجه السلطة وداعش والنصرة وجيش الإسلام، ويواجه الفوضى والتهجير والفقر.
لقد ظهر أن الثورة السورية تحوّلت إلى مثال بارز للنتيجة التي يمكن أن تكون حين يتمرّد شعب. كانت درساً للشعوب بأن تمردها يعني الفوضى والقتل والتدمير وكل هذه الوحشية، وأيضاً انتشار الإرهاب وتمدد المجموعات "الجهادية". هل حدث ذلك صدفة؟ هل أن تحوّل الثورة إلى مجزرة جاء صدفة؟ وهل أن تعميم أنها مثال على النتيجة التي يقود التمرُّد إليها في كل الوسائل الإعلامية يأتي صدفة؟
لهذا حين متابعة الخطاب الإعلامي في مصر وتونس، وفي العالم كذلك، نجد أن التركيز يتمحور حول كيف أن التمرد على السلطة يقود حتماً إلى مجزرة ودمار وتهجير، بالتالي على الشعوب التي تعيش عصرها الزاهي، عصر الثورة، أن تستكين وتقبل ما هو قائم.
كيف تحوّلت الثورة في سورية إلى الأسلمة والتسلح؟ وكيف باتت تظهر كمجزرة؟
لماذا يركّز الخطاب الإعلامي على المجزرة متناسياً أن ما يحدث هو ثورة يراد لها أن تظهر كمجزرة؟
لا يمكن فهم الثورة السورية دون فهم انعكاس نشوب الثورة وامتدادها من تونس إلى سورية على الدول الإقليمية وعلى الرأسمالية، كما على النظم ذاتها. وبالتالي لا يمكن فهم ما حدث في الثورة السورية إلا كفعل "عالمي" مضاد للثورة. وبهذا يكون الخطاب الإعلامي المشار إليه نتيجة "واقعية" في عالم ينزع إلى الثورة، حيث يجب "إرعاب" الشعوب من نتيجة أفعالها، من تجرئها على التمرد.
لهذا كان الإعلام "الغربي" (أي الرأسمالي) يركز منذ الأشهر الأولى على "الحرب الأهلية" و"الصراع الطائفي"، ويعطي طابعاً "إسلامياً" للثورة حين كانت الثورة ترفض السلفية والإخوان رداً على خطاب النظام الإتهامي الذي كان يعتبر أيضاً أنها من فِعل مجموعات سلفية إخوانية وليس من فِعل الشعب. إن مَنْ يراجع كل ما قاله الإعلام الخليجي والأوروبي الأميركي يلمس هذا الميل لإظهار أن الثورة هي حراك "إسلامي"، وأن ما يجري هو "صراع طائفي" أو "حرب أهلية". لم يكن ذلك صدفة، بل كان رد الطغم الإمبريالية التي تتحكم بالإعلام على توسّع الثورة من تونس إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا ومن ثم سورية، مع حراك كبير في المغرب والأردن والعراق ولبنان، وحراك قصير في الجزائر وعُمان. لقد قررت أن "تحوّل المسار"، مسار الثورة إلى مسار آخر مضاد للثورات. هذا الأمر كان يفترض تحويل الصراع من صراع طبقي حيث تنهض الشعوب لكي تغيِّر وضعها الاقتصادي السيئ، إلى صراعات دينية وطائفية وإثنية، وهي الفكرة التي اخترعتها منذ زمن طويل، وعملت عليها قبلاً، والتي اعتقدت أنها نجحت فيها.
ما يمكن توضيحه هنا هو أن امتداد الثورة كـ "النار في الهشيم" من تونس إلى سورية في زمن قارب الأشهر الثلاث أطلق حالة من الذعر في مواقع مختلفة، لدى دول إقليمية شعرت أنها يمكن أن تخسر مصالحها في سورية (تركيا وقطر) أو شعرت أن دورها هو التالي لسورية بعد أن طوقتها الثورات، ووضعها الداخلي مهيأ لذلك (السعودية)، وكل الدول الرافضة للثورة والتغيير (دول الخليج وإيران وروسيا). كما الدول الإمبريالية التي تعيش منذ سنة 2008 أزمة اقتصادية عميقة، وتفاقم في المشكلات الاقتصادية، توجد احتقاناً عالمياً عاماً مضاداً للرأسمالية. بالتالي فالدول الإقليمية باتت تخاف الثورة، لهذا كان عليها وقف توسعها، والدول الإمبريالية تخافها لأنها يمكن أن تكون الشرارة التي تنشر الثورات في مختلف أرجاء عالم محتقن ويمكن أن يثور.
هذه الحالة الإقليمية العالمية فرضت وضع إستراتيجية لمواجهة الثورات توقفها في سورية، وتحوّلها إلى مجزرة تكون عبرة لكل شعوب العالم. وهذا ما كان يلتقي مع منظور النظام ذاته، النظام الذي عمل على إتهام الثورة بالأسلمة والسفلية والإرهاب منذ اليوم الأول، ومن ثم أطلق من أوجد المجموعات الإرهابية السلفية (النصرة وجزئياً داعش، وجيش الإسلام وأحرار الشام)، ولقد مارس كل الوحشية التي تطلق العنان للغرائز بعد أن سحق الفئات التي لعبت دوراً مركزياً في المراحل الأولى للثورة، والتي كانت تتسم بالعلمنة والمدنية، وتمتلك قدراً من الفهم، ليطلق غرائز فئات مسحوقة يمكن إتهامها بالسلفية والأصولية. وهو الوضع الذي أوجد البيئة لتحوّل كثير من الشباب الثوري إلى الانخراط في هذه التنظيمات. وليظهر أن قتاله (وهو الشباب الذي كان العنصر الأساسي في التظاهرات) ينطلق من "تعصب ديني" وليس لأن الوضع الذي أوجده النظام به هو الذي قاده إلى ذلك.
إذن، النظام دفع نحو تشكيل وضع يضخم الأصولية، إضافة إلى الدور الكبير الذي قام به في التدمير والقتل، أي في الوحشية، حيث اشتغل وفق قانون: الأسد أو نحرق البلد. ولا شك في أن هذا المنظور الذي حكم النظام، والذي كان معروفاً هو الذي ساعد التدخلات الخارجية لكي تسهم في تحوّل الثورة إلى مجزرة، والى توسيع دور المجموعات "الجهادية". فقد كان موقف الدول الإقليمية والدولية يتمثّل في مساعدته على زيادة الوحشية، وقامت في تحويل قطاع من الثورة إلى الأسلمة بعد أن فرضت الوحشية التي مارسها النظام إلى انتقال التظاهرات السلمية إلى عمل مسلح مارسه جزء من الشباب الذي كان يتظاهر. لقد عملت السعودية على تجسيد خطاب النظام عملياً من خلال الشغل على أسلمة الكتائب المسلحة من خلال إدعاء دعمها مالياً وعسكرياً، ولقد قامت بذلك ليس بعيداً عن التفاهم مع النظام ذاته، حتى حينما أطلق سراح من شكّل تنظيم جبهة النصرة التي حظيت بدعم سعودي. فقد دفع رعب السعودية من انتقال الثورة إليها إلى الشغل الحثيث مع النظام (خصوصاً إلى بداية سنة 2013، حيث تدخلت إيران مباشرة لدعم النظام) من أجل أسلمة الثورة (وهو ما كانت تقوم به إعلامياً منذ البدء). حيث عملت على تحويل الصراع من صراع شعب ضد نظام مافياوي استبدادي إلى صراع طائفي ديني وحرب أهلية لا حلّ لها سوى بالتفاوض. وهذا ما أسهمت به تركيا بعد أن لمست أن أميركا تمنع تدخلها في سورية، وخصوصاً بعد أن أصبح واضحاً أن هناك تفاهم أميركي روسي تبلور في مبادئ جنيف1. ومن ثم أصبح الدور السعودي التركي القطري يتمثل في تعزيز المجموعات الأصولية والإسلامية على حساب الكتائب المسلحة والجيش الحرّ.
أميركا كانت تسعى في البدء لترتيب سيطرة روسية على سورية، لكن عجز هذه الأخيرة جعلها تلعب دور إدارة الصراع، وتعزيز دور المجموعات الأصولية (وهنا داعش بالأساس). وبالتالي باتت تعمل على استفزاز النظام لكي يزيد عنفه، وتدفع إلى زيادة دور الأصولية، لتتوافق مع النظام بأن يكون الصراع هو صراع النظام مع مجموعات أصولية بالأساس. كما أنها منعت تدخل تركيا ودعم الكتائب المسلحة بأسلحة نوعية. وغطت على دور روسيا وإيران. والأهم هنا أنها منعت محاسبة النظام على كل الجرائم التي ارتكبها. في المقابل دعمت إيران النظام بقوى طائفية (حزب الله، عصائب أهل الحق، فيلق بدر وكتائب أبو الفضل العباس، وفيلق الزينبيون وغيرهم)، وبالحرس الثوري الإيراني. حيث كانت تدعم استمرار وحشية النظام، كما حدث مع روسيا قبل تدخلها وبعده.
كل هذه العناصر كانت تجعل الصراع وحشياً ومدمراً، كما شهدنا في الواقع، سواء تعلق الأمر باللاجئين (أكثر من 12 مليون أربعة منهم لاجئون في الخارج)، أو المعتقلين (الذين هم بمئآت الآلاف، الذين قتل جزء كبير منهم)، أو الذين استشهدوا (ربما أكثر من 300 ألف). وما أدى إليه من دمار هائل طال مناطق واسعة من سورية.
إذن، لا بد من التأكيد على أن الاختلاف الذي كان يظهر بين الدول المتصارعة حول سورية (وهنا إيران وروسيا من جهة، وتركيا وقطر والسعودية من جهة أخرى، وأميركا من جهة ثالثة) لم يكن يمنع التوافق على تدمير الثورة السورية نتيجة تخوفات مختلفة، وأن تعمل جميعاً في إتساق رغم عدم تحاورها حول ذلك، بالضبط لأنها جميعاً كانت تخاف الثورة، وأرادت أن تدمرها قبل أن تمتدّ إلى مناطق أخرى. وما حكم العلاقات بين هذه الدول هو سعي كل منها فرض سيطرته على سورية، وهنا بالخصوص روسيا التي اعتبرت أن السيطرة على سورية خطوة حاسمة في سياق السيطرة على الشرق الأوسط. وإيران التي تعتبر أن سورية ورقة مهمة بذاتها، وبكونها طريق تدعيم حزب الله، في إطار الضغوط من أجل تحسين وضعها الإقليمي والدولي. وفي المقابل تركيا وقطر (وفرنسا)، الدول التي كانت تريد الحفاظ على مصالحها المتحققة في ظل نظام بشار الأسد، وفرنسا التي تريد تحقيق مصالح لها في سورية كما حاولت منذ فترة حكم جاك شيراك. بينما كانت أميركا تناور من خلال دعم سيطرة روسيا على سورية في إطار التقاسم العالمي الذي بدأ بعد ضعف أميركا وتراجعها على ضوء الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعيشها.
كل هذه العناصر هي التي حوّلت الثورة إلى مثال للعقاب على التمرّد، وفتحت لصراعات إقليمية ودولية للسيطرة على سورية. وهي كما نرى تنطلق من "توافق" إمبريالي، ومن النظم الإقليمية على سحق الثورة، وتهشيمها، وتحويلها إلى مجزرة. سواء كان ذلك بالتأثير المباشر في قوى الثورة كما فعلت نظم مثل السعودية خصوصاً، أو الإمبريالية الأميركية، حيث كان هدفها هو تخريبها وليس دعمها لإسقاط النظام، الأمر الذي كان يخدم سياسة النظام الذي قرّر منذ البدء أسلمة الثورة وتحويلها إلى مجموعات سلفية إرهابية، بعد أن يدفع إلى الانتقال إلى السلاح. وهو ما أوصل إلى هذا الوضع بعد أن دعمت إيران النظام كي لا يسقط بفعل الثورة خلال سنة ونصف من نضال الشعب. وكل ما حدث بعد ذلك أدى إلى الدخول في استعصاء، وسيطرة الصراع المسلح، وظهور المجموعات السلفية "الجهادية" كقوة "مسيطرة"، والتركيز الإعلامي على هذا المظهر من الصراع دون تناول صراع الشعب الذي ظل مستمراً.
وعبر الدعم "الخارجي" (السعودي القطري التركي خصوصاً) لكتائب مسلحة باتت أساسية، أصبحت الدول الداعمة هي المتحكمة بتلك الكتائب، في مقابل تحكم إيران ثم روسيا بقرار النظام. وبهذا بات الصراع إقليمياً دولياً، صراع إمبرياليات من أجل السيطرة (أميركا/ روسيا)، وصراع إقليمي من أجل السيطرة كذلك (تركيا/ إيران).
بالتالي ليظهر أن الثورة أدت إلى عنف وحشي من قبل النظام، وتحشيد الإرهابيين، وتحوّل الصراع إلى صراع "أهلي"، "طائفي"، ومن ثم حدوث تدخلات إقليمية ودولية هي التي تتحكم بالصراع، وتتصارع من أجل السيطرة. والنتيجة دمار وقتل وحشي وتلاشي الدولة. هذه هي النتيجة التي تعمم عبر الإعلام المسيطر عليه من قبل الطغم الإمبريالية ومن قبل النظم، والهدف التخويف من الثورة.
(9)
ستار الأيديولوجية
ربما تكون متابعة مواقف "اليسار الممانع" من سورية هي الأفضل في فهم كيف يمكن للأيديولوجية أن تشكّل حجاباً سميكاً لفهم ما يجري في الواقع. كيف تكون الإجابات السهلة فيها بديلاً عن رؤية الواقع والبحث فيه، والتدقيق في مساراته. ومن ثم كيف تعمل على صياغة الواقع بما يناسب الأيديولوجية تلك، وما يؤكد منظورها. هنا "يشتغل العقل" داخل ذاته، لا يخرج لمعرفة الوقائع، ولا لتفسيرها طبعاً، بالضبط لأنه يمتلك الإجابات. فالواقع هو انعكاس للأفكار التي في "الذهن"، الأفكار الأيديولوجية التي تملأ "الذهن".
فمن المعروف أن "الأيديولوجية الممانعة" تعتبر أن النظام السوري على حق، وانه "معادٍ للإمبريالية"، وأن ما يجري هو مؤامرة عليه. بالتالي لا حاجة لمتابعة الوقائع، أو التدقيق فيما يجري، أو وضع سياق لسياسات دول أو قوى. فهذه كلها ضد النظام السوري، وتعمل على إسقاطه.
لنأخذ مثلاً داعش، خطاب الممانعة ينطلق من أن النظام يخوض الحرب ضد داعش، فهي مدعومة من الإمبريالية وأتباعها. ولا شك في أن داعش صناعة أميركية، لكنها وطئت الأرض التي نشبت الثورة فيها وإضطرت السلطة الانسحاب منها، وخاضت صراعها ضد قوى الثورة (ضد كل الناشطين في الثورة والإغاثة والإعلام والعمل المسلح). وظهر في أكثر من موقع أن السلطة تنسحب لمصلحتها، وأنها تدعمها بالقصف الجوي حين تحاصر. وأصلاً لم تقصف مواقعها المكشوفة في الرقة ودير الزور وكل المنطقة الشرقية، رغم أنها قصفت بشكل مستمر كل المناطق التي تقع بيد الثورة،وكانت حين تسيطر داعش عليها توقف القصف. وهي حين تنسحب أمام تقدم داعش تترك كل مخازن السلاح، وهو ما لا تفعله حين تنسحب أمام الكتائب المسلحة. والغريب أن داعش تنوجد في كل المناطق التي تضعف السلطة فيها لتقاتل الكتائب المسلحة، كما فعلت في حلب ومخيم اليرموك، وفي القدم جنوب دمشق، والآن في ريف حلب الشمالي. في القلمون كان الجيش الحر يخوض حربين، ضد حزب الله والسلطة من طرف، وداعش من طرف آخر.
في كل الأحوال ليست مناطق داعش هي مناطق اشتباك السلطة (ولا قوات حزب الله والحرس الثوري وكل الطائفيين الذين تلملمهم إيران)، وحين يحدث "اشتباك" يكون هناك هدف يظهر بعدئذ، حيث تصبح داعش في مواجهة الثورة، أي يكون الهدف هو تسهيل وصول داعش إلى مناطق الثورة.
رغم كل ذلك، تظل أيديولوجية الممانعة تكرر أن صراع النظام هو مع الإرهاب الذي تمثله داعش والنصرة.
في مستوى آخر جرى اعتبار أن أميركا هي التي تقود المؤامرة ضد سورية، ربما كان الموقف الأميركي "مبهم" في المراحل الأولى من الثورة، لكنه الآن واضح بشكل كامل. فما توصلت إليه هو أن الأولوية هي الحرب ضد داعش، ورغم أنها تقول أنْ لا مكان لبشار الأسد في المرحلة القادمة إلا أنها تريد استمرار الدولة (الأمن والجيش والمؤسسات)، وبالتالي تقول أنها ليست معنية بالحرب ضده. على العكس فهي تعمل على تحويل مقاتلي الثورة إلى قوات للحرب ضد داعش فقط، أي أنها تريد إفراغ الثورة من مقاتليها. وهي تعمل على أن يتوحد هؤلاء الذين تدربهم مع قوات النظام لقتال داعش. كما أنها لا زالت تمنع "حلفائها" من تسليح الجيش الحر، أو السماح لهم بحسم الصراع عسكرياً، بالضبط لأن الحل سياسي.
وكانت قبل ذلك تفشل ضغط تركيا وفرنسا على الحلف الأطلسي للتدخل. وهي تمنع تركيا من التدخل، لكنها تسمح لروسيا بأن تكون المشرف على الحل السياسي، ووفق الشروط الروسية، وهي الآن تقف مربكة بعد أن أصبح الجيش الروسي في سورية. كما لعبت دوراً مهماً في تخريب الثورة.
هل داعش تقاتل النظام؟ وهل أن أميركا تريد إسقاط النظام؟
من الصعب على الأيديولوجية السميكة التي تغطي الأدمغة، والتي ترسم الواقع مسبقاً، بحيث يظل النظام السوري هو النظام الممانع الذي تريد أميركا إسقاطه، من الصعب عليها أن تقبل الحقائق، لأنها تكسّرها، لهذا أفضل أن تبقى "المثالية الذاتية" هي الحاكمة، لأنها تريح من تعب البحث في الواقع، الواقع الذي يكسّر الأيديولوجية الراسخة في العقل منذ عقود.
الأيديولوجية كجريمة
إذا كانت الأيديولوجية هي الوعي المطابق أو المفارق لمصالح الطبقات، فإن هذه المصالح يمكن أن تدفعها إلى حدها الأقصى بما يجعلها "أداة جريمة". هذا ما فعلته النازية والفاشية، حيث دفعت أيديولوجية التفوق العنصري إلى حدّ تبرير ارتكاب جرائم ضد البشرية.
وإذا كانت الأيديولوجية اليسارية تُطرح خدمة لمصالح الشعوب، فإن تكلسها يفضي أحياناً إلى أن تتحوّل إلى "أداة" لتبرير الجرائم. أقصد بالضبط أيديولوجية اليسار العالمي الذي أسس كل منظوره على أساس طبيعة الصراع في مرحلة الحرب الباردة، ومن منظور الأولوية التي طرحتها الدولة السوفيتية. حيث انبنت على أساس ثنائية صراع إمبريالية/ اشتراكية، أو إمبريالية/ تحرر وطني كما تكررت في البلدان المخلَّفة. وأصبحت الأولوية تتمركز هنا، ليتحدد الصراع الداخلي على ضوء هذا المنظور، بحيث يكون كل "متناقض" معها وطنياً، وجزءاً من "حركة التحرر الوطني"، أو من "التحالف المعادي للإمبريالية".
ولا شك في أن الصراع حينها كان يتمحور ضد الإمبريالية، والأميركية خصوصاً، وكان صحيحاً مواجهة الإمبريالية، رغم أن التعميم الذي يحكمها كان يوجد مشكلات كبيرة في الصراع الداخلي، سواء في تحديد الطبقات التي هي في تناقض حقيقي مع الإمبريالية، أو في قيادة التحالف ضد الإمبريالية، أو كذلك في الأولويات بعد أن بات "الصراع مع الإمبريالية" هو الأولوية، وهو ما ألغى التناقض الطبقي الداخلي، الذي هو حسب الماركسية التناقض الرئيسي (والتناقض مع النمط الرأسمالي ككل هو التناقض الأساسي).
هذا الخلل كان يؤسس لمنظور "وطني"، وظل الشعار العام هو التحرر الوطني بعد أن استقلت الدول، وبات الربط الاقتصادي الطبقي هو العنصر المركزي في تكييف المحلي لمصلحة الطغم الإمبريالية. وبهذا أدى تضخم "الوطنية" إلى اعتبار "الصراع ضد الإمبريالية" هو المطلق، هو كل شيء، وهو الذي يحدِّد كل المواقف والسياسات والتكتيكات. بالتالي أصبح الوطن فوق المواطنين، وبات "الدفاع عن الوطن" أهم من سحق الشعب، ويبرر سحق الشعب. لقد بات الوطن أقنوم بالغ التجريد، وأيضاً القدسية. والوطن يُختزل في السلطة (الدولة) التي تكون في "تناقض" مع الإمبريالية، أو هكذا يجري التوهم. ولهذا تصبح السلطة هي القوة الثورية التقدمية، المقدس الذي يمثله الوطن، ويكون الشعب لا شيء.
الوطن مقدس، إذن الشعب لا شيء. ولأن السلطة هي الوطن يصبح من حقها ممارسة كل أشكال العنف ضد الشعب، خصوصاً إذا تمرّد عليها. فهي "المعادية للإمبريالية"، ولهذا فإن كل مخالف لها يجب أن يكون مع الإمبريالية، وهذا يبرَّر سحقه. فهو يتناقض مع "السلطة المعادية للإمبريالية"، "السلطة المقدسة" بالتالي. وبهذا يستحقّ الجزاء، بما في ذلك القتل، أي الإبادة. فهو يتمرد على سلطة "معادية للإمبريالية"، "تحمي الوطن من السيطرة الإمبريالية".
الفكرة هنا باتت مطلقاً، ولقد باتت تعمل على تحويل ما تعتقد أنه متوافق معها إلى مطلق، والباقي هو من التراب، هو دون، لهذا يستحق السحق. يستحق الكيماوي والصواريخ البالستية والبراميل المتفجرة والحصار المميت، والقتل في السجن، والتشريد إلى أقاصي الأرض. لقد تمرد "على الإله"، الذي هو السلطة. ومن ثم فإن الفكرة هنا باتت أساس أيديولوجية فاشية، تستسهل قتل الشعوب، وتبرر هذا القتل بـ "أفكار سامية"، أفكار "ثورية" و"جذرية"، بالضبط لأنها "معادية للإمبريالية". لهذا باتت تؤدي الدور الإمبريالي ذاته، الدور الذي يقوم على سحق الشعوب وتدمير قدراتها وتشريدها.
الشعب أهم من الوطن، ودون الشعب ليس من وطن. والشعب يعلو على الوطن بالتالي. وكل تحليل لا ينطلق من هذه البديهية يكون غارقاً في مثالية مفرطة، المثالية التي تتحوّل إلى فاشية فعلية. فـ "الإنسان أثمن رأسمال" (أظن أن هذا هو اسم كراس كتبه ستالين، لكنه أساس الماركسية بالأصل)، ومنه تتشكل الطبقات، ويُبنى الوطن، ويتأسس النهوض.
أظن أن كل ما كتبته هنا يتعلق بموقف "اليسار الممانع" من سورية بالتحديد، وبشكل أعم من الشعوب، لأنه يتعلق بالأفكار، يغرق بالأفكار، الأفكار التي لا تلمس الواقع. هذه خبرة تاريخية لديه جعلته يحصل على الدكتوراة في الفشل.
ففي سورية شعب يخوض ثورة، وهذا اليسار يصطف مع الإمبريالية وأدواتها في صف واحد ضدها.
عقل بسيط في وضع معقد
وضع المنطقة يزداد تعقيداً، والصراعات تتشابك، وكل المحاور تداخلت. هذا هو التوصيف الممكن لما يحدث بعد نشوب الثورة السورية، وما وصلنا إليه الآن بعد الغارات الجوية الأميركية على العراق. ولم تعد تظهر حدود بين المحاور المرسومة في "الذهن" منذ فترة الحرب الباردة، رغم استمرار الحدود في "الذهن" لدى قطاع من النخب لا تريد مغادرة الماضي لأنها تريد البقاء في "حالة رومانسية" نشأت في الماضي.
في سورية كل التصوّر أن جبهة النصرة وداعش هما من تصنيع أميركي، وبالتالي هما جزء من "المؤامرة الإمبريالية" على "النظام الوطني" في سورية وعلى محور الممانعة (إيران وحزب الله والنظام السوري). لكن، فيما عدا عن بعض الاحتكاك بينها وبين النظام السوري، فإن كل معاركها، وكل نشاطها، وممارساتها، هي ضد الكتائب المسلحة، والناشطين ضد النظام، إضافة إلى أنها تفرض "قوانينها" التي هي مضادة للتكوين المجتمعي. ولهذا فرضت على الكتائب المسلحة أن تخوض الصراع ضدها. قامت بذلك قبل مدة وطردت داعش من الشمال السوري، وهي الآن تخوض الصراع من جديد. كما خاضت الصراع ضدها في دير الزور والرقة. وجرت اشتباكات عديدة مع جبهة النصرة، وهي الآن تهددها في منطقة درعا.
بالتالي ليس النظام هو الذي يخوض "الحرب ضد الإرهاب" بل أن الثورة هي التي تخوض هذه الحرب، ويساعد النظام داعش في هجماتها عبر القصف الجوي والمدفعي، وتسهيل حصولها على السلاح والذخائر.
في العراق تحرّك قطاع من الشعب عسكرياً بعد أن اعتصم لأشهر عديدة، سُحق بعنف جيش المالكي. وتحالف بعض هؤلاء مع داعش دون فهم لطبيعتها، ومن ثم انقلبت داعش كالعادة لكي تلعب دوراً يخدم المالكي وإيران في التشويش على الحراك الشعبي، واستغلال دورها لتخويف الشعب والتدخل. لهذا، كما اشرنا في مقالات سابقة، لعبت داعش دوراً تخريبياً في الموصل، وللسيطرة على الشمال العراقي، ومن ثم هاجمت المناطق الكردية لأن الأكراد كانوا يميلون للحراك، ويقفون ضد التجديد للمالكي.
الآن تدخل أميركا الحرب عبر قواتها الجوية، فتقصف داعش ليس في الشمال العراقي فقط، بل في الأنبار ومحافظة صلاح الدين. وبهذا باتت القوات الأميركية بالتنسيق مع القوات العراقية المدعومة من قبل النظام الإيراني، تخوض الصراع "ضد داعش". هذا يطرح السؤال، إذن ما هي داعش إذا كانت أميركا ضدها؟
من اعتبر أن الصراع ضد النظام السوري هو من فعل داعش أساساً، وأن الصراع مع داعش هو الأولوية، سيكون مع الدور الأميركي الذي بدأ في العراق، وسيظهر تقارب كبير بين "قوى الممانعة" التي تقاتل داعش وأميركا التي تعتبر أنها الخطر الرئيسي الآن، بعد أن تلاشى دور القاعدة بعد انشقاق داعش. بهذا لا يعود هناك محور "مقاومة وممانعة" ومحور إمبريالي سعودي قطري، فقد باتت قوات الممانعة تقاتل إلى جانب القوات الأميركية، حيث الطيران السوري قصف "داعش" (كما أُعلن)، وقوات الحرس الثوري تدافع عن النظام العراقي، وحزب الله يرسل قوات إلى العراق كما يرسل إلى سورية. وفي هذه الحرب يشكل الطيران الأميركي الغطاء الجوي لتقدم قوات المالكي والحرس الثوري وحزب الله والبيشمركة.
أليست الإمبريالية الأميركية هي التي تشكّل الغطاء لوحشية النظم التي تريد سحق الثورات؟
الثورات هي "الحلقة المركزية" التي توحّد كل هذا الخليط، أو الذي يبدو خليطاً رغم توافقه العام واختلافه الجزئي، ليس داعش ولا النصرة ولا القاعدة، التي كلها أدوات ضد الثورات. و"الاسم الحركي" لسحق الثورات، والاسم السحري لتوحيد كل هذه البلدان والقوى.
عن أميركا وداعش والممانعة والمؤامرة الإمبريالية:
العقل الأحادي في مواجهة واقع معقد
منذ بدء الثورة السورية ظهر أن منظور اليسار أضيق من أن يفهم ما يجري، حيث تاه في الفارق بين ما كان يجري التوهم بأنه توضّع النظام السوري عالمياً وبين حراك الطبقات التي أخذت تتململ ومن ثم تحاول التغيير. بمعنى أنه فشل في الإجابة على سؤال: هل أن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل يسمح بأن يكون النظام في موقع معاداة الإمبريالية الأميركية، أو أنه قد انخرط في "العولمة" عبر تطبيق السياسات التي عادة ما يفرضها صندوق النقد الدولي، ومن ثم أن الخلاف مع أميركا خصوصاً هو نتاج اختلاف سياسات وليس نتيجة تناقض مصالح؟ هذا التكوين الاقتصادي هو الذي كان يؤسس لتفاقم الأزمة المجتمعية وتراكم الاحتقان، ومن ثم أفضى إلى الثورة. حيث فرضت الفئة الحاكمة تعميم اللبرلة وتطبيق شروط صندوق النقد الدولي حتى دون تفاهم رسمي معه.
عدم الفهم هذا أسَّس لموقف داعم للنظام انطلاقاً من "الممانعة" التي يبديها تجاه "المخططات الإمبريالية". وبالتالي كان "المبدأ" الذي يحكم هذا اليسار هو اعتبار الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، ومن ثم دعم كل من يقف في تعارض أو تناقض معها. لكن هذا المنطق لم يصمد أمام تزايد التعقيد في الواقع السوري، وبات يقود إلى عكس ما بدأ منه. فهذه "البساطة" (أو لنقل السطحية) في التحليل لا تصمد أمام تعقيدات الواقع دائماً
لقد كانت كل القوى التي تقف مع النظام السوري ضد الثورة، والتي أسست رؤيتها على "معاداة الإمبريالية"، مع تنظيم القاعدة بعد الحادي عشر من سيبتمبر سنة 2001، ومع النظام العراقي، ضد الإمبريالية التي زحفت من أجل احتلال أفغانستان والعراق. وكانت ضد الدور الإيراني في العراق منذ الاحتلال، متهمة إياها بأنها عملت عبر ميليشياتها على تدمير العراق وفرض سيطرة طائفية على السلطة التي أنشأها الاحتلال الأميركي.
ولقد دعمت الثورات في تونس ومصر واليمن والبحرين لأنها ضد نظم تابعة للإمبريالية الأميركية، ومن المنظور ذاته وقفت مع النظام السوري كونها تصنفه كـ "ممانعة" و"مقاومة". وبالتالي باتت الثورة هي "مؤامرة إمبريالية" (أميركية)، تنفّذ من خلال مجموعات إرهابية أصولية بدعم سعودي قطري. وكان الحديث يجري عن "الجهاديين" الذين أسسوا عدداً من التشكيلات بعد عام من الثورة، ومنهم جبهة النصرة التي هي فرع للقاعدة، ثم داعش التي باتت بديلاً للقاعدة. بمعنى أن الصراع في سورية بالنسبة لهم بات بين نظام "وطني" و"ممانع" و"الجهاديين" مدعومين من قبل أميركا والسعودية وقطر. هنا انقلب الموقف من "الجهاديين" الذين كان يطبّل لهم حين كانوا "يقاتلون" أميركا (كما كان يجري توهم أنهم يقاتلونها). لقد باتوا العدو الذي يريد إسقاط نظام "ممانع" و"يدعم المقاومة"، لكن هذه المرة انطلاقاً من أنهم أدوات أميركية. بالتالي لم يعودوا ضد أميركا كما جرى التنظير سابقاً بل أداة بيدها.
الآن، أميركا تحشد ضد داعش والنصرة، وتؤلف تحالفاً دولياً من أجل هزيمتهما، ولقد بدأت الحرب ضدها، في العراق أولاً، والآن في سورية. بالتالي يبدو أن "الرابط" الذي جرت الإشارة إليه بين أميركا وداعش لم يعد قائماً، وتقدمت أميركا للحرب ضد داعش، ولقد بدأتها. ما هو الموقف الممكن لكل داعمي النظام السوري، الذين طبلوا لقتال النظام ضد المجموعات الإرهابية، خصوصاً النصرة وداعش؟ النظام طلب التحالف، فبالنسبة له ليست أميركا هي العدو، لا الرئيسي ولا الثانوي، بل لقد اختلف معها نتيجة "تطاولها" بالدعوة لتغيير شكل السيطرة على السلطة، عبر الدعوة لحكم "الأغلبية" (بمعناها الديني). وها هو يهلل للحرب "المشتركة" بين القوات الأميركية و"الجيش العربي السوري" ضد الإرهاب.
إن الفكرة الجوهرية التي قامت عليها سياسات تلك القوى هي أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي، وهذا ما جعلها تدعم "الجهاديين" سابقاً. الآن، بعد أن أصبح هؤلاء "الجهاديين" هم العدو ضد نظام "وطني" و"ممانع"، كيف يمكن أن يستوعب العقل الأحادي الأمر. هذا العقل يقوم على مبدأ إما/ أو، مع/ ضد. الآن يتقاتل "ضدان"، أين سيكون موقفها؟ العودة إلى تأييد "الجهاديين"، أو تغيير كلية الفهم بالتخلي عن أن الإمبريالية الأميركية هي العدو الرئيسي؟ في كلا الحالين سينهار كل المنطق الذي تأست المواقف عليه، لأنه يفرض أن يكونوا مع أميركا أو مع داعش. أن يتخلوا عن أن داعش هي "صنيعة" أميركا، ومن ثم يجري كسر "الممانعة" بالتحالف مع أميركا، أو أن يظلوا متمسكين بـ "الممانعة" ويكشفوا "تحالفهم" مع داعش. ميل السلطة هو نحو أميركا لأن كل خوفها يتمحور حول الخشية من "ضربة أميركية" كما كان منذ بدء الثورة، ولأنها لعبت بداعش من أجل الوصول إلى ذلك. لكن هذا الموقف الذي تريده السلطة أصلاً سيربك "اليسار الممانع" الذي يكسر كل منطقه الذي كرره طيلة سنوات ثلاث حول "المؤامرة الإمبريالية"، وكون النصرة وداعش هما أداة المؤامرة.
لقد رسم هؤلاء معادلة بسيطة تنطلق من: إمبريالية (أميركا)/ ضد إمبريالية، وكان الضد هو السلطة السورية، لهذا جرى اعتبار ما يجري مؤامرة، وباتت داعش (التي هي التجسيد العملي لخطاب السلطة الذي أطلقته منذ اللحظة الأولى) هي امتداد لهذه الإمبريالية. لهذا بات الصراع هو: السلطة/ داعش (طبعاً والنصرة)، ومن ثم باتت الإمبريالية ضد داعش. هذا الأمر يفرض كسر أحد الخطين هذين، الأول: أميركا/ السلطة، والثاني داعش/ السلطة. كما سنرى فقد انقلبت الأولوية في التحديد من الإمبريالية إلى السلطة، وبات الاختيار هو بين الإمبريالية أو داعش.
في كلا الحالين سيظهر أن كل الخطاب الذي كرره هذا اليسار (وكل خطاب السلطة كذلك) كخطاب كاذب، لأن المؤامرة كانت تتحقق من قبل المركب: الإمبريالية/ داعش. السلطة تتخلى عن ممانعتها من خلال الدعوة لتحالف ضد الإرهاب مع الإمبريالية، فهذا هو الخيار المنقذ لها، لكن ما هو خيار "اليسار الممانع"؟ الوقوف على الحياد؟ وهذا يسقط المنطق الذي أقاموا كل تصوراتهم عليه، والذي يفرض أن تكون مع طرف ضد الآخر. أو أن يقفوا ضد الطرفين؟ أيضاً هذا يسقط منطقهم الذي حرّم على الآخرين اتخاذ موقف ضد داعش والنصرة وأميركا. واصلاً كان يمكن لهم أن يتخذوا هذا الموقف منذ البدء، بحيث لا يكونوا إما مع السلطة او مع الثورة، من خلال رؤية الصراع الطبقي الواقعي وتعقيدات التناقضات العالمية. اللحظة الآن، تعلن انهيار كل المنظور الذي أسس هؤلاء مواقفهم عليه، وتوضح كم كانت الشكلية والسطحية مسيطرة، بحيث وضعوا العالم في "معسكرين" لا غير، وأسسوا كل الصراعات على أساس هذين المعسكرين، ليظهر الآن تهافت هذا المنظور، وخطل كل تلك المواقف. بحيث باتوا مجبرين إتخاذ موقف دمّر أساس منظورهم. ولهذا وجدنا كيف ينشق "المعسكر" الذي بنوه في الخيال، بين روسيا وإيران وحزب الله الرافضين للتدخل الإمبريالي الأميركي (مثل الإخوان المسلمين السوريين بالضبط)، والسلطة السورية التي رحبت بـالحرب "المشتركة" ضد الإرهاب. أين سيقفون؟ متاهة تكشف عن هزل التحليل، وانحراف المنطق، وأيضاً غياب الأخلاق.
الأزمة هي في العقل الأحادي ذاته، الذي هو التعبير عن سيادة المنطق الصوري، المغرق في السطحية. والذي يبسط الأمور إلى ثنائيات متعادية، فيتوه حين تتشابك الصراعات وتتعدد التناقضات. ولأن الواقع متعدد التناقضات بالضرورة يلون إلى النهاية. إذن هنا، سيندثر هذا اليسار "الممانع" لأنه سقط في الوحل. ثنائيته وسطحيته قادتاه إلى ذلك. لكن سنسجل أنه لعب دوراً تشويهياً كبيراً، ودافع عن سلطة مافياوية مجرمة، وبرّر لها كل القتل والتدمير الذي مارسته، وكل الوحشية التي ظهرت فيها. هذا هو السقوط الأخلاقي الذي لا يمكن غفرانه.
(10) اليسار الممانع في مساره المتقلب
في العقود الماضية كان اليسار يتهمش ويتلاشى، بالضبط لأن سياسته لم تكن مطابقة للواقع، حيث كان يؤسس مواقفه بناءً على هواجس أو انطلاقاً من فهم "سياسوي" يقوم على العلاقات وليس على فهم الواقع الذي يبدأ من الوجود. فالعلاقة هي نتاج الوجود وليست بديله، ولا تحلّ محله، ولا تحظى بأسبقية عليه. وهنا حلت العلاقة السياسية محل الوجود، ليُنظر إلى العالم من منظور العلاقات بين الدول، بحيث تلمس طبيعة هذه العلاقات فقط.
وضمن هذا المنظور يجري تحديد "الطرف الرئيسي" كعدو أو كصديق، ليجري بعد إذ تحديد المواقف من القوى الأخرى، لتكون صديقاً أو عدواً بناءً على موقفها من "الطرف الرئيسي". على ضوء ذلك حدد "اليسار الممانع"، أي "اليسار" الذي يدعم النظام السوري ألان، مواقفه طيلة السنوات الماضية. ولا شك في أن سرد هذه المواقف منذ بداية القرن الجديد سوف توضّح المتاهات التي عاشها، وكيف أنه تقلّب يمنة ويسرة، واعتبر الخاطئ صحيحاً والصحيح خاطئاً، ولم يكن الثابت في كل ذلك سوى معادلة أن العدو الرئيسي هو الإمبريالية الأميركية، أو أن الصديق الرئيسي هو "المقاومة"، ومن ثم "الممانعة". لكن كان يطغى منطلق العدو الرئيسي في العقد الأول (أي قبل الثورات)، ليصبح الصديق الرئيسي هو الذي يطغى بعدئذ. والفارق في الأولوية هنا، كان يحدد المواقف من القوى الأخرى ومن التحالفات.
خلال السنوات الأربعين السابقة كان الصراع الرئيسي يتركز على الإمبريالية الأميركية، سواء لأنها تحتل وتقاتل الشعوب، أو لأنها تدعم الدولة الصهيونية والنظم "العميلة"، أو لأنها في صراع مع الاتحاد السوفيتي. لقد كانت العدو الرئيسي، العدو الذي يمثّل التناقض "الرئيسي"، في مواجهة الاشتراكية وحركة التحرر الوطني. واقعياً انتهت حركة التحرر الوطني منذ عقود، كما انتهت الاشتراكية، لكن الإمبريالية الأميركية ظلت هي العدو الرئيسي. ولا شك في أنها عدو رئيسي كونها المركز للنمط الرأسمالي، لكن منظور "اليسار الممانع" لا ينطلق من هذا الأساس، لأن هذا الأساس يفرض الوقوف ضد كل رأسمالية، لأنها باتت تكرّس الهيمنة الإمبريالية، بل ينطلق من "العلاقة السياسية"، أي من طبيعة العلاقة السياسية لهذه الإمبريالية، ليبدو أن كل مختلف معها هو عدوها، وبالتالي هو جزء من حركة التحرر الوطني. هنا أصبح الخلاف معها هو وحده كافياً لتحديد "طبيعة" المختلف، وتصنيفه في "قالب جاهز" هو استمرار لماضٍ مضى، فيكون من حركة التحرر الوطني، وبالتالي يجب الوقوف معه ودعمه، والتحالف معه.
وإذا كانت سنوات تسعينات القرن العشرين هي سنوات فوضى فكرية على ضوء انهيار النظم الاشتراكية، وخصوصاً الاتحاد السوفيتي، وبالتالي نهاية الحلفاء والرفاق، الذين كانوا معنا في الصراع ضد الإمبريالية، الأميركية خصوصاً. فقد كان القرن الجديد هو الذي أوضح تخبط وتقلب مواقف هذا "اليسار"، حيث ظل ينطلق من المنظور ذاته، بثنائية مبسطة استقاها منذ مرحلة الحرب الباردة، رغم اختلاف الأحوال وتغير مواقع الدول، وهو ما كان يوقعه في هذا التخبط والتقلب. وكانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 هي التعبير عن ذلك، فلأن الحادث كان ضد أميركا نال بن لادن وتنظيم القاعدة كل الرضى والمديح، وأُلبس بن لادن وجه جيفارا، للتعبير عن أن هذا التنظيم هو الشكل الجديد للحركة الثورية القديمة التي كانت تقاتل أميركا. لقد انتشر الشعور المليء بالفرح بحدوث نهوض ثوري جديد أساسه "الإسلام الجهادي". ولهذا لقي التأييد والدعم، والاندفاع، إلى أن بدأت الشكوك تحوم حول طبيعة التنظيم، خصوصاً بعد احتلال العراق والدور الذي لعبه فرع تنظيم القاعدة هناك. وهذا يُظهر "السطحية" التي حكمت الموقف، والمنطق الآلي الذي جعل كل منْ يظهر أنه ضد أميركا ثورياً. وهي السطحية والآلية ذاتها التي حكمت كل مواقف هذا "اليسار"، الذي سيبدو أنه ليس يساراً بأي حال.
ثم، مع بداية القرن الجديد كانت حركة حماس تظهر كـ "حركة مقاومة"، حيث مارست العمل المسلح ضد الاحتلال. طبعاً كان الموقف هو "الدعم المطلق"، دون تدقيق في ماهية حماس، وما الدور الذي تقوم به، والى أين سيوصل؟ بلا شك يجب دعم كل مقاومة ضد الاحتلال، لكن هذا يفرض التدقيق في بنيتها وفهم أهدافها الحقيقية، وهو ما كان يحتاج إلى منطق أعمق من المنطق الصوري الذي يحكم هذا "اليسار". الأسوأ كان في اعتبار كل "الإسلام السياسي" تحرري ومعادي للإمبريالية، وبالتالي الانجراف المذلَ للتحالف معه، أو بالأدق للتبعية له من قبل هذا "اليسار"، وتعميم الأوهام حول طبيعته ومواقفه، والدور الذي يلعبه. ولقد كان دوره هذا من المسببات التي ضخمت "الإسلام السياسي"، وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين. نلمس ذلك في مصر، ومن قبل معظم اليسار الذي يقف الآن مع النظام السوري. ونلمس ذلك في الأردن، أيضاً من الأحزاب التي تدافع الآن باستماتة عن النظام السوري. وفي فلسطين حيث التحق اليسار بحماس لسنوات. وفي تونس حيث تحقق التحالف مع حركة النهضة. وفي مجمل "اليسار الممانع" الذي هلّل وطبّل لـ "الإسلاميين"، ونفخ فيهم، بدل أن يكشف بنيتهم ومنظورهم والمصالح التي يعبّرون عنها، وبالتالي حدود صراعهم مع "الإمبريالية" أو مع الدولة الصهيونية.
لقد سار معظم اليسار العربي، و"اليسار الممانع" بالأساس، خلف الإسلاميين، وروّج بأنهم معادون للإمبريالية ومع تحرير فلسطين، وضد النظم التابعة، وبأنهم الشكل الجديد لحركة التحرر الوطني.
في مستوى آخر، كان هذا "اليسار" متحمساً لقطر التي قررت إعمار الجنوب اللبناني بعد حرب سنة 2006، وبات أميرها "أمير المقاومة" كما وصّفه حسن نصرالله. كما كان يدافع باستماتة عن تركيا التي خاضت صراعاً مع الدولة الصهيونية، بعد حادث "اسطول الحرية" سنة 2009. وبالتالي كان يصطف في صف محور الممانعة الذي كان يتشكل من كل من تركيا وقطر والنظام السوري، والى حدّ ما إيران. وكان الإسلاميون يوضعون ضمن هذا المحور. هذه هي الصورة التي كان يظهر هذا "اليسار" فيها، وكان يتوضح أن سطحيته هي التي تجعله يصطف هنا، دون فهم لطبيعة هذه الدول والقوى. ولهذا ببساطة انقلب موقفه من هذه الدول والقوى، حيث باتت "عميلة للإمبريالية" الأميركية. كيف يمكن أن ينقلب الموقف بهذه البساطة؟ بالضبط لأن هذا "اليسار" لم يحلل تكوين هذه الدول والقوى، ولم يفهم بنيتها، فقط انطلق من موقفها في لحظة معينة ظهرت فيها أنها في صدام مع الإمبريالية الأميركية والكيان الصهيوني. ونتيجة عدم فهم البنية التحق بهذه الدول والقوى، ونظّر لها، وبرر سياساتها. وهذه هي السمة العامة لهذا "اليسار".
هذا ما ظهر في الموقف من النظام السوري، ورغم "الصراعات" التي حكمت بعض هذا "اليسار" مع النظام، فقد ظهر بعد "نشوب صراع" الإمبريالية الأميركية معه، أنه ما بقي من "رائحة الماضي"، أي أنه الباقي من "حركة التحرر الوطني". وأصبح مركز "الممانعة" و"المقاومة"، الذي يجب الدفاع عنه بكل قوة، لأن أميركا تحيك المؤامرات ضده. لا نريد هنا أن نبحث في الخلاف الأميركي السوري، والأسباب التي أوجدته، وكيف انتهى بعد وصول باراك أوباما إلى الرئاسة، حيث يمكن توهم صراع حقيقي على ضوء ما يظهر إعلامياً ما دام البحث لم يطل بنية النظام، وسياساته، وخصوصاً المسار الذي اتخذه على الصعيد الاقتصادي بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة. وبالتالي تحديد طبيعة الطبقة التي تسيطر على الاقتصاد وتقرر سياسة الدولة. فهذه ليست في قاموس "اليسار الممانع"، بالضبط لأنه ينطلق من العلاقة، وهنا علاقة النظام بالإمبريالية الأميركية. فما دامت "سيئة" لا بد من الوقوف معه ودعمه والدفاع عنه بكل شراسة، فهو بالتالي "ضد الإمبريالية"، وأيضاً مستقلّ وتحرري.
لكن، ما هو الموقف من إيران، الحليف الأساسي للنظام، التي باتت تسيطر على القرار في دمشق؟
هنا سنلمس انقلاباً معكوساً عما حدث مع كل من تركيا وقطر، حيث كان موقف هذا "اليسار" من إيران، ليس سلبياً فقط، بل أن البعض منه اعتبر أنها باتت العدو الرئيسي أكثر من الدولة الصهيونية. حدث ذلك بعد الاحتلال الأميركي للعراق، والمساعدة الكبيرة التي قدمتها إيران، ومن ثم الدور الخطر الذي لعبته لتدمير العراق وقتل طياريه وعلمائه، والإسهام في تفكيكه طائفياً. لقد كانت إيران عدواً رئيسياً وحليفاً لـ "الإمبريالية الأميركية". وباتت الآن حليفاً، وجزءاً من القوى "المعادية للإمبريالية"، ومن دول التحرر، إلى حدّ دفع البعض إلى الحديث عن "نهضة عربية جديدة بقيادة إيران والشيعة". وهنا انقلاب في الموقف كذلك، فبعد أن كانت عدواً رئيسياً باتت حليفاً رئيسياً، وهذا يوضّح المنطق الشكلاني الذي يحكم النظر، حيث ينقلب الموقف من طرف إلى الطرف المقابل، في وضع يجري تصويره على أنه يتضمن طرفين فقط. طبعاً دون فهم وضع إيران وبنيتها الاقتصادية والطبقية، وسبب خلافها مع الإمبريالية الأميركية، ومتى يمكن أن تتحالف معها بالتالي. هنا كانت العلاقة مع النظام السوري هي التي أحدثت هذا الانقلاب، الذي لا يمكن توصيفه إلا أنه انقلاب بهلواني، لا تحتمله الماركسية، لأنه يتأسس على المنطق الذي تجاوزته: أي المنطق الصوري.
روسيا كذلك، فقد كانت مهملة، وخارج كل حساب في الفترة السابقة للثورات. بل كان النظر إليها كون نظامها الحالي هو الذي دمّر الاشتراكية، والتحق بالإمبريالية الأميركية. الآن تعامل كـ "دولة تحررية"، وتكون البرجوازية المسيطرة فيها، رغم طابعها المافياوي، هي "برجوازية مستقلة"، وتسعى إلى مواجهة الإمبريالية من هذا المنظور التحرري. ويصبح اعتبار أنها إمبريالية هرطقة، رغم أن كل ما تقوم به هو التعبير المباشر عن طابعها الإمبريالي. حدث كل ذلك فقط حين دعمت النظام السوري، وحمته من السقوط (إلى الآن)، رغم أنها فرضت قواعدها العسكرية في سورية ككل إمبريالية، وتقتل وترتكب مجازر ضد الشعب السوري من أجل إنقاذ نظام على شفير السقوط.
حينما ينقلب الموقف من نقيض إلى نقيض يتوضّح غياب كل منطق علمي، وتظهر السطحية بكل وضوح، فهو يدلّ على تقدير صوري للقوى والدول، وتكون العلاقات هي التي تحدد الموقف، ولأن العلاقات متغيرة تتغيّر المواقف، فينقلب الصديق عدواً، والعدو صديقاً، في تحوّل سريالي. ربما يسمح التكتيك في تحويل بعض المواقف، لكن أن يتحوّل كل التقييم والتقدير نتيجة تحوّل العلاقات فهو ما يعني أن الشكلانية هي التي تحكم المنطق، وهو ما حاولت توضيحه منذ البدء. الأمر الذي يعني العجز عن فهم الماركسية، وتمثّل منهجيتها، المنهجية التي تتجاوز الشكل إلى الجوهر، ولا تقسم العالم إلى طرفين، بل تلمس تعدد التناقضات، وتعدد الصراعات، وتنطلق من التحليل الاقتصادي الطبقي بالأساس وليس من منظور العلاقات/ الصراعات الدولية، وعبر ذلك يمكن أن تُفهم أسباب الصراعات، ومدى علاقتها بمنظور اليسار في صراعه من أجل تجاوز الرأسمالية.
البهلوانية سمة من سمات المنطق الصوري، الذي يبدأ بالسكون ويتوقف عنده. لهذا فإن سمة اليسار الممانع هي البهلوانية بالتأكيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات