الأقسام الرئيسية

أُمَّة ينهشها الفقر والجوع والغلاء والبطالة!

. . ليست هناك تعليقات:


عبارة 'المطلب مشروع؛ لكن الوسيلة غير مشروعة' لا تكفي لإيجاد الحل لانها، في صميمها، تنفي السياسة. القضية ليست حكومة وشعب فقط، بل سياسة ومعارضة أيضا.

ميدل ايست أونلاين


بقلم: جواد البشيتي


اليوم تونس والجزائر؛ وغداً..

الغلاء (في أسعار السلع الاستهلاكية والغذائية الأساسية الشعبية) في تونس والجزائر، والذي هو الوجه الآخر للرُّخص المتزايد والمتسارِع في سعر قوى العمل، أنْتَج أخيراً هذا الغليان الشعبي الاجتماعي الطبقي، فالجوع الكافر، مع ما تَنْعُم به فئة ضئيلة من ثراء فاحش، متأتٍّ جُلُّه من سرقة ونهب "المال العام"، يعني، أيضاً، أو في المقام الأوَّل، أنْ يشتد ويَعْظُم الكُفْر السياسي للمحكوم بالحاكم، وأنْ يَجْهَر الكافرون بكفرهم، فلا شرعية (سياسية أو قانونية أو فكرية أو أخلاقية أو إنسانية) للدول والحكومات، ولا شيء من العقلانية يبقى في وجودها، إنْ هي أصبحت عاجزة عن تلبية الحاجات الأولية والأساسية لرعاياها ومواطنيها.

ولإطفاء الحريق الشعبي الذي أشعلوه بأيديهم (والذي من نِعَمِه أنَّه يَصْهَر ويوحِّد الشعب في زمن الاقتتال القَبَلي وأشباهه) سارعوا إلى إطلاق الوعود التي انتهت دائماً (في الواقع) إلى زيادة كُفْر الناس بها وبمطلقيها، فالدولة أعدَّت خُططاً جديدة لخفض نسبة البطالة في السنوات القليلة المقبلة؛ وسوف تُكْرِه التُّجَّار (تُجَّار السلع الغذائية الأساسية) على البيع بربح أقل.

وكان أشد ما أدهشني في الخطاب الإعلامي الحكومي عبارة "المطلب مشروع؛ لكن الوسيلة غير مشروعة"، وعبارة أخرى هي "الاحتجاج الشعبي (على استفحال الغلاء) كان عفوياً تلقائياً، لم تصنعه قوى سياسية حزبية"؛ وكأنَّها جريمة كبرى ترتكبها الأحزاب السياسية إنْ هي نظَّمت، أو أطلقت، أو قادت، أو استغلَّت، هذا الاحتجاج، فالعلاقة هي بين الحكومة والشعب، ولا يحقُّ لطرف ثالث (أي الأحزاب السياسية) أنْ يتدخَّل فيها!

"المطلب مشروع"، على ما أعلنوا وقرَّروا؛ فليس من حكومة على وجه الأرض تجرؤ الآن على أنْ تقول على رؤوس الأشهاد إنَّ مطالبة مواطنيها بالعمل، وبالعيش الكريم، لا بل بالعيش الآدمي، ليست بالأمر المشروع؛ لكنَّ المطلب الشعبي يصبح غير مشروع، وزعزعةً للأمن والاستقرار، ورِجْساً من عمل الشيطان، إنْ "تَسيَّس"، كأنْ يُطالِب المحتَّجون بالحرِّية السياسية، وبتغيير ديمقراطي حقيقي لجوهر وأساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبالتداول السلمي والديمقراطي للسلطة الفعلية الحقيقية لا الشكلية، فإنَّ ثلاثية "الراعي" و"الرعية" و"المرعى" لا تعطي الشعب، أو الرعية، الحق في إنهاء حق "الراعي" في احتكار السلطة السياسية.

إنْ جُعْتُم فلكم الحق في المطالبة بما يقيكم شرَّ الموت جوعاً؛ أمَّا إنْ جُعْتُم سياسياً وديمقراطياً فخيرٌ لكم أنْ تؤمنوا، وأنْ تزدادوا إيماناً، بأنَّ للسياسة أربابها، وللحكم أهله!

لقد أقرُّوا بشرعية "المطلب"، معترضين على "الوسيلة"؛ فَلِمَ النزول إلى الشارع، وإشاعة ونشر "الفوضى"، وأنتم لكم البرلمان، الذي فيه، وبه، يتأكَّد، في استمرار، أنَّ الأمر شورى بينكم، أو بين ممثِّليكم المنتخَبين الشرعيين، وأنَّ أمركم فَوْضىً بينكم؟!

الغاية، ولو كانت شرعية لا ريب في شرعيتها، لا تُبرِّر، ويجب ألاَّ تبرِّر الوسيلة، فالغاية الشرعية لها وسيلتها الشرعية؛ وليس من وسيلة شرعية وقانونية ودستورية إلاَّ التي تقرها الحكومات (الشرعية الدستورية). لكنَّ هذه الحكومات لم تسأل، وليس من مصلحتها أنْ تسأل، عن السبب الذي يَحْمِل مواطنيها على "الاحتجاج العفوي التلقائي غير المنظَّم"، والنزول إلى الشارع، وارتكاب أعمال تنمُّ عن سلوك "غير حضاري" من قبيل تخريب الممتلكات الخاصة والعامة، وتزيين احتجاجهم بشيء من النار والدخان، وهُمْ الذين إنْ تكلَّموا لَوَقَع كلامهم (الهادئ المهذَّب) على أسماع تشبه أسماعهم ليس في البرلمان فحسب، وإنَّما في الحكومة، التي أتت من برلمان، أتى من الإرادة الحرَّة للشعب!

البرلمان لو لم يتَّسِع لأقرباء الحكومة من الشعب، ليضيق، من ثمَّ، بالشعب نفسه، أو بغالبيته العظمى، لانتفت الحاجة لدى "المحتَّجين العفويين، غير المنظَّمين، الفوضويين" إلى النزول إلى الشارع، والاحتجاج غير المُرخَّص لهم به حكومياً؛ ولقد كان على الحكومة أنْ تُؤْمِن بآية الصراع الكبرى، فكلَّما ضاق البرلمان بالشعب اتِّسع له الشارع؛ وإنَّ من حقِّ الشارع أنْ يَسُدَّ العجز السياسي المُزْمِن لدى الشارع (أي المشرِّع).

"قوى الأمن والنظام العام"، التي تسهر ليلاً نهاراً على أمن واستقرار الوطن والمواطن، لم تلجأ إلى آخر العلاج، وهو الكيِّ، إلاَّ في آخر المطاف، وليس في أوَّله، على ما يُزْعَم، فلمَّا شرع المحتجُّون يخرِّبون، ويُمعنون في تخريب، الممتلكات الخاصة والعامة، اضطُّر رجال الأمن، حُرَّاس النظام العام والاستقرار، إلى التدخُّل، فالحكومة، التي تُؤْمِن بالمبدأ الليبرالي "مُرْ ودَعْ غيرك يَمُر"، كانت ستسمح لهم بالمرور في الشارع، ومن شارع إلى شارع، لو لم يرتكبوا هذه الاعتداءات، ويسلكوا هذا السلوك "غير الحضاري"!

لكنَّ للواقع وجهة نظر أخرى، تُخالِف وجهة نظر الحكومة وتُضادُّها؛ فالواقع يخبرنا دائماً أنَّ للحكومة، في أوقات الضيق والشِّدة، "جنوداً لا تَرَوْنَها"، تتولَّى هي بنفسها هذا العمل (أي تخريب الممتلكات الخاصة والعامة) الذي، بشهادة الواقع نفسه، يتولَّى عنه المحتَّجون، أي يُعْرِضون عنه ويبتعدون، فمِن هذا التخريب (المنظَّم) يستمدُّون "الشرعية" في الضرب والقمع والقتل.

وشعوبنا ومجتمعاتنا جميعاً تعرف على خير وجه "المعنى الحكومي" للممتلكات العامة، ولكل ما هو "عام" من ثروة ومال؛ فالممتلكات العامة عندنا هي كالبقرة الحلوب، رأسها عند الشعب أو الأمَّة، وضرعها عند الحكومة، فإذا جَفَّ الضرع، أو أوشك أن يجف، تولَّت "الخصخصة" إتمام المهمة، فيُباع "العام" من الممتلكات بسعر بخس لمستثمر ما، فتنمو الأرصدة المصرفية الشخصية في المصارف الغربية التي تَنْعُم الحسابات فيها بالسرِّية المطلقة.

إنَّ "الأرقام" لأصدق إنباءً من كل خُطَبِهم وشعاراتهم وبياناتهم الرسمية وأبواقهم الإعلامية وخططهم وبرامجهم الحكومية..

ولقد جاء فيها: 140 مليون عربي يعيشون في فقر مدقع، أي ما نسبته 40 في المئة من أُمَّة العرب.. من خير أُمَّة أُخْرِجت للناس.

أمَّا الشباب، الذين "لهم الغد"، على ما يَزْعُم المطربون الرسميون في بعضٍ من أناشيدهم، فتنهشهم البطالة، وإنَّ 50 في المئة من جيش العاطلين عن العمل في البلاد العربية ينتمون إلى الشباب، فمعدَّل البطالة بينهم هو الأعلى عالمياً.

وبحسب تقرير لجامعة الدول العربية عن "تحدِّيات التنمية في الدول العربية"، تضمَّن تلك الأرقام والنِسَب، ينبغي لدولنا (العاطلة هي أيضاً عن العمل) أن تَخْلِق 51 مليون فرصة عمل جديدة في السنوات العشر المقبلة إذا ما أرادت إكساب سوق العمل العربية شيئاً من المرونة، فإنْ فشِلَت (وهذا هو الاحتمال الواقعي) فسوف ينمو هذا الشرِّ الاجتماعي (البطالة) أرقاماً ونِسَبَاً.. وعواقب.

وينبغي لها أيضاً أن تؤسِّس لاقتصاد يحمي الفقراء الأشد فقراً (أي نصف الأُمَّة العربية) من ارتفاع الأسعار، وأن تعزِّز الأمن الغذائي للعرب، وأن تحقِّق لهم اكتفاءً ذاتياً من الغذاء، وأن تسد الفجوة الغذائية في العالم العربي، وأن تتوصَّل جميعاً إلى "عقد اجتماعي عربي"، تتعهَّد بموجبه الدول الغنية بدعم عملية القضاء على الفقر في العالم العربي.

ولمكافحة شر البطالة، وللوقاية من استفحاله وتفاقمه، تقرَّر في الدورة 36 لمؤتمر العمل العربي؛ وهو أوَّل تجمُّع عربي رسمي يُعْقَد للمساهمة في تنفيذ قرارات قمة الكويت الاقتصادية، وفي مقدَّمها قرار أن تكون السنة 2020 موعداً لقيام "السوق العربية المشترَكة"، التي في قيامها يكمن الحل، أو جُلُّ الحل، لمشكلة البطالة العربية، فـ "العمل العربي المشترَك" بعد تلك القمة يجب، بحسب المتفائلين من المجتمعين، أي معظمهم إنْ لم يكن كلهم، أن يختلف عمَّا كان عليه قبلها. ولقد تحلَّى المجتمعون بكثيرٍ من الروح الأُسَرِيَّة إذ تحدَّثوا عن "الحل" عبر تعاون وتضافر جهود أضلاع مثلَّثه الثلاثة وهم: الحكومات، وأرباب العمل، والعمال.

مَنْ يسمع ذوي "الأرقام الرسمية" يتحدَّثون عن البطالة العربية يظن (أي يتوهم) أنَّ البطالة العربية لا تختلف نوعياً عن البطالة في دول الغرب، أو دول الشمال، فالعاطل عن العمل في هذا البلد العربي أو ذاك لا يختلف كثيراً، أو نوعياً، عن شقيقه في السويد مثلاً، ففي الظلام لا يمكن تمييز لون من لون!

العاطل عن العمل عندنا إنَّما هو أيضاً ضحيةً من ضحايا دولته، التي تُظْهِر وتؤكِّد استشراء الفساد الاقتصادي والاجتماعي فيها، وعجزها الخَلْقي والوراثي والجيني عن أنْ تُخْرِج من أحشائها ما يسمَّى "نظام الحكم الرشيد"، من خلال موقفها من العاطلين عن العمل من مواطنيها، فنظام السوق الحرَّة ما أن يُقْنِع رب العمل هذا أو ذاك بضرورة أن يلقي ببعضٍ من عمَّاله في خارج "إقطاعيته" حتى تتكفَّل الدولة، التي كلَّما التهمت من لقمة عيش مواطنيها الفقراء مزيداً من الضرائب زادت جوعاً، بتوسيع وتعميق مأساتهم، فهي، وعلى كثرة مزاعمها وادِّعاءاتها المضادة، لا تُقدِّم لهم شيئاً يُذْكَر، أو يُعتدُّ به، من المساعدة المالية (رواتب مؤقَّتة للعاطلين مؤقَّتاً عن العمل) أو من المساعدة لهم في العثور على فرصة عمل جديدة مناسبة.

إنَّها، أي الدولة، والحقُّ يُقال تُظْهِر في موقفها العملي من العاطلين عن العمل من مواطنيها انحيازاً طبقياً صريحاً ضدهم، وكأنَّها دولة لأرباب العمل فحسب.

ونحن يجب ألاَّ نضرب صفحاً عن حقيقة أنَّ أرباب العمل الاقتصادي وأرباب العمل السياسي قد تداخلوا وامتزجوا تداخلاً وامتزاجاً لم نرَ لهما مثيلاً من قبل، فَمِنَ القطاع الخاص يأتون إلى الوزارة أو النيابة، ومن هذه أو تلك يعودون، أو يذهبون، إلى القطاع الخاص، مستثمرين مناصبهم العامة على خير وجه في إنشاء وتطوير شراكة مع القطاع الخاص (وبعضه أجنبي) تعود عليهم بالنفع والفائدة، حاضراً، ثمَّ مستقبلاً.

إنَّ العاطل عن العمل هناك، أو في السويد مثلاً، يعيش اقتصادياً أفضل بكثير من "العامل النظامي" عندنا، ويلبِّي حاجاته المعيشية والاقتصادية الأساسية بما يُظْهِر "العامل النظامي" عندنا على أنَّه في وضع العاطل عن العمل (من الوجهة الواقعية، وبحسب هذا المقياس الاقتصادي والاجتماعي.. والإنساني الجيِّد).

العاطل عن العمل هناك، ومهما ساء عيشه بحسب مقياسه هو، يظل محتفظاً بكثير من قوام وجوده الإنساني والحضاري؛ أمَّا عندنا فإنَّ آدميته تشرع تضمحل وتتلاشى، وتُحْدِق بها المخاطر من كل حدب وصوب، فشتَّان ما بين عاطل عن العمل يظل محتفظاً بآدميته، محافظاً عليها، وعاطل عن العمل يعاين، ويعاني، على مدار الساعة، اضمحلالها وتلاشيها.

ونقول، أيضاً، ولو كره الطوباويون الأخلاقيون، وممتهنو الوعظ الأخلاقي، إنَّ العاطل عن العمل في مجتمعنا (الوحشي القلب، الإنساني القالب) هو الانهيار المتسارِع في "الجدار الأمني" للقيم الأخلاقية، فالعمل مع رفع مستوى عيش الإنسان هو الدرع الحامية لزهوره الأخلاقية؛ وكيف له أن يكون غير ذلك إذا ما كان الجوع طعاماً للكفر؟!

وحتى لا نُتَّهم بـ "الذاتية" في خصومتنا لمرتكبي شر البطالة من أرباب العمل نقول إنَّ القوانين الموضوعية لنظام السوق الحرة في عالمنا العربي غير الحر تُرْغِم حتى الملائكة منهم على أن يصبحوا شياطين، فالبضاعة التي ينتِجون، ويسعون في تسويقها في الخارج، لا يمكن أن تُنمِّى وتزيد قدرتها التنافسية إلاَّ من خلال خفض، والإمعان في خفض، "القيمة الدولارية" للأجور، فهذا الخفض هو الدجاجة التي تبيض لأرباب العمل ذهباً.

وخير وسيلة لخفض "القيمة الدولارية" لأجر العامل هي زيادة عدد المنتسبين إلى "جيش العاطلين عن العمل"، فكلَّما كثر عديد هذا الجيش تعرَّض أجر العامل النظامي لمزيدٍ من ضغوط المنافسة (بين هذا العامل وبين شقيقه العاطل عن العمل) فازداد استخذاءً، بالتالي، لتلك الضرورة الاقتصادية، أي لمصلحة رب العمل في خفض "الكلفة البشرية" لبضاعته.

أنْ يُلْقى بالعامل في الشارع، ويُمْنَع عنه من وسائل تلبية حاجاته الأولية والأساسية كل ما هو دون الهواء، فهذا هو ما يُنْتِج مزيداً من "البطالة الصريحة الشفَّافة الكريستالية"؛ أمَّا أن تتوفَّر الدولة على التوظيف والتشغيل في أجهزتها ومؤسساتها، بما يخدم مصالح فئوية ضيقة، فهذا هو ما يُنْتِج مزيداً من "البطالة المُقَنَّعة"، فالدولة عندنا أصبحت شركة، أو مؤسَّسة، لـ "وظائف بلا أعمال".

إنَّها، أي الدولة، ولأسباب ليس من أهمها المساهمة في تقليل حدة مشكلة البطالة، تمتصُّ، في أجهزتها ومؤسَّساتها، جزءاً من البطالة بهذه القطعة من الإسفنج، أي عَبْر تنمية "البطالة المُقَنَّعة".

وإذا كان للدولة عندنا، أي في عالمنا العربي، من وظيفة اقتصادية فإنَّ هذه الوظيفة هي زيادة حجم الأيدي العاطلة عن العمل، وتنمية "البطالة المُقَنَّعة" بما يخدم المصالح البيروقراطية لأجهزتها ومؤسَّساتها، و"تطوير" البنية التحتية للاقتصاد، والبنية القانونية للاستثمار، بما يؤدِّي إلى هروب وهجرة مزيد من رؤوس الأموال، والأدمغة، والأيدي العاملة الماهرة، إلى الخارج، وإلى استقدام مزيدٍ من "الرقيق الأجنبي الأبيض" إلى منازلنا ومزارعنا ومؤسَّساتنا..

في الواقع، نرى أنَّ "جيشين" ينموان في استمرار: "جيش العاطلين عن العمل" في الاقتصاد المدني، و"جيش الموظَّفين الحكوميين". والفرق بين الجيشين هو كالفرق بين "عاطل عن العمل لا يتقاضى راتباً"، و"عاطل عن العمل يتقاضى راتباً"!

لقد حان تقليص كلا الجيشين، من خلال جَعْل الاقتصاد المدني هو الإسفنج الذي يمتص البطالة، في استمرار، وبقوَّة متزايدة. وهذا يقتضي أن تقف "الدولة" من ظاهرة البطالة المستفحلة موقفاً يضطر "القطاع الخاص" إلى إصلاح نمط العلاقة بينه وبين "جيش العاطلين عن العمل"، وإلى "إقناع" أرباب العمل، بأنَّ "الحرِّية النسبية" هي معنى "الاقتصاد الحر"، فليس كلُّ تخطٍّ وتجاوز للحدود يعني الحرية والتحرُّر.

وفي اقتصاد عربي يشذُّ عن ناموس الجاذبية الكونية لا عجب إنْ رأينا فيه "القوة الطاردة المركزية" تفوق أضعافاً مضاعفةً "القوة الجاذبة نحو المركز"، فالاقتصاد والتعليم عندنا يتضافران على طرد مزيدٍ من رؤوس أموالنا، وأدمغتنا، وأيدينا العاملة الماهرة إلى الخارج، فها نحن، وبعد زمن طويل قضيناه في "تصدير" المواد الأولية إلى الرأسمالية الصناعية الغربية، نتوسَّع في "التصدير"، فـ "نُصدِّر" إليها رؤوس الأموال، والأدمغة، والأيدي العاملة الماهرة، ولا نستورد منها إلاَّ بما يؤدِّي إلى مزيدٍ من هذا المسخ لحياتنا الاقتصادية.

ذوو الخبرة والكفاءة والاختصاص من أبنائنا الذين أنفقوا كثيراً من المال والجهد والوقت في سبيل أن يصعدوا سُلَّم التعليم الجامعي حتى درجته العليا، وأن يجدوا، بالتالي، أمكنة لهم في سوق العمل، هم الآن، وبفضل خطط التنمية التي تتوفَّر دولهم على إعدادها وتنفيذها، في عداد الجيش الجرَّار للعاطلين عن العمل، فإمَّا أن يهجروا الوطن إلى "الوطن الثاني"، إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإمَّا أنْ يذهبوا إلى "مؤسَّسة الوظائف بلا أعمال"، أي إلى الدولة بأجهزتها ومؤسساتها المختلفة، لينعموا براتب متأتٍ من "عمل" لا يمتُّ بصلة إلى اختصاصهم اللعين.

"الغلاء" هو الارتفاع ومجاوَزة "القَدْرِ في كل شيء". وفي هذا المعنى يُقال: غلا السِعر. وغلاء الأسعار، أي أسعار المأكل والملبس والمسكن والعلاج والتعليم والكهرباء والبنزين والغاز..، إنَّما يُنتِج، بقوة الضرورة التاريخية والاجتماعية، رُخْصاً في "أسعار" أشياء ينبغي لكل مجتمع إنساني وحرٍّ أن يبقيها غالية، فالغلاء يُنتِج الفقر والجوع.. أي يُنتِج عالماً لا يحلُّ مشاكله إلا بالحراب، ويضمحل فيه "الإنسان" في داخل كل إنسان، فينهار بنيان الفرد والجماعة من القيم الأخلاقية والإنسانية والحضارية، ولا يبقى من مبدأ يُستمسكُ به إلا "مبدأ الذئاب"، الذي يُلْزمُكَ أن تكون ذئباً حتى لا تأكلكَ الذئاب!

هل للإنسان العربي من "سِعر"؟ كلُّ صُنَّاع الغلاء والفقر والبطالة، أي الذين لا مصلحة لهم تعلو المصلحة في ترخيص "سِعر البشر"، لن يتورَّعوا عن أن يحكموا على "السائل" بالزندقة، فالإنسان، في ريائهم ونفاقهم، ليس بالبضاعة حتى نتحدَّث، تأكيداً أو نفياً، عن "سِعره"، ولسوف يسمعونكَ قصائد في تمجيد الإنسان، وتنزيهه عن "السِعر" و"البضاعة" و"السوق".. أي عن كل تلك الأشياء التي يُقدِّسون!

في مجتمعنا العربي، والذي بعضه (أي غالبيته العظمى) يتألَّف من "مواطنين عاديين"، وبعضه من "مواطنين غير عاديين"، ويتساوى هؤلاء وأولئكَ، كذباً ونفاقاً، في نظر "القانون"، لا بدَّ للإنسان (المواطن) من أن يكون له سِعر.

وهذا "السِعر" إنَّما يتناسب تناسباً عكسياً مع سِعر كل تلك البضائع والخدمات التي لا بدَّ له من شرائها تلبية لحاجاته الأساسية، فكلَّما غلا سِعر تلك البضائع والخدمات رَخُص سِعر الإنسان، ورَخُص معه كل تلك الأشياء التي تُصنع منها إنسانية الإنسان!

"الراتب" أو "الأجر"، لدى غير العاطلين عن العمل، هو كل ما يملكه "المواطن العادي" من مال ينفقه في سبيل العيش، الذي جعله استفحال الغلاء صراعاً يومياً في سبيل "البقاء على قيد الحياة"!

هذا "الراتب" أو "الأجر"، الذي قد يزيد؛ ولكن زيادة لا يُعتدُّ بها، إنَّما هو سِعر تلك السلعة التي ترخُص في استمرار، فيُولِّدَ رخصها من الفقر والجوع ما يحضُّ المواطن على الكفر بكل ما تدعوه الحكومات إلى الإيمان به، فهلاَّ نُدْرِكَ المعاني الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والأمنية الكامنة في هذا الغلاء المستفحل!

كل الحقوق لأرباب العمل والمستثمرين في القطاع الخاص من عرب وأجانب، وليس للعمال والأجراء عموما من حقوق تُذكر ويعتد بها، فالتطاول المستمر والمتزايد على حقوق العمال والأجراء، أي الغالبية العظمى من المواطنين، هو ظُلم حتى بحسب مبادئ العدالة الرأسمالية، وكأن وحشية وتوحش الرأسمالية هو كل المحتوى الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والحضاري لخطط ومشاريع التنمية الاقتصادية التي عرفناها، والتي تقوم على "توثين" مبادئ الاقتصاد الحر، ومشتقاتها الجديدة في عصر العولمة.

إفقار، ومزيد من الإفقار، للحياة الاقتصادية للغالبية العظمى من المواطنين العرب هو ما عادت علينا به تلك الخطط والمشاريع في تنفيذها. وهذا الإفقار لن يظل اقتصاديا خالصا، فالإفقار الاقتصادي هو قوة إفقار لأمن المجتمع واستقراره، ولحضارته وأخلاقه وإنسانيته، فالمسار الهابط الذي نسير فيه حثيثا إنما يجعلنا قاب قوسين أو أدنى من الدرك الأسفل، وهو "تصفير" القدرة الشرائية الفعلية للغالبية العظمى من المواطنين العرب، فالراتب، أو الأجر، يكاد أن يتحول إلى وسيلة لتلبية الحاجة إلى المأكل فحسب. إن "حُصَّة الطعام" في الراتب، أو الأجر، تتسع، وتزداد اتساعا، حتى أن الحُصَص الأخرى ما عاد لمعظمها من مكان فيه. والطعام ذاته لا تعلو حُصَّته تلك إلا لتهبط نوعيته.

إننا في عصر العولمة، الذي من أهم سماته الجوهرية تكاثر وتنوع حاجات الإنسان، الذي يعدُّ ميتا، بالمعنى الحضاري والثقافي والإنساني والاقتصادي والاجتماعي، إذا ما عاش بالخبز وحده، أو في سبيل الخبز وحده. وفي هذا العصر، وبه، اشتدت مأساتنا وعنفت، فالعولمة تتحدانا أن نلبي حاجاتنا الإنسانية، بكثرتها وتنوعها، كما يلبيها غيرنا من الشعوب والأمم الغربية، ولكننا ما أن نحاول مواجهة هذا التحدي حتى يَظهر فينا من العجز ما لا يليق بإنسان القرن الحادي والعشرين، فقدراتنا الشرائية الفعلية استُنفدت، ودُمِّرت، فأصبح الراتب، أو الأجر، وسيلة لحياة فيها من معنى الموت أكثر كثيرا مِمَّا فيها من معنى الحياة.

كل مالكي البضائع والخدمات، أي فئة المواطنين غير العاديين وهم فئة ضئيلة، يملكون القدرة على حماية أسعار بضائعهم وخدماتهم. أمَّا مالكو بضاعة "قوة عملهم" فلا يحق لهم القيام بأي عمل قد يسمح لهم بحماية سعر بضاعتهم.

إذا رفع تاجر سعر بضاعته بدعوى أن كل شيء قد ارتفع سعره فإن هذا الرفع ينزل على حكوماتنا بردا وسلاما. أما إذا حاول العمال فعل الشيء ذاته، عبر إضراب مثلا، فإن محاولتهم تغدو تقويضاً للأمن والاستقرار.

إذا فعلها التاجر ففعلته تقرها شريعة اقتصاد السوق الحرة. أما إذا فعلها العمال ففعلهم رجس من عمل الشيطان، وتجديف بنعمة إله السوق الحرة!

على "الدولة" أن تقسو، ولو قليلاً، على هؤلاء حتى يكفُّوا عن "الاستثمار في البطالة"، وأن تُظْهِرَ حرصاً على تغليب "المصلحة العامة" على "المصلحة الضيِّقة".

لقد تمادى "القطاع الخاص"، الذي اشتدَّ ميله إلى الوحشية في الاستثمار وجني الأرباح، في اتِّخاذ "البطالة المستفحلة"، ونقيضها البائس، وهو "العمالة الأجنبية" أو الوافدة، والعمل الرخيص للنساء والأطفال، سلاحاً يحارب به حقَّ عمَّاله وموظَّفيه في زيادة القيمتين الاسميَّة والفعلية لأجورهم ورواتبهم.

ولقد ثَبُت لهم وتأكَّد أن لا خلاص للأمَّة بأسرها إلاَّ بالتأسيس لسوق عربية قومية مشترَكة، تؤسِّس للبنية الاقتصادية التحتية لـ "الاتحاد العربي"، إذا ما تواضعنا على اتِّخاذ "الاتحاد الأوربي" مثلاً أعلى لنا؛ لكن كيف لهم أن يَخْرجوا من جلودهم، فهم نتاج مصالح لا تُنْتِج فيهم إلاَّ مزيداً من الميل إلى إنتاج، وإعادة إنتاج، كل ما هو مضاد لتلك "السوق"، ولهذا "الاتحاد"، وكأنَّ "الشعار" الذي يفتقر إلى قوى تصارع من أجله يمكن أن يصبح حقيقة واقعة، فـ "البطالة" عندنا إنَّما هي جزء من بطالة أوسع، فلدينا أيضاً عاطلون عن التفكير، وعن العمل السياسي والحزبي، وعن المعارضة، وعن الإصلاح إذا ما كان ممكناً، وعن الرغبة في صعود الجبال، يَنْظرون إلى أحوالهم فـ "يُعْجَبون"، فيَنْظُر غيرنا إلى ما يثير إعجابنا فيستعجبون!

جواد البشيتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer