الأقسام الرئيسية

ويكيليكس: من إشكالية الحقيقة إلى تحدي الغرب والشرق

. . ليست هناك تعليقات:

ثمة عقيدة يقينية عند كثير من العرب والمسلمين تقول بأن ما يشلّ حركتهم لا يمكن تفسيره إلا بالآخر الغربي الذي يتآمر عليهم يوميا في الخفاء ويدس لهم الدسائس.

ميدل ايست أونلاين

بقلم: حمّودان عبدالواحد

مما لا شك فيه أن الاشكالية التي تؤرق الكثير من العرب والمسلمين اليوم، وتمثل تحديا لهم تكمن في سؤال من النوع التالي : هل يمكن للحقيقة لما تكون ضحية الاحتلال والحرب في دولة عربية أو إسلامية كما هو الحال في العراق أوأفغانستان أن تستعيد بعض ماء وجهها بفضل شجاعة وذكاء شخصيات غربية وإخلاصهم لمبادىء الحرية والعدالة واحترام القانون؟

إن نظرة سريعة على الأسئلة المطروحة في استطلاعات الرأي في الصحافة العربية بخصوص تسريبات ويكيليكس، تعطينا فكرة واضحة عن رؤية أغلبية العرب لهذه المسألة. وهذا ما يبدو واضحا من خلال الاستطلاع الذي قامت به مثلا صحيفة "الحياة":

هل تعتقد أن صاحب موقع "ويكيليس"، جوليان أسانغ، الذي سرّب وثائق استخباراتية سرية، هو:

- هاكر (قرصان كومبيوتر) متمرّس

- صحافي إلكتروني من طراز فريد

- عميل متخف للاستخبارات الأميركية

- ناشط سياسي على طريقة جيل الإنترنت.

لماذا لا يتوفر هذا الاستطلاع على سؤال آخر يبدو أنه القادر على تفسير التحمس الجماهيري في العالم لموقع وكيليكس: مناضل من أجل الحقيقة؟

فهذا النوع من الاستطلاعات يوجه القارىء نحو اتخاذ موقف ربما لم يفكر فيه أبدا أو على العكس يفكر فيه دائما ويمنعه في النهاية من التفكير بحرية في مواقف أخرى. وهذا واضح في سؤال العميل المتخف للاستخبارات الأميركية لأن الأمر في الواقع لا يخرج عن حيز نظرية المؤامرة أو التآمر، إذ ثمة عقيدة يقينية عند كثير من العرب والمسلمين تقول بأن ما يشلّ حركتهم لا يمكن تفسيره إلا بالآخر الغربي الذي يتآمر عليهم يوميا في الخفاء ويدس لهم الدسائس. من هنا فهو يشك دوما في كل ما يأتي من الغرب ويسيء الظن به. ولا غرابة في هذا السياق أن يكون جوليان أسانغ عند غالبية 41/° مصوتي الاستطلاع أعلاه هو عميل أميركي. إن طريقة التفكير هاته تعبر عن عجز خطير حل منذ زمن طويل بعقليةٍ أصبحت غير قادرة على حسن الظن بالآخر أو توجيه النقد لنفسها ومراجعة الآليات التي تتحكم في تشكيل نفسياتها وذهنياتها، وبرمجة أفكارها ومواقفها. لماذا لا يكون هذا الرجل الغربي صادقا في أقواله ويرمي إلى أهداف نبيلة من خلال تسريب وثائق عسكرية أميركية سرية للغاية وتنطوي على خروقات عديدة للقانون والأخلاق والمبادىء العليا للديانات والفلسفات الروحية وحقوق الانسان؟ كيف يمكن لعميل متخف للاستخبارات الأميركية أن تصدر منه تصريحات ويقوم بتصرفات تضر بمصالح أميركا وتسيء بسمعتها في العالم؟

بالتأكيد لما تكون الدوافع من التصدي للمعتدين والظالمين والفاسدين هو الرغبة في الانتقام أو الانتصار عليهم فقط، فمن شأن هذا أن يقود إلى انحرافات لاقانونية وانتهاكات أخلاقية وأفعال لاعقلانية تنزوي عن الهدف النبيل والسليم، الشرعي والقانوني الذي هو الدفاع عن الحقيقة وتطبيق ما يترتب عن اكتشافها من أخذ حقوق المظلومين لأن في هذا التزام بمبدأ يتجاوز الزمان والمكان ويبقى مفعوله قائما ما دامت السماوات والأرض. أما إرادة الانتقام ورغبة الانتصار فتوَلّد موجة من ردود الفعل تتميز في الغالب بالعنف، ويقع هذا على حساب الحقيقة والقوانين مما يزيد في تعقيد الحلول ويكثِر من الفتن والانقسامات والتطلعات العدوانية نحو الآخر.

يُثبتُ التاريخ أنّ المواجهات بين الأنظمة الحاكمة، إنّما كانت في عمومها من أجل الانتصار وقهر الآخر والتنكيل به وتوجيه النصر في خدمة رؤية القوة التي يتبناها النظام المنتصر. وهذه الرؤية تفرض الآن وجودَها بشكل هستيري، وهي تتجلى بالخصوص في إرادة الهيمنة التي تجند القوات الكبرى في العالم من أجلها كلّ شيء : المال، والسلاح، والجنود، والتكنولوجية الجديدة، بل وكل ما من شأنه أن يلجم المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الانسان... كل هذه الوسائل تُسخر في سبيل تكريس الهيمنة والاحتلال، والنهب و الغصب والسرقة، والقهر والظلم. فكم من نظام سياسي يتحدى اليوم العالم باسم القوة، ودولة إسرائيل التي تحتل أرضا وشعبا وتلعب بالقانون الدولي وتقامر بالقيم والأخلاق خير مثال على ذلك، وأميركا تساندها للأسف في هذا المشروع المتغطرس والخطير.

لكن أمام "هستيريات الجشع" وإرادات الهيمنة التي تستبيح كل شيء، تبقى قلوب الناس متطلعة صوب اتجاهٍ آخر يسمى " الحقيقة "، ولا يفهمون لماذا تتصرف الأنظمة الديموقراطيّة اليوم في سياستها لايجاد حلول لمشاكل الاقتصاد والتنمية والاستقرارباللجوء إلى "ممارسات أمنية" تضرب عرض الحائط المبادىء والقوانين التي تزعم أنها كانت وراء التزاماتها في العالم العربي والاسلامي. من جهة أخرى، وكما لاحظ منذ سنوات كارل جاسبرس karl jaspers، فإنّ الديموقراطية تتخلى عن نفسها وتتحول بالضرورة إلى ديكتاتوريّة لما تبحث عن فرض سيطرتها على الآخرين من أجل نشر مبادئها الكريمة، مثلما حدث للثورة الفرنسية لما أصبحت مع طموحات نابوليون ديكتاتورية.(1)

المهم ليس أن ننتصر، بل أن يكون الانتصار من أجل الحقيقة أو لنقل الأهم هو انتصار الحقيقة. وهذا ما ينقص اليوم وبصورة صارخة الغرب الذي لم يستطع حتى الآن أن يتخلص من "عقدة الهيمنة ". ما الذي تحتاجه المجتمعات اليوم : الصراع بين الدول والثقافات من أجل الظهور في صورة القوي المنتصر المُهاب أم الوقوف في وجه إرادة الهيمنة والصمود أمام زحف الاحتلال في صوره المتعدّدة من أجل إعطاء الكلمة للحقيقة والعدل وبالتالي إرساء قواعد السلام؟

فهذه جرْمِن تيّون Germaine Tillion، التي كانت تناضل في باريس من أجل محاربة الاحتلال الألماني في سنة 1941، تذكِر رفاقها، كما جاء ذلك في كتابها "البحث عن ما هو حقيقي وعادل" (2) بأنّ خدمة الوطن الحبيب مشروطة بعدم التضحيّة بالحقيقة، حتى لو كان في هذا الشرط تأخير للنصر.

ففرق جوهري كبير بين من يريد، باسم محاربة الظلم والفساد والاعتداءات، الانتقام والانتصار، وبين من يسعى في رؤية أخرى أن تنتصر الحقيقة أي أن ينكشف أولا المستور، ثم تُعطى الحقوق لاصحابها ويطبق القانون بطريقة إنسانية وعادلة على المجرمين، مع العمل الحثيث الصارم على تبني ومتابعة سياسات الحيطة والحذر حتى لا تتكرر نفس المظالم في المستقبل. الطريق الأول سهل جدا لأنه قصير النظر وتطبعه لاعقلانية زمنية ومكانية متمثلة في الحدود الطائفية أو الدينية أو الجغرافية أو غيرها. أما الثاني فهو خيار صعب لأنه ينبع من مسؤولية إنسانية محفزة بوعي أخلاقي كوني يتحدى الزمان والمكان والثقافة والجغرافيا، وهو محفوف بالمخاطر وتقف في وجهه عقبات عملاقة من التحقيقات والبحث في التفاصيل وكل أنواع الجزئيات الضرورية لإثبات الحقيقة.

والحالة هذه، هل يمكن اليوم في العالم العربي والاسلامي أن نتصور خلق ويكيليكسات - ويكيليكس مصري وويكيليكس أردني وويكيليكس سوري وويكيليكس سعودي وويكيليكس مغربي وفي بلدان أخرى عربية - تكون في خدمة الحرية والعدالة وكل ما من شأنه أن يرفع من قيمة الانسان دون خوف من السلطات أو تنازل عن الحقيقة؟

إن الحقيقة لا يمكنها أن تنتصر إلا إذا تعاونت جهود الشرق والغرب في خلق قفزة نوعية في التعامل مع ذواتهما، فإذا استطاعا أن يتجاوزا ذواتهما في تناقضاتهما الأنانية وهوياتهما الضيقة، آنذاك تكون الانسانية قد حققت خطوة كبيرة نحو الأمام. وهذا هو التحدي...

-------------------------

Todorov Tzvetan, La peur des barbares, Robert Laffont, Paris, p.192. (1)

( 2) A la recherche du vrai et du juste, Seuil, Paris, 2001, p.74.

حمّودان عبدالواحد - فرنسا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات

اخر الاخبار - الأرشيف

المشاركات الشائعة

التسميات

full

footer