أن تترأس سيدة عربية رئاسة تحرير صحيفة أو مجلة فهذا أمر ليس ببدعة. أما أن تترأس أكاديمية عربية أول مجلة متخصصة في العالم العربي للتعاطي مع إشكالية الديمقراطية، تلك الكلمة التي بات المرء معها يتحسس أوراقه وأقلامه، على غرار ما كان غوبلز يتحسس مسدسه غداة استماعه لكلمة ثقافة؛ فهذا هو المثير في الأمر.
والدكتورة هالة مصطفى، ليست باحثة أو أكاديمية تترأس تحرير مجلة الديمقراطية، بل خبيرة في شؤون ما بات يعرف بالإسلام السياسي، وهي في رحلتها البحثية والكتابية يصعب على المرء تقديمها.
فهي كما حزم الضوء المتشظي منشور لا تستطيع أن تحتويها في لون بعينه، فهي كل الألوان، مزيج من الفكر العربي السياسي الليبرالي والأصيل في زمن مجده التليد، ونتاج لثقافة غربية تفاعلت معها دون مركب نقص من الدونية أو المضي معها في التماهي المطلق، وجل همها أن تعود سماوات العالم العربي لترفرف عليها آيات الليبرالية وتظللها شمس الديمقراطية، قد يفترق معها البعض في رؤاها وأطروحاتها، غير أن أحداً لا يقدر أن يبخسها قدرها كعلامة رائدة في مسيرة الحياة الفكرية المصرية والعربية.
في هذا الحوار المطول، نتناول معها بالافتراق قبل الاتفاق الكثير من القضايا الجدلية الآنية وفي مقدمها العلاقة الشائكة بين الديمقراطية والعالم العربي قديمه وحديثه.
نص الحوار
* هل بات هناك حقاً قدر التباعد بين العرب والديمقراطية؟ وماذا ينقص المجتمعات العربية حتى تسودها ديمقراطيات حقيقية؟
أعتقد أنه بالفعل لا يزال العالم العربي بعيداً عن ممارسة وتطبيق الديمقراطية. هناك بعض الإرهاصات أو المؤشرات الإيجابية هنا أو هناك، وتتفاوت حسب مدى تقدم هذه الدولة أو تلك، ومدى ما قطعته في مسيرة الحداثة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وهناك أيضاً دول مثل مصر والمغرب وتونس، إلى حد ما، لديها إمكانات لأن تتحول إلى الديمقراطية.
لكن مشكلة العالم العربي أن هناك في داخله دولاً لا تزال تعيش مرحلة ما قبل الدولة الحديثه، حيث تبقى في إطار المجتمعات القبلية والعشائرية، أي ما قبل فكرة الدولة القومية الحديثة. وحتى تظهر ديمقراطيات حقيقية أنت تحتاج إلى دولة حديثة قائمة على مفهوم القومية، تستطيع من خلالها أن توحد المجتمع بأكمله بكل أطيافه العرقية والدينية والثقافية حول الهوية القومية، ثم تبدأ المسيرة الديمقراطية. لكن حال الدولة قبل الحديثة يصعب ظهور الديمقراطية وتتسع الفجوة أو الخرق على الراتق كما يقال.
* لماذا فشل العالم العربي في تقديرك في أن يحذو حذو أوروبا الشرقية في التحول لجهة الديمقراطية، وإلى أي حد المقارنة جائزة أصلاً؟
المقارنة جائزة بالفعل لأن هناك بعض أوجه شبه ما يجعل أي مقاربة فعلية ممكنة، لا سيما وأن غالبية التجارب السياسية المعاصرة في العالم العربي، وبخاصة في الخمسينات والستينات، أي بعد الحصول على استقلالها من الاستعمار الغربي، كانت تستلهم نموذج الاتحاد السوفيتي. ولهذا كانت معظم الأنظمة العربية قائمة على التخطيط المركزي أو الاقتصاد الموجه، كما اختفى النموذج الليبرالي أو التعددي الذي كان قائماً في بعض الدول مثل مصر. وظهر نظام الحزب أو التنظيم الواحد، إضافة إلى ذلك تمتعت الأجهزة الأمنية بصلاحيات واسعة، هذا كله تشابهت فيه دول العالم العربي مع دول أوروبا الشرقية.
غير أنه كان هناك اختلاف جذري في واقع الأمر من ناحية أخرى، ذلك أنه عندما حدثت تجربة أوروبا الشرقية، رأى المراقبون أن الدور قد حان لتجربة مثيلة في عالمنا العربي. وفاتهم أن التكوينات السياسية والمؤسسية عندنا هشة وأضعف ما هي عليه في أوروبا الشرقية، عندنا تغيب فكرة المؤسسة الحديثة بينما هذه كانت قائمة حتى في أوروبا الشرقية، لأنها في نهاية الأمر جزء أصيل من المجتمع الأوروبي سواء كان في حالة نظام شمولي أو تحول ديمقراطي.
* كيف لحضور المؤسسية بشكلها الأوسع أن يدفع لجهة الدمقرطة وغيابها لأن يختصم من انتشارها؟
تراث أوروبا السياسي مستمد من التجربة المسيحة الكنسية الأولى. ولهذا يعرف العمل المؤسسي بأشكاله وليس المؤسسة الأمنية فقط، كما في الأنظمة الشمولية، ولهذا فإن أوروبا بشكل عام لديها خبرة تاريخية في هذا السياق غير موجودة في عالمنا العربي، هذه ثقافة وتلك ثقافة أخرى، بدون أن يعني هذا أيهما أفضل أو أسوأ.
هذه الفكرة ترتب عليها ضعف في الاجهزة التشريعية في العالم العرب ، البرلمانات كمثال، والاحزاب السياسية ايضا، تكوينات المجتمع المدني ولدت ضعيفة، وتعاني من نفس المشاكل التي تعاني منها اجهزة الدولة، لا توجد جمعيات او اتحادات قوية تلتف حول فكرة وتستطيع ان تؤثر في المجتمع تاثير حقيقي، ما لدينا هو شبه مؤسسات شبه اتحادات او مجتمع مدني وليس تنظيمات قوية، واشكاليتها انها دائما ما تتمحور حول اشخاص وليس لديها قدرة او قوة ذاتية داخلية، ولا تعرف تداول السلطة او العمل الجماعي كفريق، ولا اساليب التاثير في المجتمع، ما يجعلها غير قائمة على بناء داخلي متين وغالبيتها مرتبطة بالخارج، ليس بالمعنى الايجابي ، ففي اوربا الشرقية كان هناك ارتباط مع الخارج لكن الخارج لم يكن مصدر تحريك الاشياء كان فقط عامل مساعد، اما لدينا فانت ترى جماعات او جمعيات تقوم على التمويل الخارجي وحال انتهى او انتفى التمويل تنتهي الجمعية بدون تاثير في المجتمع او الجماعة السياسية.
"دمقرطة" العالم العربي
* بعد نحو عام ونصف تقريباً من غياب جورج بوش الرئيس الأمريكي السابق عن الساحة العالمية، ما هو تقييمك لنتاج دعوته عبر ثماني سنوات لدمقرطة العالم العربي؟
لا توجد نتيجة ملموسة، لكنه مؤكد حصل فرق وتأثير، الدعوة كانت صاخبة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، لكن مدى تأثيرها مسألة خلافية وغير واضحة بشكل ملحوظ، لكن نستطيع ان نقول إنها أدت إلى تأثيرين: الأول عند الحكام، إذ جعلتهم أكثر حساسية والأنظمة أكثر استنفاراً، وبالتالي ربما أكثر ميلاً للتقييد وليس للانفتاح، ما يعني أن دعوة بوش أدت إلى عكس ما أرادته على مستوى الأنظمة.
على الناحية الثانية أحيت آمال عند بعض الناس في التحول الديمقراطي أو التغيير في الشرق الأوسط.
لكن ما أود الإشارة إليه هو أن فكرة نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط لم تكن مهملة تماماً أمريكياً من قبل، فهي دائماً وأبداً من الأفكار المكونة للاستراتيجيات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، لكنها لم تكن بالأولوية التي تجعل منها بالفعل مسألة استراتيجية فعالة بقدر مسائل أخرى، مثل الحفاظ على منابع النفط أو تأمين وجود دولة إسرائيل، وما جرى في عهد بوش هو أنه قدم أولوية نشر الديمقراطية في العالم العربي على أهداف أخرى في أجندة سياساته الخارجية.
* هل كان بوش شخصياً وراء هذا التغيير أم عناصر أخرى في إدارته؟
أعتقد أن الفريق الذي عمل معه خاصة في الخارجية الأمريكية كان يرى أن هناك إمكانية لتكرار تجربة أوروبا الشرقية، وقد صارحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس بأن لي رأي آخر مغاير تجاه هذا النهج.
هذا ما قلته لرايس
* التقيت كونداليزا رايس وجهاً لوجه في أكثر من مقابلة ذات طابع خاص. ما هي وجهة نظرك التي طرحتيها في مقابل رؤيتها السابقة؟
كانت وجهة نظر الوزيرة رايس أن العالم العربي سيتغير بشكل أسرع إذا ما تم تطبيق تجربة أوروبا الشرقية في العالم العربي عبر تكوين جبهة كبيرة للمعارضين بحيث تستطيع أن يكون لها كلمة مسموعة، وتستطيع أن تؤثر في أو تضغط على الأنظمة لإحداث التغيير المطلوب بأسرع وقت وأفعل قدر.
في المقابل، قلت لها إنه يمكن استلهام بعض الأفكار من تجربة أوروبا الشرقية، إلا أنه من الصعب جداً تطبيقها على العالم العربي والإسلامي، فقد كنت ولا زلت أرى أن التغيير في العالم العربي لا بد أن يأتي بالأساس من الداخل. مصر على سبيل المثال يجب أن يأتي الإصلاح فيها من داخل الحزب الحاكم نفسه وليس من جبهة التغيير، وأنه على الإصلاحيين من داخل الحزب الحاكم في مصر قيادة عملية الإصلاح والتغيير والسير نحو الديمقراطية، وهذا أمر طببيعي في ظل وجود سلطة مركزية، وما عززت به توجهي هذا حالة الانقسام القائمة بين صفوف المعارضة المصرية واختلاف أجنداتها السياسية، وكان بادياً انه من الصعب للغاية اتفاقهم جميعاً على هدف واحد وبالتالي استحالة الاعتماد عليهم في إحداث تغيير واسع المدى والمفعول.
* الناشط المصري الدكتور سعد الدين إبراهيم كتب أخيراً وعبر الصحافة الأمريكية يقول إن نشطاء الديمقراطية العرب يفتقدون جورج بوش بعد تجربتهم مع خلفه باراك أوباما. لماذا هذا الافتقاد في رأيك؟
هذا التصريح يعكس مشكلة بنيوية في تكوينات العالم العربي السياسية كما أسلفت، ويكشف كم هي المعارضة ضعيفة في ذاتها وغير قادرة أن تقوى بدون سند خارجي بشكل مستمر.
أفهم أن الدعم الخارجي عامل محفز، لكن حال توقف هل تتوقف الدعوة للتغيير في الداخل؟ هذا معناه أنك لست حركة أصيلة وأنك غير قادر على الوصول إلى الناس وتعول على العالم الخارجي بأكثر مما تسعى إلى الإصلاح والدمقرطة بدعم الشعوب ذاتها.
* هل كانت السياقات التي تسلم فيها الرئيس أوباما الحكم تسمح له برفاهية الاستمرار في دعم مسيرة بوش لنشر الديمقراطية خاصة في العالم العربي؟
أوباما لم يكن يمتلك رفاهية إعطاء أولوية للسياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بقضية معقدة مثل قضية نشر الديمقراطية، وكانت أولويته واضحة من البداية، وهي الاقتصاد خاصة في ظل الأزمة المالية الكبيرة التي ضربت بلاده.
ومعروف أن المواطن الأمريكي في مقدمة أولوياته دائماً القضايا الداخلية، ما لم تكن هناك قضية خارجية كبيرة جداً، ومع مجيء أوباما كان الانغماس في القضايا الداخلية، وبوش نفسه بدأ الأشهر الأولى من ولايته الأولى مهتماً بالقضايا الداخلية قبل زلزال 11 سبتمبر الذي غير أولويات أجندته. وبحال من الأحوال تبقى الفكرة ذاتها قائمة لدى الإدارات الأمريكية المختلفة لا تبارحها.
* ما جرى في العراق حتى الآن يؤكد فشل نشر الديمقراطية عبر طريق تغيير أنظمة الحكم دون تغيير الذهنية العربية. هل هذا صحيح؟
رغم كل الأخطاء تظل الديمقراطية أفضل نظام حكم، لكن إذا كان المجتمع مؤهل لقبولها، المشكلة في العراق أنه يصعب أن يقوم في الأمد المنظور نموذج ديمقراطي في بلد تتحكم فيه الصراعات الطائفية والمذهبية، فإذا تمت السيطرة على تلك الخلافات عبر الوسائل السلمية الديمقراطية ساعتها يمكن أن يكون العراق نموذجاً، وقد كان لبنان من قبل نموذجاً للتعددية لكن الطائفية كانت كائنة في الصدور وجرى هناك ما جرى، وهذا يؤكد أنه لا يوجد حتى الساعة نموذج عربي سوي لديمقراطية حقيقية أو تجربة ديمقراطية مكتملة.
المساعدات لمصر
* كيف يمكننا قراءة تخفيض واشنطن الدعم المالي المقدم لمؤسسات المجتمع المدني المصري العاملة في حقل الديمقراطية وحقوق الإنسان والانتخابات؟
تخفيض الدعم يعني بشكل مباشر كما أسلفت أن فكرة نشر الديمقراطية انتقلت إلى درجة أقل في سلم الاهتمامات الأمريكية، لا سيما ما يخص الشرق الأوسط، فبعد أن كانت الأولوية رقم 3 على سبيل المثال في أجندة بوش انخفضت إلى المرتبة السادسة أو السابعة بالنسبة لأوباما، وهنا يبقى من الطبيعي أن يقل الدعم المباشر للمجتمع المدني وتبقى هناك أيضاً مصلحة أخرى تتمثل في إحداث توازن مع الأنظمة الحاكمة لإرضائها بعد أن كانت مستنفرة تماماً؟!!
* البعض في العالم العربي يرجع الانتكاسة الديمقراطية للاستعمار الغربي وليس لقصور عربي ذاتي. هل توافقين على هذا الرأي؟
يجب ألا نخجل من القول إن تراثنا العربي مختلف عن التراث الأوروبي الذي أنتج الديمقراطية الحديثة هذا بداية، وهناك نماذج آسيوية وبعضها لدول مسلمة مثل ماليزيا وإندونيسيا وبنجلاديش تأثرت إيجابياً بالقوى الغربية الاستعمارية، وهناك دول غير مسلمة بالمرة كما الهند التي اكتسبت تجربتها الديمقراطية من الاستعمار البريطاني، إشكاليتنا الحقيقية في العالم العربي هي التخلي عن الرؤية الموضوعية للأشياء، نرى كل شيء بشكل حدي أسود أو أبيض، بينما الهنود لا ينكرون استفادتهم من التجربة البريطانية، نحن حتى الساعة لا نريد الاعتراف بأن الديمقراطية منتج غربي.
الديمقراطية والإسلام
* هل العجز العربي عن المضي قدماً في طريق الدمقرطة له علاقة ما بالدين أو النمط الثقافي الإسلامي السائد عربياً؟
هذه مسألة تحتاج إلى إلقاء مزيد من الضوء، الديمقراطية لم تكن منتجاً عربياً إسلامياً، أنت تقول الشورى هي الديمقراطية، وأقول هناك فارق كبير بين المبادئ التي تساعد على الإنتاج وبين المنتج نفسه في شكله النهائي. الشورى مبدأ في الإسلام يساهم ضمن عوامل أخرى في إنتاج سلع ذهنية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الملكية الفردية، ربما لدينا المبادئ لكن نحن لم ننتج السلعة الرئيسية، كما أن كافة الدراسات التي صدرت عن غربيين مثل جون اسبوسيتو، فرانسوا بورجا، جيل كيبل، ريتشارد هاس، كلها تجمع على أنه لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية.
ففي الإسلام على سبيل المثال هناك فكرة البيعة، أي موافقة المحكومين على اختيار الحاكم، هذه أيضاً فكرة تتوافق مع الديمقراطية، لكن لا الشورى ولا البيعة تمثل الفكرة الأوسع للديمقراطية كما هي مطروحة غربياً، وأعزي ذلك إلى أن الإسلام لم يطرح نظام حكم بعينه، لكنه معين واسع لمبادئ ومفاهيم تستلهم منها أنظمة الحكم المختلفة ما يتوافق واتجاهاتها السياسية المتغيرة مع تغيرات الزمان والمكان.
* البعض يرى أن التيارات الراديكالية الإسلامية تمثل حجر عثرة في مسار ومسيرة العملية الديمقراطية على الأصعدة العربية. إلى أي مدى يصدق هذا القول؟
لا أعتقد ذلك، الجماعات الإسلامية الأصولية من السهل جداً مواجهتها ليس بالطرق الأمنية فحسب بل بوسائل شتى من الاحتواء، في فترة من الفترات كان البعض في المجتمعات العربية يتقبلها، لكن لاحقاً غالبية المجتمعات العربية تنفر منها ولم تعد تستهوي المجتمع المصري خاصة والعربي عامة، وأشير إلى أن الجماعات الراديكالية الإسلامية وبخاصة المسلحة منها هي بطبيعة تكوينها الأيديولوجي والتنظيمي محدودة وغير جماهيرية ولا تستطيع أن تتحول إلى مد شعبوي.
تجارب الأحزاب الإسلامية
* ذهبت ذات مرة في الرأي إلى أن الحركات الإسلامية تسعى للديمقراطية مرة واحدة ثم تنقلب عليها إلى الأبد.. هل أنت عند هذا الرأي بعد؟
بعد رؤية عدد من التجارب الإسلامية الأخيرة وللموضوعية أقول أن بعض التجارب الإسلامية تؤكد رؤيتي المتقدمة والبعض الآخر يقدم نموذجاً مغايراً، حماس على سبيل المثال تؤكد وجهة نظري، جاءت للحكم عبر انتخابات ثم انقلبت على السلطة الفلسطينية، ولن يتركوا مكانهم ولا أظن أنهم يسعون للصلح مع فتح.
هناك نموذج آخر يعزز رأيي كذلك وهو النموذج الإيراني، ففي الانتخابات الإيرانية الرئاسية الأخيرة نجد أشياء كثيرة معيبة جداً، مثل الحظر الذي فرض على كل أصحاب المدارس الفكرية والتيارات السياسية الأخرى وحرمها من المشاركة في الانتخابات الرئاسية. ولا يخفى على أحد أن التيارات الإيرانية الرسمية بأكملها كلها تنويعات على الإسلام أو على المرجعية الإسلامية، الليبراليون استبعدوا وكذلك اليساريون كلهم تعرضوا للإقصاء.
النموذج الإسلامي الوحيد الذي يتعامل بذكاء حتى الساعة على الساحة الدولية هو النموذج التركي.
* لكن الإسلاميين أو جزء كبير منهم على الأقل استطاع الالتفاف على فكرة استعمالهم فزاعة ضد الولايات المتحدة.. هل نجحوا في ذلك؟
الإسلاميون وعبر العقدين الماضيين حاولوا تغيير تلك الفكرة وقدموا أنفسهم للغرب وبالذات الجناح السياسي منهم على أنهم ليسوا أعداء للغرب وأنهم لا يختلفوا كثيراً عن الأنظمة القائمة وهذا صحيح، لا سيما وأن الأنظمة أو بعضها على الأقل يلعب على وتيرة مغازلة التيارات الإسلامية في الداخل العربي لسحب البساط أحياناً من تحت أرجل الجماعات السياسية الإسلامية.
* هل لهذا السبب لا تزال واشنطن "تغازل" الإسلاميين من المحيط إلى الخليج؟
الولايات المتحدة الأمريكية لديها سياسة ثابتة لا تتغير وهي فتح قنوات الاتصالات مع كل الأطراف سواء المغضوب عليهم أو المرضى عنهم، والأنظمة السياسية العربية تتحمل تبعات هذه الاتصالات، فهي التي أعطت واشنطن الانطباع بأن الإسلاميين هم الفصيل المعارض الوحيد في البلاد بعد أن جعلت من المعارضة السياسية غير الإسلامية مسخ، لكن هذا الوضع في طريقه للتغير الآن بعد ظهور أصوات كثيرة على الساحة السياسية العربية. ولم يعد الإسلاميون فقط هم المهيمنون على المعارضة في الشارع العربي، رغم أنهم حاولوا ولا يزالوا تقديم أنفسهم على أساس أنهم ليسوا بذلك السوء الذي صورته الحكومات.
* ماذا عن الأفق السياسي لحركات الإسلام السياسي اليوم وخاصة بعد رفع الضغوطات الأمريكية عن الأنظمة العربية لجهة إشراك كافة قوى المجتمعات في الحياة السياسية؟
أظن أن التيارت الإسلامية ستحتفظ بمكانة ما، بالتأكيد ليست المكانة التي كانت موجودة من قبل في الفترات السابقة بسبب ضغوطات الديمقراطية الخارجية وما نحوها، ولم تعد جماعات الإسلام السياسي محظورة بمعنى الكلمة لأنها تشارك في الانتخابات وكلها تعارض من داخل البرلمانات بشكل شرعي، ولهذا فإنه لا بد من وجود تعريفات جديدة سياسية لهذه الكيانات تعطي مصداقية لواقع الحال السياسي على الأرض، لا سيما وأن بعضاً منها يتصدر المشهد السياسي الداخلي بدرجة أو بأخرى.
وسائط الاتصالات الجديدة
* ظهور الوسائط الجديدة للاتصالات مثل الفيسبوك والإنترنت والمدونات والمحمول.. إلخ هل ستعطي الشعوب العربية فرصة مضافة للتواصل الديمقراطي ما يسهل المهمة مستقبلاً؟
أعتقد أن هذا صحيح، فالأجيال الجديدة ستضحى متحررة بصورة كبيرة من الخوف السابق أو عدم الوعي بالقضايا السياسية العامة بسبب وفرة المعلومات وسرعة تدفقها ونوعيتها عبر هذه الوسائط الإعلامية الجديدة، ولهذا فإننا في مصر نشهد مولد جيل جديد لم ينخدع بشعارات الراديكاليين كما حدث مع مواليد الستينات، وبخاصة أنه نما وشب بعد أن رحل جيل الليبراليين عن عالمنا بنهايات السبعينات وأوائل الثمانينات، اليوم نرى جيل جديد من شباب منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات يحرك كثيراً من المياه السياسية الراكدة في المجتمع.
* الكاتب الأمريكي توماس فريدمان وعبر نيويورك تايمز أشار إلى ما سمّاه "لعنة النفط"، حيث ربط بين عوائد النفط وتقوية الأنظمة الشمولية، وبالتالي تقزيم مساحات الديمقراطية. هل توافقينه الرأي؟
المزيد من الرفاهية الاقتصادية ليس شرطاً لازدهار الديمقراطية، ولا يعني وجود الثروة أنها ضد أو نقيض الديمقراطية، كما أن هناك مجتمعات كثيرة عير ثرية وتتمتع بنظام ديمقراطي، غير أنه في كثير وليس كل البقاع التي ظهر فيها النفط وليس في المنطقة العربية فحسب، بل ربما في أمريكا اللاتينية، بدا وكأن مردودات النفط تمثل عقبة أمام التغييير والإصلاح والدمقرطة، لأنها تمتص غضب الناس ولذلك لا تشعر الجماهير بالحاجة إلى التغيير بسبب مستوى الرفاهية التي توفره، لكن في كل الأحوال الثروة النفطية أثرها اليوم أقل بكثير عن أثرها منذ 10 سنوات مضت.
ثورات ملونة
* لماذا خمدت في تقديرك الثورات الملونة التي شهدناها الأعوام الماضية في جمهوريات سوفيتية سابقة مثل جورجيا وأكرانيا وروسيا البيضاء. وهل يعني هذا أن الأنظمة الشمولية السابقة يمكن أن تعود ثانية؟
أعتقد أن جزءاً كبيراً من الأسباب يعود إلى الأزمات الاقتصادية، ذلك أن اليسار في أوروبا الشرقية قوي ومنظم وأحزابه لها حضور في الشارع، وبالتالي عندما تحتدم الأزمات الاقتصادية يجد اليسار فرصة للظهور من جديد، وبالتالي تحدث انتكاسات، هذا حصل أيضاً في أمريكا اللاتينية وليس فقط في الجمهوريات السوفيتية السابقة، أو في دول أوروبا الشرقية، وهنا تبرز من جديد فكرة العدالة الاجتماعية مقابل الحرية، لكن في كل الأحوال أجزم بأنها لن تؤدي إلى عودة الأشكال الشمولية القديمة إلى الحكم، هذه مسألة ذهبت إلى غير رجعة، وعقرب الساعة لا يتحرك إلى الخلف.
* التوافق الروسي الأمريكي يمكن أن ينعكس في صورة صفقات تدعم أنظمة غير ديمقراطية، طالما كان الأمر يصب في صالح السياق التصالحي الأوسع للقطبين الكبيرين، أليس كذلك؟
الولايات المتحدة الأمريكية لعبت ولا شك دوراً كبيراً مع الاتحاد الأوروبي ودوله لتغيير أوروبا الشرقية وقت كان الاتحاد السوفيتي هو المهيمن على المشهد، هناك اليوم بلا شك توجد صفقات بينية بعضها علني وآخر منها خفي، روسيا ما زال لديها طموحات لاستعادة بعض نفوذها الذي فقدته، وشهدنا ذلك في الصراع الذي جرى في جورجيا ثم أكرانيا وأخيراً قيرغيزيا ما عرف بثورة السوسن، هذه بلا شك تتدخل فيها الصفقات بين الجانبين، ولا يجب أن نغفل اليوم أن روسيا بوتين وميدفيديف ليست روسيا جورباتشوف ويلتسين، فقد حدث تغيير في الفلسفة والرؤية، وبدأت الدولة الروسية تستعيد قوتها بشكل كبير ويتبلور الآن صورة نظام شبه ديمقراطي في روسيا وليس نظام ديمقراطي بالمطلق، وهذا أمر يرتبط بالتوجهات الخارجية.
الإخوان وانتخابات مصر
* عودة إلى مصر، ما هي توقعاتك لمستقبل الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة في مصر العامين القادمين؟
أتوقع أنهم سينافسوا كالعادة، وسيشاركوا بنسبة حقيقة أكبر في انتخابات مجلس الشعب المصري بأكثر من مجلس الشورى، لكن الانتخابات الرئاسية لن يقتربوا منها مباشرة. يمكن أن يقدموا دعماً لمرشح ما، إنما استراتيجيتهم أكثر ذكاء من طرح مباشر في ما يخص رئاسة الدولة، أما عن عدد المقاعد التي يمكن أن يفوزوا بها فهذا يعتمد على الصفقات التي ستحدث إما مع النظام أو مع المعارضة أو مع السياسيين الآخرين، وربما ستكون مقاعدهم هذه المرة أقل عدداً من الانتخابات الأخيرة، وهذا يعزى إلى تنامي الوعي السياسي لدى طبقات جديدة في الشارع المصري من شباب الحركات المطالبة بالتغيير ومن اليساريين.
* اسم الدكتور محمد البرادعي بات اليوم يشكل شبه ظاهرة سياسية جديدة في مصر، هل سيتحول إلى ظاهرة لاحقاً؟ وما علاقته بالحراك السياسي المصري الأخير؟
بلا شك حضور البرادعي ساهم في إعادة إحياء الحركة السياسية في المجتمع المصري، ولكن ليس إلى الدرجة التي تحدث التغيير الكبير، الرجل إيقاعه هادئ جداً، وربما الحراك السياسي المصري الأخير يعكس تعطشاً للحركة السياسية في مصر لجهة التغيير وليس بالضرورة لتغيير النظام, فالكثيرون من الذين انضموا إليه جاؤوا من خلفيات مختلفة، فهم مثقفون معترضون نظرياً، نشطاء محبطون واقعياً، وبعض من أصابهم ضرر مباشر من النظام، وبعضهم كان يناصر سياسيين آخرين مثل أيمن نور، أو من خلفية حركات مثل كفاية أو 6 أبريل، وإشكالية هذه التنويعة هي إنها تلجأ لفكرة الشخص المخلص دون إيمان حقيقي به، كما أنها معرضة للتفكك والانفراط من حوله بسهولة وسرعة بسبب عدم وجود تجانس في ما بينهم.
البرادعي قد يبدو شخصية جذابة وجاذبة، لكن يفتقد الكاريزما للقائد المغير للأوضاع، فهو يظهر ويختفي دون قراءة أو طرح سياسي متبلور يلامس الأرض.
* ماذا عن مسيرة الإصلاح بمعناه الواسع في مصر، وهل يأتي هذا الإصلاح من القاعدة الشعبية أم من القائمين على الحكم؟
هناك بالفعل إصلاحات من القائمين على السلطة اليوم أفعل في واقع اللأمر من مطالبات القاعدة الشعبية، فهذه عبرت أخخيراً عن غضبها بسبب انخفاض مستوى المعيشة والفقر، أي أنها حركات احتجاج وغضب معيشي وليس سياسي، غير أن النظام المصري اليوم يطور استراتيجيات تلامس التغيرات الجذرية، وهو اليوم ليس كما من عشر سنوات قبل، ولو بدا في بعض اللحظات أنه يظهر نوعاً من التقييد أو القمع، هناك مساحة واضحة لحرية التعبير، والنظام عبر قرون الاستشعار يتحسس نبض الشارع وبحاول دائماً تنفيس الغضب عبر وسائط حقيقية غير أمنية، ذلك أن التحكم الأمني فقط لا يعول عليه كثيراً في الإصلاح خاصة، كما أن صورة النظام في عيون العالم الخارجي أمر له أهميته عند القائمين على الأمر، فهناك معايير دولية يجب
مراعاتها ولم تعد دول العالم تعيش في جزر منعزلة، كما أن هناك أجيالاً جديدة في الحزب الحاكم لديها رؤى وأفكار للتطوير، فهناك تعددية آراء في الحزب الوطني الديمقراطي المصري الحاكم اليوم.
حول مستقبل مصر
* هل أنت متفائلة بشأن المستقبل السياسي لمصر ولجهة انتشار الفكر الديمقراطي؟
متفائلة بلا شك، ذلك أنه مهما بدت الظروف مؤلمة، فمصر لديها قدرة على معالجة ومداواة ذاتها بذاتها، والمجتمع المصري ونظام الحكم مهما كان شكله قومي، ثوري، ديمقراطي لم يصل أبداً إلى درجة من العنف الداخلي في تعامله مع المعارضين أو المحتجين كالنظام البعثي مثلاً. ذلك أن ما ينسحب على رجل الشارع العادي ينسحب أيضاً على رجل الأمن الذي هو بطيبعة الحال جزء من المجتمع.
وأظن أنه خلال السنوات العشر القادمة سنشهد تغيرات إيحابية واسعة مصرياً وعربياً، وأنا ضد القول أن المستقبل لتيار بعينه أو أن الفوضى هي المستقبل، أرى أنه سيكون هناك وعي أكبر وتعليم أفضل، ومشاركة سياسية أوسع وأنظمة عربية، وهذا هو الأهم من وجهة نظري، بها الكثير من العناصر المؤمنة والمؤهلة لذلك وعندها الإمكانات والقدرات للعمل على الإصلاح من الداخل.
* هل من وصفة ناجعة تدفع الديمقراطية العربية للأمام، لا سيما وسط الجدل الصاخب الدائر بين الداخل الوطني والخارج الدولي المحفز؟
في عالم اليوم وفي ظل التجارب التي جرت على مستوى العالم في وسط آسيا بدا أنه لا بد من الوصول إلى معادلة معقولة توائم بين الداخل والخارج، الديمقراطية بحكم معطيات الواقع منتج غربي نحاول أن نجعل مجتمعاتنا تتكيف معه، والعالم يعيش مرحلة من التبادل الاقتصادي غير المسبوق، وكثير من الأنظمة تتلقى علناً ورسمياً مساعدات مالية وعينية من أوروبا وأمريكا، والنظام الدولي سواء قبلنا أو أبينا بات يتسم بتراتبية نفوذية، إن جاز التعبير، تسمح لبعض الدول وعبر سياساتها الخارجية بالتدخل سلباً أو إيجاباً في سياسات دول أخرى، وهناك دائماً احتكاك بين العنصر الداخلي والخارجي، لكن مهما كان من شأن التحفيز الخارجي فإنه بدون الصوت الوطني الصادق في الداخل لن يفلح أمر نشر الديمقراطية في العوالم والعواصم العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات