ورغم أن إعادة النظر فى الدستور كانت أحد المطالب الأساسية للثورة، كما كانت- دائما- أحد أهم الاعتراضات الشعبية على النظام السابق، فقد جاء التعديل مقصوراً على عدد محدود من المواد دون نظرة شاملة للموضوع، وأود فى هذا المقال إبداء عدد من الملاحظات على التعديلات المقترحة، وهى تتناول مناقشة جانبين، أحدهما شكلى متعلق بالإجراءات، والآخر موضوعى متعلق بمضمون الاقتراحات المقدمة لهذه التعديلات. وسوف أقتصر فقط على ما أراه أكثر أهمية، وأبدأ بالجوانب الشكلية.
لعل الملاحظة الأولى هى الإسراع بتحديد موعد قريب جداً للاستفتاء على التعديلات المقترحة، وذلك قبل أن تتاح الفرصة الكافية لمختلف شرائح المجتمع لاستيعاب التعديلات ومداها، وما يمكن أن يكون لها من تأثير على مستقبل الحياة الدستورية، ففترة أسبوعين تبدو قصيرة جداً لإعطاء المواطنين الوقت المناسب للاستماع إلى مختلف الآراء حول هذه القضية، وكنت أفضل أن تتاح فرصة كافية للمناقشة والحوار، مع فتح جميع القنوات الإعلامية من صحافة وإذاعة وتليفزيون لمناقشة هذه التعديلات من جميع الاتجاهات، بحيث تعطى المواطنين رؤية واضحة عن مضمون هذه التعديلات والآراء المختلفة حول جدواها، وبهذا فقط نجعل موافقة المواطنين أو رفضهم التعديلات مبنياً على معرفة كافية، وأعتقد أن هذه مسألة جوهرية إذا أردنا أن نجعل من الموافقات الشعبية حقيقة وليس مجرد إجراء شكلى للحصول على دعم شعبى تنقصه المعرفة بجميع التفاصيل والتداعيات.
هذا عن الملاحظة الشكلية الأولى، وهناك ملاحظة أخرى لا تقل خطورة، وهى أن هذه التعديلات سوف تعرض- كما يقال- كحزمة متكاملة للرفض أو القبول، وفى هذا نوع من المساومة غير العادلة للحصول على خاتم موافقة الشعب على نصوص قد لا يرضاها، نظراً لعدم موافقته على نصوص أخرى، فهنا يتشابه الموقف مع التاجر الذى يلزم الزبون بشراء نسبة من السلعة الفاسدة إلى جانب السليمة إذا أراد أن تتم الصفقة، الأمر الذى ينطوى على نوع من الضغط الأدبى غير المقبول، وإذا نظرنا إلى المواد المقترح تعديلها، نجد أن هناك مادتين أو ثلاثاً يتحقق حولها شبه إجماع، خاصة تلك المواد المتعلقة بإجراءات الترشيح لرئاسة الجمهورية، ومدة ولاية الرئيس أو الإشراف القضائى على الانتخابات، أو تقييد إجراءات فرض حالة الطوارئ، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى بعض المواد الأخرى المطروحة للتعديل. ولذلك فإن الأخذ بهذا الأسلوب بالاختيار بين الموافقة أو الرفض لحزمة التعديلات هو نوع من الضغط على إرادة المواطن، بإلزامه بالموافقة على حزمة قد لا يرضى عن بعض عناصرها، أو تضطره إلى رفض الحزمة فى مجموعها، رغم موافقته على بعض هذه العناصر.
ومادمنا نتحدث عن عدد محدود من المواد المقترحة للتعديل فى حدود عشر مواد، فلماذا لا نقدم بطاقة الاستفتاء مقسمة إلى عشر خانات، مع إعطاء كل خانة رقم المادة المقترحة والعنوان بمضمونها ثم يوضع أمامها اختياران أحدهما «موافق»، والآخر «لا أوافق»، وبهذا الشكل نضمن الحصول على الموافقة الحقيقية للشعب على كل من التعديلات المقترحة، بحيث لا ننسب إليه آراء غير دقيقة، نتيجة لوضعه فى مأزق بين رفض كامل لا يحبه، أو موافقة شاملة لا يرغبها.
هذا من ناحية الشكل والإجراءات، وهكذا فلا المواعيد المقترحة تبدو كافية، للحصول على رأى الجماهير بشكل عادل وسليم، ولا الأسلوب المقترح للتصويت على حزمة التعديلات المقترحة يعطى نتيجة منصفة عن آراء إرادة المواطنين، وأعتقد أن الأمرين فى حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر.
أما الجوانب الموضوعية فهى تعبير عن رأيى الشخصى، ولا أدعى أننى هنا أعبر عن رأى الغالبية، فربما يكون العكس هو الصحيح. ولكننى أعتقد أنه من الإنصاف أن تعرض جميع الآراء على الشعب، حتى يكون على وعى بمختلف الاتجاهات، فهو فى النهاية صاحب الحق الأصيل والوحيد.
أما النقطة الأولى، فهى أن التعديلات المقترحة لا تشير من قريب أو بعيد إلى مسألة الخمسين فى المائة «عمال وفلاحين» القائمة حالياً بالنسبة لتكوين المجالس النيابية، وهى قضية أثارت العديد من الانتقاد فى الماضى، وتمثل اختلالا غير مقبول فى حقوق المساواة بين المصريين بتمييز طبقة على ما سواها. ولا يخفى أن المجالس النيابية القادمة تنتظرها أعمال جسام، ومن الضرورى أن يكون تشكيلها متفقاً مع المبادئ الديمقراطية التى لا تميز بين فئة وأخرى، فللجميع حق المشاركة على قدم المساواة.
كذلك فإننى أود أن أُشير إلى ما يتعلق بشرط عدم الزواج بأجنبية من أجل الترشح لرئاسة الجمهورية، فأنا أرى أن مثل هذا الشرط فى غير موقعه، ويقوم على افتراضات ليس من الواضح صحتها دائماً، وأبدأ بالقول، بأننى شخصياً، غير معنى بهذا الشرط، فأنا متزوج من مصرية، كما أن أولادى فعلوا نفس الشىء. والقضية هى قضية مبدأ، ويستند التعديل على افتراض أن من يتزوج من أجنبية، فإن ولاءه لبلده يكون مشكوكاً فيه، وهو أمر فيه كثير من المبالغة وربما من الظلم أيضاً، وعلينا أن نتذكر أنه قامت فى وقت من الأوقات دعوة شعبية فى مصر لترشيح زويل لرئاسة الجمهورية، ولكن زويل متزوج من أجنبية، فزوجته سورية، فهل ينطبق معنى الأجنبية على الزيجات من دولنا العربية أيضاً؟ ألا يتصدر دستورنا بالتقرير بأن «مصر جزء من الأمة العربية»؟. أليس هذا تناقضاً؟ ثم دعنا نتذكر تاريخنا الحديث، فهل كان المصريون المتزوجون بأجنبيات أقل مصرية أو وطنية من غيرهم؟ هل كان طه حسين، وهو عميد الأدب العربى، أقل مصرية منى أو منك أيها القارئ العزيز؟ وماذا تقول عن يحيى حقى، الأديب الذى برع فى وصف الشخصية المصرية، فهل كانت مصريته ووطنيته أقل من زملائه الأدباء؟ وهل يختلف الأمر مع حسين فوزى، سندباد الأدب العربى؟ وماذا عن محمود خليل، صاحب أجمل مجموعة من اللوحات والتحف، التى هى فخر مصر الآن؟ وماذا عن وائل غنيم الشاب، الذى كان أحد أعمدة ثورتنا، فهل يحرم هو الآخر من حقه فى الترشح أيضاً؟ إذا كان القانون والدين يسمحان للمواطن بالزواج من أجنبية- عربية أو غير عربية- فكيف يعقل حرمانه من بعض حقوقه السياسية رغم أنه لم يرتكب جرماً أو يخالف قانوناً أو شرعاً؟
الوطنية المصرية شىء عزيز وغال، وكلنا نحرص عليها، ولكنها أيضاً وطنية إنسانية تؤمن بالإخاء فى الإنسانية، والزواج غالباً ما يكون وليد عاطفة نبيلة وليس بالضرورة مجرد عمالة لجهة أجنبية.
أفهم- مع ذلك- أن الزواج من أجنبية يمكن أن يثير لدى بعض المواطنين قلقاً، وهذا من حقهم، ولكن هل يكون الحل بحرمان مصرى من حقوقه دون خطأ من جانبه، ألا يكفى أن يلزم المرشح بأن يقدم نفسه وعائلته لجمهورية الناخبين، وهؤلاء يقررون وفقاً لتقديرهم مدى أهمية أو عدم أهمية هذا الاعتبار، التدخل بالمنع التشريعى هنا هو نوع من الادعاء الأبوى للسلطة بأن جمهور الشعب ليس قادراً على اختيار الأصلح لهذا المنصب السامى، فيتدخل المشرع لإنقاذ الناس من عدم تقديرهم للمسؤولية باختيارهم رئيساً متزوجاً من أجنبية (قد تكون عربية)، رجاءً دعوا الناس يقرروا ما يحبونه، فهم أكثر عقلاً ومسؤولية مما تتصورون.
وأما بالنسبة لمزدوجى الجنسية، فالأمر أكثر صعوبة وتعقيداً، والحد الأدنى الذى لا يمكن التساهل فيه هو أن شاغر هذا المنصب، أو حتى المرشح له، ينبغى أن تكون جنسيته الوحيدة هى الجنسية المصرية، فمن غير المتصور أن يكون شاغل هذا المنصب متمتعاً بحماية دولة أخرى، فيجب على المرشح، ومن باب أولى الرئيس المنتخب، أن تكون جنسيته الوحيدة هى الجنسية المصرية.
ولكن السؤال يثور عن مدى حق مزدوج الجنسية فى الترشح أصلاً إذا تنازل عن جنسيته قبل الترشح، بحيث لم تعد له- عند الترشح- سوى جنسية واحدة.
وهنا يمكن التمييز بين حالتين، فهناك من يحمل جنسية أخرى «بحكم القانون» ودون عمل إرادى من جانبه للحصول على الجنسية الأجنبية، ولكن هناك أيضاً من حصل عليها بطلب للتجنيس من دولة أخرى. ففى الحالة الأولى تثبت الجنسية بحكم القانون، يرجع ذلك إلى ولادة المرشح فى بلد أجنبى يمنح الجنسية، وفقاً «لحق الإقليم»، بمعنى أن من يولد على إقليم الدولة يتمتع مباشرة بهذه الجنسية، كما هو الحال فى الولايات المتحدة وفى إنجلترا حتى وقت قريب. فما ذنب هذا الشخص إذا ولد فى الخارج لأبوين مصريين فى دولة تأخذ بهذا الأسلوب، ويقوم والداه- وهو فى المهد- بقيده فى هذا البلد وحصوله على الجنسية الأجنبية، دون معرفة منه وبالتالى دون إرادته، وكل ذنبه أنه ولد فى الخارج وسجله أبواه فى هذه الدولة. وقد يكون وجود الأبوين فى الخارج فى مهمة حكومية أو فى بعثة دراسية لخدمة وطنه، فهل يعاقب هذا الطفل إذا عاد إلى بلده وعاش فيه ولم يعرف غيره بالقول بأنه لا يتمتع بما يتمتع به غيره من المصريين من الحقوق السياسية، وبطبيعة الأحوال، فإنه- فى مثل هذه الحالة- إذا أراد أن يمارس حقه الدستورى والسياسى فى الترشح لهذا المنصب، فعليه أن يتنازل عن الجنسية الأجنبية التى اكتسبها- رغماً عنه- بلا طلب شخصى منه. والأمر يكون مختلفاً بالنسبة لحاملى الجنسيات الأخرى إذا تم ذلك بطلب التجنيس. فهنا يتم الحصول على الجنسية الأجنبية بفعل إرادى من جانب صاحب الشأن، وعليه أن يتحمل نتائج هذا القرار.
والخلاصة التى أود أن أنتهى إليها، هى أن التشدد فى بعض هذه المظاهر الخارجية والمبالغة فى الموانع القانونية ليس دائماً أفضل الحلول، فالأمر الأكثر أهمية هو أن يلتزم المرشح بإعطاء بيانات كافية عنه وعائلته وعن علاقاته وأمواله، بحيث يكون للناخبين حق تقدير مدى خطورة مثل هذه الأوضاع على قدرته على ممارسة صلاحياته بما يتفق مع المصلحة العامة. ومتى توافرت جميع المعلومات، فإن الناخبين هم الحكم النهائى والصادق، وقد قال نبينا الكريم «لا تجمع أمتى على خطأ»- فإذا اختارت الأغلبية شخصاً بناءً على معرفة كاملة بأوضاعه العائلية والاجتماعية والمالية، فأغلب الظن أن حكمهم هو الحكم السليم، وهذه هى أيضاً الديمقراطية.
والله أعلم.
www.hazembeblawi.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات