September 25th, 2012 9:43 am
على الرغم من دعمى المستمر لانخراط كوريا الشمالية فى المباحثات
السداسية، فإن عدم وجود رد فعل دولى موحد ومتفق عليه تجاه التصعيد من جانب
كوريا الشمالية كان من وجهة نظرى يشكل سابقة بالغة الخطورة. ففى حالة
العراق، كانت الحكومة العراقية قد دعت المفتشين الدوليين الذين لم يجدوا
أى أثر لاستمرارها فى برامج تتعلق بأسلحة الدمار الشامل. لكن تم تجاهل
نتائج التفتيش ووضعها جانبًا لصالح فكرة غزو العراق (التى زعم أنها بسبب
التهديد الذى يشكله العراق «للأمن والسلام الدوليين»)، وعلى الصعيد الآخر
فإن حكومة كوريا الشمالية فشلت فى الإجابة عن أسئلة حول البلوتونيوم
المختفى، والمنشآت السرية، وبرنامجها المزعوم غير المعلن لتخصيب
اليورانيوم. وتم إبعاد مفتشى الوكالة إلى خارج البلاد، وانسحبت بيونج يانج
من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مما أرسل إشارة قوية تدل على نوايا
كوريا الشمالية، لكن مع ذلك كله، لم تكن هناك إدانة جماعية فى مجلس الأمن
تجاهها، ولم تكن الوكالة الدولية (وهى الجهة المسؤولة عن حظر انتشار
الأسلحة النووية) طرفًا فى المحادثات بين مختلف أطراف القضية.
وفى كل اجتماع لمجلس محافظى الوكالة كنت أعرب عن القلق وعن استعداد الوكالة العمل مع كوريا الشمالية للتوصل إلى تفاهمات تأخذ فى الاعتبار كلًّا من مصالح بيونج يانج الأمنية، وحرص المجتمع الدولى على عدم انتشار الأسلحة النووية. وفى الكواليس كنت أسأل أعضاء المحادثات السداسية عن معلوماتهم، لكن لم يكن هناك الكثير الذى يستطيعون قوله لأنه لم يكن هناك على ما يبدو تقدم يذكر.
كما قمت من خلال عدد من المنتديات العامة بالإعلان عن عدم ارتياحى للطريقة التى تدار بها قضايا انتشار السلاح النووى، ومن ذلك ما قلته فى مناقشة عامة أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، حيث قلت: «إن ما يقلقنى إزاء التعامل مع كوريا الشمالية أننا نرسل أسوأ رسالة ممكنة للدول التى يمكن أن تفكر فى حيازة الأسلحة النووية، والرسالة مفادها أنه إذا أرادت دولة أن تحمى نفسها فالحل يكمن فى تطوير كبير وسريع لقدراتها النووية، وأن الدولة التى لا تتحرك بسرعة كافية فى هذا الصدد قد تكون عرضة لأعمال استباقية فى إشارة بالطبع إلى العمل العسكرى ضد العراق.
فى يونية من العام 2004 التقيت بـ«كولين باول» بينما كانت الجولة الثالثة من المحادثات السداسية على وشك الانتهاء دون أن يلوح فى الأفق أى شىء يدل على إمكانية تحقيق اختراق. وأخبرنى «باول» أنه مستعد لإبداء مزيد من المرونة إزاء كوريا الشمالية، غير أنه كان يخشى فى الوقت نفسه أن تحاول بيونج يانج المماطلة حتى شهر نوفمبر، وقال لى: «إننى لو كنت مكان كوريا الشمالية لانتظرت حتى نهاية العام عندما تتضح نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لأنه لو فاز الديمقراطيون فإنهم على الأرجح سيتبنون سياسة أقل تشددًا».
وفى ما استطعت قراءته بين السطور حول المحادثات السداسية فإن مطالب كوريا الشمالية مقابل وقف برنامجها النووى كانت بالفعل قد تجاوزت الحصول على مفاعلَيْن نوويَّيْن لأغراض سلمية من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها أصبحت تشمل الحصول على المزيد من المعونة والتوصل إلى اتفاق حول حزمة ضمانات أمنية إلى جانب تطبيع العلاقات مع واشنطن.
كما كان باديًا لى أن واشنطن، وبدرجة ما طوكيو، كانت تريد على الجانب الآخر أن تتحرك بيونج يانج نحو تفكيك برنامجها النووى بدرجة تحول دون استعادة تفعيل دورة الوقود النووى. بل إن الولايات المتحدة كانت تسعى لوقف المساعدات الدولية إلى أن تقوم بيونج يانج باتخاذ خطوات جادة فى سبيل تفكيك برنامجها النووى على نحو يمكن التحقق منه وتقديم ضمانات كافية فى هذا الشأن.
أما الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فبدت أكثر ميلًا لاتخاذ موقف أقل تشددًا يقوم على التبادلية، بمعنى أنه كلما اتخذت كوريا الشمالية خطوة حصلت على خطوة مقابلة من الجانب الآخر.
وبدت كل الأطراف متمسكة بمواقفها. وبدت ساحة العمل الدبلوماسى للتعامل مع أزمة كوريا الشمالية النووية ملبدة بالغيوم. وعندما حل موعد الجولة الرابعة للمباحثات السداسية رفضت كوريا الشمالية المشاركة، وبررت هذا الرفض بالمواقف «المعادية» التى تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية. وفى وقت لاحق من ذلك الخريف قمت بزيارة اليابان وكوريا الجنوبية، وفى طوكيو وسيول أيضًا استشعرت أن هناك عدم ارتياح إزاء المواقف المتشددة التى تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية.
وقد أرجع نائب وزير خارجية كوريا الجنوبية الإشكال القائم إلى ما وصفه بخلافات فى وجهات النظر، حيث قال إنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإن كوريا الشمالية هى مجرد ملف آخر من ملفات أسلحة الدمار الشامل، أما «بالنسبة إلينا فى كوريا الجنوبية فإن الوضع يختلف، لأن كوريا الشمالية بالنسبة إلينا هى العدو وهى أيضًا الشقيق»، أما فى ما يتعلق باليابان فقد قيل لى إنها كانت تفضل التركيز على وقف كوريا الشمالية لعمليات فصل البلوتونيوم التى كانت اليابان تراها الأكثر خطورة، ثم التعامل لاحقًا مع مسألة التخصيب المزعوم لليورانيوم. ومع غياب مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعد «التجميد» الذى يحول دون قيام كوريا الشمالية بإعادة معالجة الوقود المستنفد، أو فصل البلوتونيوم، أو تطوير أسلحة نووية قائمًا.
وقرب نهاية العام نفسه تلقيت مكالمة غير معلنة من «بيل ريتشاردسون» حاكم ولاية نيو مكسيكو، الذى اتصل بى بصفة شخصية. كنت أعرف «ريتشاردسون» منذ توليه منصب مندوب الولايات المتحدة الأمريكية فى الأمم المتحدة، فى العامين 1997 و1998. وبعد ذلك خلال فترة توليه منصب وزير الطاقة الأمريكى. لقد أراد «ريتشاردسون» أن يعرف ما إذا كان يمكنه القيام بوساطة فى هذا الشأن عن طريق موافقتى على إرساله لكوريا الشمالية كمبعوث عن مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذكر أنه يريد أن يبقى على صلة بقضايا السياسة الخارجية التى كان يفتقدها فى منصبه كحاكم ولاية.
وكان لـ«ريتشاردسون» خبرة فى التعامل مع كوريا الشمالية، حيث تمكن فى عام 1996، بينما كان عضوًا فى الكونجرس، من ضمان موافقة كوريا الشمالية الإفراج عن المواطن الأمريكى «إيفان هانزيكر»، الذى كان قد تم احتجازه من قِبل سلطات بيونج يانج. بالإضافة إلى ذلك فلقد كانت كوريا الشمالية قد لجأت إلى استخدام مساعى «ريتشاردسون» عبر إرسال مبعوثين له فى يناير عام 2003 مع تدهور الوضع إزاء أزمة برنامجها النووى. وكان «ريتشاردسون» قد تولى مهامَّ دبلوماسية أخرى فى أثناء إدارة «بيل كلينتون» فى العراق وفى بنجلاديش تعلقت بالإفراج عن مواطنين أمريكيين معتقلين من قِبل سلطات البلدين، مما يعنى أنه كان لديه خبرة فى إجراء وساطات ناجحة كانت فى كثير من الأحيان تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
ووافقتُ على أن أدعم مهمة «ريتشاردسون» المقترحة بينما تولى هو السعى للحصول على موافقة الخارجية الأمريكية على قيامه بهذه الوساطة. وقد أبدت الإدارة الأمريكية استعدادها لتسهيل ذهاب «ريتشاردسون» إلى كوريا الشمالية بطائرة عسكرية أمريكية مشترطة أن لا يكون حديثه فى بيونج يانج باسم واشنطن. وبعد ذلك بفترة وجيزة، بعث لى «ريتشاردسون» برسالة عبر الفاكس ليخبرنى أن موقف كوريا الشمالية التى كانت مرحبة بزيارته من قبل قد تغير.
وفى مناسبة أخرى تلقيت اقتراحًا من بعض الأصدقاء من كوريا الجنوبية، كنت قد التقيت معهم فى مؤتمر باجواش، أن ألتقى رجلا من رجال البنوك السويديين، الذى قال لى الناصحون إن له علاقة مباشرة بأحد كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. ورغم تشككى فى الأمر فإننى وافقت، وتم اللقاء بالفعل مع «بيتر كاستنفيلت» فى مقر الوكالة بفيينا. ولم يكن فى مظهره ما يُطمئن.
وخلال اللقاء قال لى ضيفى السويدى إن الزعيم الكورى الشمالى لديه مشكلة، حيث إنه يريد أن تنفتح بلاده على العالم، وأن تتخلص من حالة العزلة التى تعيشها. وأشار أيضًا إلى أن الزعيم الكورى يلقى دعمًا من أجيال شابة فى بلاده، لكنه فى الوقت نفسه يقابل معارضة من قِبل معاونى والده، الزعيم السابق لكوريا الشمالية، والذين لم يكونوا أبدًا مرحبين بانفتاح «كيم يونج إيل» على المجتمع الدولى. وأضاف «كاستنفيلت» أن كوريا الشمالية تدرك أهمية استعادة علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنهم كانوا بصدد دعوتى لزيارة بيونج يانج، لكن خطاب الدعوة لم يتم إرساله بسبب غضب المسؤولين هناك من تصريح أدليت به. وعد «كاستنفيلت» بترتيب لقاء لى مع مندوب كوريا الشمالية فى الأمم المتحدة خلال زيارتى القادمة لنيويورك، وهو اللقاء الذى لم يتم أيضًا.
لقد كان «بيتر كاستنفيلت» شخصًا غامضًا وغريبًا، وكان بمثابة رجل يقوم بمهام سياسية متعددة نيابة عن العديد من الحكومات. وقد فهمت أنه كان يقوم ببعض المهام نيابة عن روسيا، فى وقت حكم «بوريس يلتسين»، بغرض تسهيل حصول موسكو على قروض من صندوق النقد الدولى. كما أنه قام بمهمة فى مرحلة لاحقة نيابة عن ألمانيا وروسيا، حيث تم إرساله إلى الرئيس الصربى «سلوبودان ميلوسوفيتش» لإقناعه بوقف عمليات القصف العسكرى لكوسوفو. وبدا لى أن «كاستنفيلت» له اتصالات عالية المستوى فى كثير من بلدان العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. والحقيقة أننى لم أتبين أبدًا الهدف الذى كان «كاستنفيلت» يسعى إليه من وساطاته.
فجأة وبدون مقدمات بدأت السحب تنقشع حيث إن الجولة الرابعة للمفاوضات التى كانت قد توقفت دون نتائج فى أغسطس من عام 2005 قد استؤنفت فى شهر سبتمبر. وتوصلت الأطراف الستة إلى اتفاق حول بيان مشترك يحدد المبادئ التى سيتم التعامل على أساسها مع الوضع بالنسبة إلى كوريا الشمالية. وتضمن الإعلان إشارة إلى موافقة كوريا الشمالية على التخلى عن برنامجها للتسلح النووى والعودة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ونظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ما الذى تسبب فى هذا التغيير؟ أظن أن أحد أهم الأسباب هو تولى «كوندوليزا رايس» منصب وزيرة الخارجية الأمريكية، فهى التى استطاعت أن تقنع «بوش» بعكس ما كان يقول به نائب الرئيس الأمريكى (ديك تشينى) ومجموعته بأن هناك حاجة لتبنى نهج مختلف إزاء كوريا الشمالية. ولقد بدا تأثير «رايس» واضحًا أيضًا فى اختيار «كريستوفر هيل» رئيسًا لوفد التفاوض الأمريكى المشارك فى المباحثات السداسية، ثم ترقى «هيل» بعد ذلك بعدة أشهر ليكون مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ.
لقد كان «هيل» دبلوماسيًّا يؤمن بالبراجماتية، وكذلك بالبناء المتدرج للثقة واستطاع بالفعل أن يتفاعل مع المسؤولين فى كوريا الشمالية. وبالنسبة إلىّ فإن «هيل» كان شخصًا استثنائيًّا فى إطار العاملين تحت إدارة الرئيس بوش حيث كان دبلوماسيًّا متميزًا لا تحركه التزامات إيديولوجية وسياسية بعينها، كما أنه يتمتع بإدراك فطرى منطقى لكيفية التعاطى مع المشكلات الجيو سياسية. ولقد تمكن «هيل» من تحقيق إحراز تقدم واضح فى الحوار مع المسؤولين فى كوريا الشمالية للدرجة التى سرت معها شائعات من أن بعض اليابانيين يلقبونه مزاحًا بـ«كريس يونج هيل».
وكان من الواضح أن «هيل» لا يرحب بتأثير مجموعات المتشددين فى واشنطن، وقد أخبرنى ذات مرة فى حديث خاص بيننا أنه على الرغم من خروج «جون بولتون»، وهو أحد المتشددين، عن الساحة بصورة مباشرة، فإن تأثيره ما زال واضحًا فى بعض القرارات السياسية الأمريكية من خلال أعوان له.
وفى المجمل فلقد كان هناك تفاهم جيد بينى وبين «هيل»، حيث كنا نتفق على أهمية الحوار فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، وكذلك عدم جدوى المواقف المتعنتة خصوصا على المدى الطويل، وأيضًا ضرورة اتباع نهج عملى متدرج مع كوريا الشمالية. غير أن «هيل» لم يُخف أن عمله مع كوريا الشمالية كان يواجَه بالكثير من العقبات فى واشنطن، بل إنه قال لى مرة بامتعاض إنه يجد صعوبة فى الحصول على آراء استشارية جيدة، وذلك فى تعليق على ما قلته من أن مستوى العاملين على ملفات مكافحة التسلح فى الخارجية الأمريكية ليس على المستوى المطلوب.
ولم يتضمن البيان المشترك أية إشارة إلى إطار زمنى معين أو إلى خريطة طريق لتنفيذ ما جاء فيه، وهو ما استدعى تعليقات ساخرة من قِبل البعض فى واشنطن الذين رأوا أنه بعد ثلاث سنوات من استبعاد الاتفاق الإطارى فإن الدبلوماسية الأمريكية قد استبدلته ببديل أسوأ. غير أن البيان المشترك يعتبر خطوة مهمة إلى الأمام حيث إنه يؤكد تقديم كوريا الشمالية لضمانات بالتخلى عن برنامجها للسلاح النووى مقابل حصولها على الطاقة، كما أن واشنطن أعلنت أنه ليس لديها النية لغزو كوريا الشمالية، وأنها ستقدم لها ضمانات أمنية، بل وتعهدت باحترام سيادتها.
وعلى الرغم من كل ذلك عادت المباحثات للتوقف ثانية، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد 25 مليون دولار تخص كوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو بدعوى أن هذه الأموال محولة فى إطار عمليات غير قانونية لغسل الأموال وتزوير العملات النقدية. وأبدت كوريا الشمالية، رغم غضبها الشديد، استعدادها لاستئناف المفاوضات السداسية إذا ما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالإفراج عن هذه الأموال، وهو الأمر الذى رفضته واشنطن، مشيرة إلى أنه لا توجد صلة بين القضايا المالية والقضايا النووية.
ومع دخول المفاوضات مأزقًا جديدًا أعلنت كوريا الشمالية أنها ستقوم بأولى تجاربها النووية، وهو ما حدث بالفعل فى التاسع من أكتوبر عام 2006 أى بعد ستة أيام فقط من التهديد الصادر عن بيونج يانج. وكان الاختبار الذى أجرته بيونج يانج صغيرًا، وهو ما أثار العديد من التساؤلات فى الأوساط المعنية حول مدى كفاءة التكنولوجيا النووية المتاحة لدى كوريا الشمالية. غير أنه بغض النظر عن ذلك فالحقيقة الواضحة أمامنا أن كوريا الشمالية على الرغم مما تعانيه من فقر وعزلة تمكنت من تحدى العالم، وتمكنت أيضًا من أن تلتحق بالنادى النووى.
ولو أن الهدف من وراء الاختبار النووى الذى قامت به كوريا الشمالية كان جذب الأنظار إليها، فهى بالتأكيد قد نجحت فى ذلك. وجاءت ردود الأفعال بسرعة حيث أصدر مجلس الأمن قرارًا يدين الاختبار النووى، كما تبنى القرار حزمة جديدة من العقوبات لم تكن لتؤثر كثيرًا على الوضع فى كوريا الشمالية. وفى مقال له فى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية قال «ويليام بيرى»، وزير الدفاع الأمريكى السابق: «إن الاختبار الذى أجرته كوريا الشمالية يجسد فشل إدارة الرئيس الأمريكى (بوش) إزاء كوريا الشمالية».
أما الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» فقد اتخذ موقفًا أقل تشددًا، وأشار إلى إمكانية العودة إلى نقطة التفاهم التى كانت قائمة لدى الاتفاق على البيان المشترك للمحادثات السداسية فى عام 2005. وفى مقال له حول هذه الأزمة قال «كارتر» إن ما يجب بالقطع تجنبه هو أن تصل دولة نووية إلى قناعة أنه لن يكون لها أبدًا مكانة فى المجتمع الدولى، وأن بقاءها سيكون دومًا مهددًا، وأن أبناءها سيتحملون الكثير من المعاناة والحرمان، وأن سياساتها وقراراتها العسكرية ستكون دومًا فى يد المتشددين.
أما موقف الصقور الأمريكيين فقد عبَّر عنه «ديفيد فرام» وهو مواطن كندى كان قد عمل مستشارًا لكتابة الخطابات الرسمية للرئيس «بوش» (الابن)، وذكر أنه هو صاحب تعبير «محور الشر». وفى مقال له فى صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية دعا «فرام» إلى إجراءات أكثر حدة، وطالب بنشر سريع لأنظمة الصواريخ الدفاعية الأمريكية وإيقاف المعونات الإنسانية لكوريا الشمالية والسماح لبعض الدول الآسيوية بالانضمام إلى عضوية الناتو. بل إن «فرام» دعا أيضًا لمطالبة اليابان بالخروج عن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والبدء فى إنشاء رادع نووى خاص بها. وقد تنفست الصعداء لأن هذه الآراء صدرت عن «فرام» بعد أن غادر مجموع المستشارين السياسيين للإدارة الأمريكية.
ومع ظهور إحساس واضح بضرورة التعامل بسرعة مع ملف الأزمة الكورية تم استئناف المباحثات السداسية. وفى هذا السياق سألتنى «رايس» فى مقابلة فى نهاية شهر أكتوبر إذا ما كنت أرى دورًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، مشيرة إلى اعتقادها بأنه لا يكفى أن تبدى كوريا الشمالية استعدادها لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وأن الأمر فى رأيها يتطلب قيام كوريا الشمالية بخطوات ملموسة فى هذا الصدد. وبالتأكيد، فقد كان لدى الوكالة الاستعداد لتقديم أى عون من شأنه أن يسهم فى إنهاء الأزمة، وقلت لـ«رايس»: «إننا نستطيع أن نبدأ بالقيام ببعض مهام التفتيش التى تكون محل اتفاق مع حكومة كوريا الشمالية، على أن تتوالى هذه العمليات وتتصاعد فى مراحل لاحقة». وبدت «رايس» متفقة مع مقترحى هذا.
ولم يسعنى إلا أن أرى أننا وبعد كل هذا الوقت نعود ثانية للتعامل مع ملف أزمة كوريا الشمالية من منظور الخطوات المتبادلة الذى كان يمثل السياق الأساسى للاتفاق الإطارى الذى تم التوصل إليه مع كوريا الشمالية. والأمر الذى كان أكثر غرابة، خلافًا للسلوك الأمريكى السابق فى العراق والحالى وتجاه برنامج إيران النووى، هو أن الولايات المتحدة استأنفت المحادثات المباشرة مع كوريا الشمالية على الرغم مما كان باديًا من أن كوريا الشمالية تفعل ما تريد عقب قيامها بتجربتها النووية مباشرة.
وفى محاولة منها لتهدئة التوتر قامت واشنطن بمطالبة محاسبين وقانونيين بالنظر فى وسائل لإنهاء التجميد المفروض على حساب لكوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو، وفى المقابل قامت كوريا الشمالية بإعلان استعدادها لوقف مفاعلها النووى فى يونج بيون والسماح لمفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعودة للبلاد. وكانت تلك هى الخطوة الأولى فى صفقة جديدة لنزع السلاح.
وفى الثالث والعشرين من الشهر ذاته تلقيت دعوة من كوريا الشمالية للقيام بزيارة لها، وقد تضمن خطاب الدعوة إشارة إلى ما كنت قد قلته من أن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حل لمشكلة كوريا الشمالية هى الحوار السلمى فى التعامل مع بيونج يانج، وليس ممارسة الضغوط. ولقد رحبت بهذه الخطوة وذكرت عند إعلانى عن دعوة بيونج يانج، بأنها خطوة فى الاتجاه الصحيح.
وفى اليوم التالى دار حديث ودى بينى وبين «رايس» حول هذه الزيارة التى تأتى فى الشتاء القارس، والتى لم تكن لتتم لولا التغير فى المواقف الأمريكية، وذكرت لوزيرة الخارجية الأمريكية ضاحكًا زيارتى لبيونج يانج فى شتاء 1992 حيث أمضيت ليلتى فى غرفة الفندق أرتجف من شدة البرد لعدم وجود تدفئة كافية.
قبيل رحلتى لبيونج يانج أعلنتْ واشنطن، بصورة تدعو للدهشة أن المعلومات المخابراتية التى كانت لديها حول سعى بيونج يانج للقيام بتخصيب سرى لليورانيوم وهى التى أودت بالاتفاق الإطارى فى 2002 لم تكن «بالمعلومات المؤكدة»، فى إشارة إلى عدم التيقن الكامل من دقة المعلومات المشار إليها أو إلى وجود معلومات أخرى مناقضة لها.
ولقد ذُهلت جراء هذا الإعلان، حيث إن البرنامج السرى المفترض لتخصيب اليورانيوم فى كوريا الشمالية كان السبب الذى قررت الولايات المتحدة الأمريكية من أجله وقف تقديم معونات الطاقة لكوريا الشمالية قبل أربع سنوات، وهو الموقف الذى كان من ضمن تبعاته انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وطلبها سحب مفتشى الوكالة، والتعجيل ببرنامجها للتسلح، وبدء رحلات المفاوضات التى كانت كثيرًا ما تتعثر، والتهديدات والعقوبات وصولًا إلى قيام كوريا الشمالية بتفجير نووى. لم أكن أصدق أن كل هذا يمكن أن يحدث نتيجة لادعاء غير مؤكد. وكان هذا الإعلان بمثابة ضربة جديدة لمدى الثقة التى يمكن أن تحظى بها معلومات الاستخبارات الأمريكية والتعامل معها.
وفى حديث لاحق لتلك التطورات مع «كريستوفر هيل» أبدى «هيل» شيئًا من التشكك فى دقة ما نقله سلفه «جيمس كيلى» من «اعتراف» كوريا الشمالية بالبرنامج السرى لتخصيب اليورانيوم، مشيرًا إلى أنه اطلع على التقرير الذى بعث به «كيلى» إلى واشنطن بناء على مباحثاته فى بيونج يانج. ولكنه من تعبيرات وجهه ظهر لى أنه لم يكن مقتنعًا بطبيعة هذا الاعتراف.
وفى كل اجتماع لمجلس محافظى الوكالة كنت أعرب عن القلق وعن استعداد الوكالة العمل مع كوريا الشمالية للتوصل إلى تفاهمات تأخذ فى الاعتبار كلًّا من مصالح بيونج يانج الأمنية، وحرص المجتمع الدولى على عدم انتشار الأسلحة النووية. وفى الكواليس كنت أسأل أعضاء المحادثات السداسية عن معلوماتهم، لكن لم يكن هناك الكثير الذى يستطيعون قوله لأنه لم يكن هناك على ما يبدو تقدم يذكر.
كما قمت من خلال عدد من المنتديات العامة بالإعلان عن عدم ارتياحى للطريقة التى تدار بها قضايا انتشار السلاح النووى، ومن ذلك ما قلته فى مناقشة عامة أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، حيث قلت: «إن ما يقلقنى إزاء التعامل مع كوريا الشمالية أننا نرسل أسوأ رسالة ممكنة للدول التى يمكن أن تفكر فى حيازة الأسلحة النووية، والرسالة مفادها أنه إذا أرادت دولة أن تحمى نفسها فالحل يكمن فى تطوير كبير وسريع لقدراتها النووية، وأن الدولة التى لا تتحرك بسرعة كافية فى هذا الصدد قد تكون عرضة لأعمال استباقية فى إشارة بالطبع إلى العمل العسكرى ضد العراق.
فى يونية من العام 2004 التقيت بـ«كولين باول» بينما كانت الجولة الثالثة من المحادثات السداسية على وشك الانتهاء دون أن يلوح فى الأفق أى شىء يدل على إمكانية تحقيق اختراق. وأخبرنى «باول» أنه مستعد لإبداء مزيد من المرونة إزاء كوريا الشمالية، غير أنه كان يخشى فى الوقت نفسه أن تحاول بيونج يانج المماطلة حتى شهر نوفمبر، وقال لى: «إننى لو كنت مكان كوريا الشمالية لانتظرت حتى نهاية العام عندما تتضح نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية لأنه لو فاز الديمقراطيون فإنهم على الأرجح سيتبنون سياسة أقل تشددًا».
وفى ما استطعت قراءته بين السطور حول المحادثات السداسية فإن مطالب كوريا الشمالية مقابل وقف برنامجها النووى كانت بالفعل قد تجاوزت الحصول على مفاعلَيْن نوويَّيْن لأغراض سلمية من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنها أصبحت تشمل الحصول على المزيد من المعونة والتوصل إلى اتفاق حول حزمة ضمانات أمنية إلى جانب تطبيع العلاقات مع واشنطن.
كما كان باديًا لى أن واشنطن، وبدرجة ما طوكيو، كانت تريد على الجانب الآخر أن تتحرك بيونج يانج نحو تفكيك برنامجها النووى بدرجة تحول دون استعادة تفعيل دورة الوقود النووى. بل إن الولايات المتحدة كانت تسعى لوقف المساعدات الدولية إلى أن تقوم بيونج يانج باتخاذ خطوات جادة فى سبيل تفكيك برنامجها النووى على نحو يمكن التحقق منه وتقديم ضمانات كافية فى هذا الشأن.
أما الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فبدت أكثر ميلًا لاتخاذ موقف أقل تشددًا يقوم على التبادلية، بمعنى أنه كلما اتخذت كوريا الشمالية خطوة حصلت على خطوة مقابلة من الجانب الآخر.
وبدت كل الأطراف متمسكة بمواقفها. وبدت ساحة العمل الدبلوماسى للتعامل مع أزمة كوريا الشمالية النووية ملبدة بالغيوم. وعندما حل موعد الجولة الرابعة للمباحثات السداسية رفضت كوريا الشمالية المشاركة، وبررت هذا الرفض بالمواقف «المعادية» التى تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية. وفى وقت لاحق من ذلك الخريف قمت بزيارة اليابان وكوريا الجنوبية، وفى طوكيو وسيول أيضًا استشعرت أن هناك عدم ارتياح إزاء المواقف المتشددة التى تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية.
وقد أرجع نائب وزير خارجية كوريا الجنوبية الإشكال القائم إلى ما وصفه بخلافات فى وجهات النظر، حيث قال إنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فإن كوريا الشمالية هى مجرد ملف آخر من ملفات أسلحة الدمار الشامل، أما «بالنسبة إلينا فى كوريا الجنوبية فإن الوضع يختلف، لأن كوريا الشمالية بالنسبة إلينا هى العدو وهى أيضًا الشقيق»، أما فى ما يتعلق باليابان فقد قيل لى إنها كانت تفضل التركيز على وقف كوريا الشمالية لعمليات فصل البلوتونيوم التى كانت اليابان تراها الأكثر خطورة، ثم التعامل لاحقًا مع مسألة التخصيب المزعوم لليورانيوم. ومع غياب مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعد «التجميد» الذى يحول دون قيام كوريا الشمالية بإعادة معالجة الوقود المستنفد، أو فصل البلوتونيوم، أو تطوير أسلحة نووية قائمًا.
وقرب نهاية العام نفسه تلقيت مكالمة غير معلنة من «بيل ريتشاردسون» حاكم ولاية نيو مكسيكو، الذى اتصل بى بصفة شخصية. كنت أعرف «ريتشاردسون» منذ توليه منصب مندوب الولايات المتحدة الأمريكية فى الأمم المتحدة، فى العامين 1997 و1998. وبعد ذلك خلال فترة توليه منصب وزير الطاقة الأمريكى. لقد أراد «ريتشاردسون» أن يعرف ما إذا كان يمكنه القيام بوساطة فى هذا الشأن عن طريق موافقتى على إرساله لكوريا الشمالية كمبعوث عن مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذكر أنه يريد أن يبقى على صلة بقضايا السياسة الخارجية التى كان يفتقدها فى منصبه كحاكم ولاية.
وكان لـ«ريتشاردسون» خبرة فى التعامل مع كوريا الشمالية، حيث تمكن فى عام 1996، بينما كان عضوًا فى الكونجرس، من ضمان موافقة كوريا الشمالية الإفراج عن المواطن الأمريكى «إيفان هانزيكر»، الذى كان قد تم احتجازه من قِبل سلطات بيونج يانج. بالإضافة إلى ذلك فلقد كانت كوريا الشمالية قد لجأت إلى استخدام مساعى «ريتشاردسون» عبر إرسال مبعوثين له فى يناير عام 2003 مع تدهور الوضع إزاء أزمة برنامجها النووى. وكان «ريتشاردسون» قد تولى مهامَّ دبلوماسية أخرى فى أثناء إدارة «بيل كلينتون» فى العراق وفى بنجلاديش تعلقت بالإفراج عن مواطنين أمريكيين معتقلين من قِبل سلطات البلدين، مما يعنى أنه كان لديه خبرة فى إجراء وساطات ناجحة كانت فى كثير من الأحيان تحظى بتغطية إعلامية واسعة.
ووافقتُ على أن أدعم مهمة «ريتشاردسون» المقترحة بينما تولى هو السعى للحصول على موافقة الخارجية الأمريكية على قيامه بهذه الوساطة. وقد أبدت الإدارة الأمريكية استعدادها لتسهيل ذهاب «ريتشاردسون» إلى كوريا الشمالية بطائرة عسكرية أمريكية مشترطة أن لا يكون حديثه فى بيونج يانج باسم واشنطن. وبعد ذلك بفترة وجيزة، بعث لى «ريتشاردسون» برسالة عبر الفاكس ليخبرنى أن موقف كوريا الشمالية التى كانت مرحبة بزيارته من قبل قد تغير.
وفى مناسبة أخرى تلقيت اقتراحًا من بعض الأصدقاء من كوريا الجنوبية، كنت قد التقيت معهم فى مؤتمر باجواش، أن ألتقى رجلا من رجال البنوك السويديين، الذى قال لى الناصحون إن له علاقة مباشرة بأحد كبار المسؤولين فى كوريا الشمالية. ورغم تشككى فى الأمر فإننى وافقت، وتم اللقاء بالفعل مع «بيتر كاستنفيلت» فى مقر الوكالة بفيينا. ولم يكن فى مظهره ما يُطمئن.
وخلال اللقاء قال لى ضيفى السويدى إن الزعيم الكورى الشمالى لديه مشكلة، حيث إنه يريد أن تنفتح بلاده على العالم، وأن تتخلص من حالة العزلة التى تعيشها. وأشار أيضًا إلى أن الزعيم الكورى يلقى دعمًا من أجيال شابة فى بلاده، لكنه فى الوقت نفسه يقابل معارضة من قِبل معاونى والده، الزعيم السابق لكوريا الشمالية، والذين لم يكونوا أبدًا مرحبين بانفتاح «كيم يونج إيل» على المجتمع الدولى. وأضاف «كاستنفيلت» أن كوريا الشمالية تدرك أهمية استعادة علاقتها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنهم كانوا بصدد دعوتى لزيارة بيونج يانج، لكن خطاب الدعوة لم يتم إرساله بسبب غضب المسؤولين هناك من تصريح أدليت به. وعد «كاستنفيلت» بترتيب لقاء لى مع مندوب كوريا الشمالية فى الأمم المتحدة خلال زيارتى القادمة لنيويورك، وهو اللقاء الذى لم يتم أيضًا.
لقد كان «بيتر كاستنفيلت» شخصًا غامضًا وغريبًا، وكان بمثابة رجل يقوم بمهام سياسية متعددة نيابة عن العديد من الحكومات. وقد فهمت أنه كان يقوم ببعض المهام نيابة عن روسيا، فى وقت حكم «بوريس يلتسين»، بغرض تسهيل حصول موسكو على قروض من صندوق النقد الدولى. كما أنه قام بمهمة فى مرحلة لاحقة نيابة عن ألمانيا وروسيا، حيث تم إرساله إلى الرئيس الصربى «سلوبودان ميلوسوفيتش» لإقناعه بوقف عمليات القصف العسكرى لكوسوفو. وبدا لى أن «كاستنفيلت» له اتصالات عالية المستوى فى كثير من بلدان العالم بما فى ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وإيران. والحقيقة أننى لم أتبين أبدًا الهدف الذى كان «كاستنفيلت» يسعى إليه من وساطاته.
فجأة وبدون مقدمات بدأت السحب تنقشع حيث إن الجولة الرابعة للمفاوضات التى كانت قد توقفت دون نتائج فى أغسطس من عام 2005 قد استؤنفت فى شهر سبتمبر. وتوصلت الأطراف الستة إلى اتفاق حول بيان مشترك يحدد المبادئ التى سيتم التعامل على أساسها مع الوضع بالنسبة إلى كوريا الشمالية. وتضمن الإعلان إشارة إلى موافقة كوريا الشمالية على التخلى عن برنامجها للتسلح النووى والعودة إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية ونظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ما الذى تسبب فى هذا التغيير؟ أظن أن أحد أهم الأسباب هو تولى «كوندوليزا رايس» منصب وزيرة الخارجية الأمريكية، فهى التى استطاعت أن تقنع «بوش» بعكس ما كان يقول به نائب الرئيس الأمريكى (ديك تشينى) ومجموعته بأن هناك حاجة لتبنى نهج مختلف إزاء كوريا الشمالية. ولقد بدا تأثير «رايس» واضحًا أيضًا فى اختيار «كريستوفر هيل» رئيسًا لوفد التفاوض الأمريكى المشارك فى المباحثات السداسية، ثم ترقى «هيل» بعد ذلك بعدة أشهر ليكون مساعدًا لوزير الخارجية الأمريكية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادئ.
لقد كان «هيل» دبلوماسيًّا يؤمن بالبراجماتية، وكذلك بالبناء المتدرج للثقة واستطاع بالفعل أن يتفاعل مع المسؤولين فى كوريا الشمالية. وبالنسبة إلىّ فإن «هيل» كان شخصًا استثنائيًّا فى إطار العاملين تحت إدارة الرئيس بوش حيث كان دبلوماسيًّا متميزًا لا تحركه التزامات إيديولوجية وسياسية بعينها، كما أنه يتمتع بإدراك فطرى منطقى لكيفية التعاطى مع المشكلات الجيو سياسية. ولقد تمكن «هيل» من تحقيق إحراز تقدم واضح فى الحوار مع المسؤولين فى كوريا الشمالية للدرجة التى سرت معها شائعات من أن بعض اليابانيين يلقبونه مزاحًا بـ«كريس يونج هيل».
وكان من الواضح أن «هيل» لا يرحب بتأثير مجموعات المتشددين فى واشنطن، وقد أخبرنى ذات مرة فى حديث خاص بيننا أنه على الرغم من خروج «جون بولتون»، وهو أحد المتشددين، عن الساحة بصورة مباشرة، فإن تأثيره ما زال واضحًا فى بعض القرارات السياسية الأمريكية من خلال أعوان له.
وفى المجمل فلقد كان هناك تفاهم جيد بينى وبين «هيل»، حيث كنا نتفق على أهمية الحوار فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، وكذلك عدم جدوى المواقف المتعنتة خصوصا على المدى الطويل، وأيضًا ضرورة اتباع نهج عملى متدرج مع كوريا الشمالية. غير أن «هيل» لم يُخف أن عمله مع كوريا الشمالية كان يواجَه بالكثير من العقبات فى واشنطن، بل إنه قال لى مرة بامتعاض إنه يجد صعوبة فى الحصول على آراء استشارية جيدة، وذلك فى تعليق على ما قلته من أن مستوى العاملين على ملفات مكافحة التسلح فى الخارجية الأمريكية ليس على المستوى المطلوب.
ولم يتضمن البيان المشترك أية إشارة إلى إطار زمنى معين أو إلى خريطة طريق لتنفيذ ما جاء فيه، وهو ما استدعى تعليقات ساخرة من قِبل البعض فى واشنطن الذين رأوا أنه بعد ثلاث سنوات من استبعاد الاتفاق الإطارى فإن الدبلوماسية الأمريكية قد استبدلته ببديل أسوأ. غير أن البيان المشترك يعتبر خطوة مهمة إلى الأمام حيث إنه يؤكد تقديم كوريا الشمالية لضمانات بالتخلى عن برنامجها للسلاح النووى مقابل حصولها على الطاقة، كما أن واشنطن أعلنت أنه ليس لديها النية لغزو كوريا الشمالية، وأنها ستقدم لها ضمانات أمنية، بل وتعهدت باحترام سيادتها.
وعلى الرغم من كل ذلك عادت المباحثات للتوقف ثانية، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد 25 مليون دولار تخص كوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو بدعوى أن هذه الأموال محولة فى إطار عمليات غير قانونية لغسل الأموال وتزوير العملات النقدية. وأبدت كوريا الشمالية، رغم غضبها الشديد، استعدادها لاستئناف المفاوضات السداسية إذا ما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالإفراج عن هذه الأموال، وهو الأمر الذى رفضته واشنطن، مشيرة إلى أنه لا توجد صلة بين القضايا المالية والقضايا النووية.
ومع دخول المفاوضات مأزقًا جديدًا أعلنت كوريا الشمالية أنها ستقوم بأولى تجاربها النووية، وهو ما حدث بالفعل فى التاسع من أكتوبر عام 2006 أى بعد ستة أيام فقط من التهديد الصادر عن بيونج يانج. وكان الاختبار الذى أجرته بيونج يانج صغيرًا، وهو ما أثار العديد من التساؤلات فى الأوساط المعنية حول مدى كفاءة التكنولوجيا النووية المتاحة لدى كوريا الشمالية. غير أنه بغض النظر عن ذلك فالحقيقة الواضحة أمامنا أن كوريا الشمالية على الرغم مما تعانيه من فقر وعزلة تمكنت من تحدى العالم، وتمكنت أيضًا من أن تلتحق بالنادى النووى.
ولو أن الهدف من وراء الاختبار النووى الذى قامت به كوريا الشمالية كان جذب الأنظار إليها، فهى بالتأكيد قد نجحت فى ذلك. وجاءت ردود الأفعال بسرعة حيث أصدر مجلس الأمن قرارًا يدين الاختبار النووى، كما تبنى القرار حزمة جديدة من العقوبات لم تكن لتؤثر كثيرًا على الوضع فى كوريا الشمالية. وفى مقال له فى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية قال «ويليام بيرى»، وزير الدفاع الأمريكى السابق: «إن الاختبار الذى أجرته كوريا الشمالية يجسد فشل إدارة الرئيس الأمريكى (بوش) إزاء كوريا الشمالية».
أما الرئيس الأمريكى السابق «جيمى كارتر» فقد اتخذ موقفًا أقل تشددًا، وأشار إلى إمكانية العودة إلى نقطة التفاهم التى كانت قائمة لدى الاتفاق على البيان المشترك للمحادثات السداسية فى عام 2005. وفى مقال له حول هذه الأزمة قال «كارتر» إن ما يجب بالقطع تجنبه هو أن تصل دولة نووية إلى قناعة أنه لن يكون لها أبدًا مكانة فى المجتمع الدولى، وأن بقاءها سيكون دومًا مهددًا، وأن أبناءها سيتحملون الكثير من المعاناة والحرمان، وأن سياساتها وقراراتها العسكرية ستكون دومًا فى يد المتشددين.
أما موقف الصقور الأمريكيين فقد عبَّر عنه «ديفيد فرام» وهو مواطن كندى كان قد عمل مستشارًا لكتابة الخطابات الرسمية للرئيس «بوش» (الابن)، وذكر أنه هو صاحب تعبير «محور الشر». وفى مقال له فى صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية دعا «فرام» إلى إجراءات أكثر حدة، وطالب بنشر سريع لأنظمة الصواريخ الدفاعية الأمريكية وإيقاف المعونات الإنسانية لكوريا الشمالية والسماح لبعض الدول الآسيوية بالانضمام إلى عضوية الناتو. بل إن «فرام» دعا أيضًا لمطالبة اليابان بالخروج عن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والبدء فى إنشاء رادع نووى خاص بها. وقد تنفست الصعداء لأن هذه الآراء صدرت عن «فرام» بعد أن غادر مجموع المستشارين السياسيين للإدارة الأمريكية.
ومع ظهور إحساس واضح بضرورة التعامل بسرعة مع ملف الأزمة الكورية تم استئناف المباحثات السداسية. وفى هذا السياق سألتنى «رايس» فى مقابلة فى نهاية شهر أكتوبر إذا ما كنت أرى دورًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التعامل مع الأزمة النووية لكوريا الشمالية، مشيرة إلى اعتقادها بأنه لا يكفى أن تبدى كوريا الشمالية استعدادها لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وأن الأمر فى رأيها يتطلب قيام كوريا الشمالية بخطوات ملموسة فى هذا الصدد. وبالتأكيد، فقد كان لدى الوكالة الاستعداد لتقديم أى عون من شأنه أن يسهم فى إنهاء الأزمة، وقلت لـ«رايس»: «إننا نستطيع أن نبدأ بالقيام ببعض مهام التفتيش التى تكون محل اتفاق مع حكومة كوريا الشمالية، على أن تتوالى هذه العمليات وتتصاعد فى مراحل لاحقة». وبدت «رايس» متفقة مع مقترحى هذا.
ولم يسعنى إلا أن أرى أننا وبعد كل هذا الوقت نعود ثانية للتعامل مع ملف أزمة كوريا الشمالية من منظور الخطوات المتبادلة الذى كان يمثل السياق الأساسى للاتفاق الإطارى الذى تم التوصل إليه مع كوريا الشمالية. والأمر الذى كان أكثر غرابة، خلافًا للسلوك الأمريكى السابق فى العراق والحالى وتجاه برنامج إيران النووى، هو أن الولايات المتحدة استأنفت المحادثات المباشرة مع كوريا الشمالية على الرغم مما كان باديًا من أن كوريا الشمالية تفعل ما تريد عقب قيامها بتجربتها النووية مباشرة.
وفى محاولة منها لتهدئة التوتر قامت واشنطن بمطالبة محاسبين وقانونيين بالنظر فى وسائل لإنهاء التجميد المفروض على حساب لكوريا الشمالية فى أحد البنوك فى ماكاو، وفى المقابل قامت كوريا الشمالية بإعلان استعدادها لوقف مفاعلها النووى فى يونج بيون والسماح لمفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعودة للبلاد. وكانت تلك هى الخطوة الأولى فى صفقة جديدة لنزع السلاح.
وفى الثالث والعشرين من الشهر ذاته تلقيت دعوة من كوريا الشمالية للقيام بزيارة لها، وقد تضمن خطاب الدعوة إشارة إلى ما كنت قد قلته من أن الوسيلة الوحيدة للتوصل إلى حل لمشكلة كوريا الشمالية هى الحوار السلمى فى التعامل مع بيونج يانج، وليس ممارسة الضغوط. ولقد رحبت بهذه الخطوة وذكرت عند إعلانى عن دعوة بيونج يانج، بأنها خطوة فى الاتجاه الصحيح.
وفى اليوم التالى دار حديث ودى بينى وبين «رايس» حول هذه الزيارة التى تأتى فى الشتاء القارس، والتى لم تكن لتتم لولا التغير فى المواقف الأمريكية، وذكرت لوزيرة الخارجية الأمريكية ضاحكًا زيارتى لبيونج يانج فى شتاء 1992 حيث أمضيت ليلتى فى غرفة الفندق أرتجف من شدة البرد لعدم وجود تدفئة كافية.
قبيل رحلتى لبيونج يانج أعلنتْ واشنطن، بصورة تدعو للدهشة أن المعلومات المخابراتية التى كانت لديها حول سعى بيونج يانج للقيام بتخصيب سرى لليورانيوم وهى التى أودت بالاتفاق الإطارى فى 2002 لم تكن «بالمعلومات المؤكدة»، فى إشارة إلى عدم التيقن الكامل من دقة المعلومات المشار إليها أو إلى وجود معلومات أخرى مناقضة لها.
ولقد ذُهلت جراء هذا الإعلان، حيث إن البرنامج السرى المفترض لتخصيب اليورانيوم فى كوريا الشمالية كان السبب الذى قررت الولايات المتحدة الأمريكية من أجله وقف تقديم معونات الطاقة لكوريا الشمالية قبل أربع سنوات، وهو الموقف الذى كان من ضمن تبعاته انسحاب كوريا الشمالية من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وطلبها سحب مفتشى الوكالة، والتعجيل ببرنامجها للتسلح، وبدء رحلات المفاوضات التى كانت كثيرًا ما تتعثر، والتهديدات والعقوبات وصولًا إلى قيام كوريا الشمالية بتفجير نووى. لم أكن أصدق أن كل هذا يمكن أن يحدث نتيجة لادعاء غير مؤكد. وكان هذا الإعلان بمثابة ضربة جديدة لمدى الثقة التى يمكن أن تحظى بها معلومات الاستخبارات الأمريكية والتعامل معها.
وفى حديث لاحق لتلك التطورات مع «كريستوفر هيل» أبدى «هيل» شيئًا من التشكك فى دقة ما نقله سلفه «جيمس كيلى» من «اعتراف» كوريا الشمالية بالبرنامج السرى لتخصيب اليورانيوم، مشيرًا إلى أنه اطلع على التقرير الذى بعث به «كيلى» إلى واشنطن بناء على مباحثاته فى بيونج يانج. ولكنه من تعبيرات وجهه ظهر لى أنه لم يكن مقتنعًا بطبيعة هذا الاعتراف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات