أخرج السينمائي المصري الشاب أمير رمسيس وثائقيا مدته 95 دقيقة "عن يهود مصر" من القرن العشرين حتى عام 1956 الموافق لـ"خروجهم الثاني" من مصر بعد الهجوم الثلاثي البريطاني والفرنسي والإسرائيلي على مصر إثر تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس...
مها بن عبد العظيم (نص)
يحاول الفيلم الذي يجمع بين شهادات مصريين يهود
في مصر وخارجها وبين تسجيلات وصحف من الأرشيف إضافة إلى الصور العائلية،
رصد تحول هوية المجتمع المصري من التسامح والقبول بالآخر إلى الخلط
التدريجي بين الدين والسياسة في
ويكشف الفيلم بنوع من المرارة عن تحول مصر من بلاد
"كوسموبوليتية" في أربعينات القرن العشرين، تندمج فيها مختلف الديانات
والثقافات، إلى بلاد صار اليهود فيها يعتبرون كأعداء بعد أن كانوا شركاء
في الوطن. وتظهر مختلف الشهادات انطباعات تجمع بين الحسرة والغضب والحنين
على خلفية تاريخية معقدة فأغلب المصريين اليهود من أصل أندلسي وقد عاشوا في
عهد العثمانيين، في حين ينحدر الآخرون من أوروبيين لجأوا إلى مصر في بداية
القرن العشرين هربا من صعود التيار النازي في بلدانهم.
ويساهم الفيلم في إبراز حقائق مؤلمة ويقول أمير رمسيس
لفرانس 24 "أعتقد أنه بالرغم من أن حقائق عامة كانت جديدة عليّ أثناء عمل
الفيلم إلا أنني في رحلة البحث اكتشفت بعض التفاصيل المؤلمة جدا.. فالكثير
من اليهود المصريين الذين أجبروا عند خروجهم من مصر على التنازل عن
جنسيتهم ما زالوا لا يملكون حق العودة في حين أن بعد "كامب ديفيد" أصبح
للإسرائيليين حق الدخول بتأشيرة تصدر خلال دقائق بعد أن تم طرد اليهود
المصريين من مصر على خلفية الصراع العربي الإسرائيلي.. مثل هذه الحقائق
الغائبة والعبثية مؤلمة جدا".
ومن أهم الشخصيات التي ألقى عليها الوثائقي الضوء هي
شخصية هنري كوريل الذي اغتيل في العام 1978 في فرنسا في ظروف غامضة. وهنري
كوريل هو أحد مؤسسي وقادة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وقائد
"مجموعة روما" فيما بعد. ويقدم ابنه آلان غرييش، وهو أحد مديري صحيفة
"لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية معلومات نادرة عن والده وعن نشاطه السياسي
والفكري من أجل تحرير مصر والجزائر. وتوجه في الفيلم أصابع الاتهام بمقتله
إلى المخابرات الفرنسية في حين تبنت آنذاك "منظمة الجيش السري" العملية،
ولم يتوصل التحقيق إلى إثبات تورط جهة معينة. وجاء في الفيلم أن مبنى
السفارة الجزائرية في مصر هدية من كوريل للجزائر. وأكدت الناشطة اليسارية
جويس بلاو في شهادتها أنها استقلت القطار إلى روما لتمد آنذاك ثروت عكاشة
(وزير الثقافة في عهد عبد الناصر) بخطة العدوان الثلاثي التي تسلمتها من
كوريل.
ورغم شهادات الشخصيات 12، قال المخرج "كنت أود إقناع
عدد أكبر من يهود مصر الذين ما زالوا مقيمين فيها بالحديث، إلا أني أدرك
أسباب خوف من خاف منهم". ولا يتجاوز اليوم عدد اليهود في مصر المئة. ورفض
العديد المشاركة في الفيلم بسبب الضغط المجتمعي والأمني عليهم".
وتجولت كاميرا أمير رمسيس في القاهرة لتصور البنايات
والمتاجر (على غرار متجر مزراحي(التي شيدها اليهود ولتفقد الأماكن التي
قضى فيها ضيوفه طفولتهم وشبابهم. وذكّر المخرج بأهمية المصريين اليهود
ودورهم في إثراء الساحة الثقافية على غرار ليلى ومنير وزكي مراد ونجوى سالم
وشحاتة هارون ويوسف درويش ويعقوب صنوع.
وأضاف أنه خلال التصوير وفي تعامله مع الشارع المصري،
"تفاوتت ردود الفعل بناء على الخلفيات المختلفة... فمنهم من كان يعي الفرق
بين كلمة يهودي وصهيوني ولكن الأغلبية كانت تتعامل مع اليهودي كعدو".
ويؤكد الفيلم أن اليهود المصرين الذين شاركوا في الحركة الصهيونية وساهموا
في دعم إسرائيل قلة قليلة، وبدأوا نشاطهم في إطار قانوني قبل أن ينتقلوا
إلى التجسس وتعرض رمسيس إلى بعض حالات "الخيانة" التي أعدم أصحابها. ولاقى
فيلم رمسيس ترحيبا قويا لا سيما من الصحافة العربية والأجنبية لكن رأى بعض النقاد "خبثا" و"انحيازا"
في وجهة نظر رمسيس ونوعا من التقليل من مساهمة اليهود المصريين في دعم
إسرائيل. في حين يبدو أن المخرج صنع فيلما لمحاربة الأفكار المسبقة
والسائدة في المجتمع المصري والعربي عامة والتي لا تفرق بشكل عام بين
يهودي وصهيوني ولتعيد لمصر جزءا من ذاكرتها المفقودة. ويؤكد رمسيس "أعتقد
أنه كان وراء هذا الفيلم حالة من الضيق الشديد بالنظر لمفهوم آخر عند
المصريين في السنوات الأخيرة.. أو بمعنى أصح التغير السلبي في الهوية
المصرية التي كانت يوما ما واسعة المفهوم ورحبة الآفاق واليوم صارت تغدو
أضيق يوما بعد يوم".
وقبل المعاناة التي لاقاها اليهود المصريون تحت حكم
ناصر، روى الفيلم المضايقات التي تعرضوا لها بعد تقسيم فلسطين عام 1948،
خاصة من جانب جماعة «الإخوان المسلمون». فسألنا المخرج إذا كان فيلمه
اكتسب أبعادا جديدة بعد الثورة المصرية
ولاقى الفيلم الذي عرض في السادس من الشهر الحالي في
إطار "بانورما الفيلم الأوروبي" في القاهرة نجاحا باهرا إلى حد أن المنظمين
اضطروا إلى إعادة بثه ثلاث مرات استجابة للإقبال الكبير الذي غصت به قاعة
تستوعب مئتي شخص واعترف المخرج أنه كان يتوقع ردود فعل سلبية أكثر بكثير
ولكنه سعيد في آخر الأمر بأن "رسالة الفيلم لامست الكثير"
وأبدت عدة جهات اهتمامها بالفيلم ولا يزال المخرج في
مرحلة البحث عن موزع لـ "عن يهود مصر" الذي أنتجه هيثم الخميسي، وفي انتظار
ردود عدد من المهرجانات. لكن رمسيس رفض عروض الموزعين الإسرائيليين خوفا
من فقدان رسالته ومغزاها يقول "الفيلم يتحدث عن اليهود كجزء من حالة أو
مرحلة في حياة مصر ورسالة الفيلم هي عن تقبل الآخر عموما.. وهو ما نفتقده
في مصر حاليا.. وما أكثر صراعاتنا الحالية سواء الإثنية أو الفكرية".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات