المدهش فى الأمر أنه فى حين لاتزال الدماء تسيل أنهارا فى ليبيا، ويستمر القصف الوحشى للجماهير الغاضبة الذى لم يستثن حتى الجنازات. وفى حين تتواصل الانتقادات والتحذيرات من العواصم الغربية، فإن العالم العربى يقف متفرجا وصامتا.
وباستثناء بيان الأمين العام لجامعة الدول العربية الذى أدان استخدام العنف ضد المتظاهرين، لم يصدر تصريح واحد من أى حكومة عربية يعبر عن التعاطف مع الشعب الليبى المعرض للإبادة.
إن الأخ العقيد الذى ما انفك يزهو بأنه عميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا اعتبر أن معارضيه يهددون أمن ليبيا ويسعون إلى تخريبها، بعدما اختزل الوطن فى شخصه، وأقنعه المنافقون بأنه من «ثوابت» المجتمع الليبى التى لا غنى عنها إلى أبد الآبدين. ومن المفارقات أنه فى حين ادعى إعلامه الرسمى بأن الثائرين ليسوا سوى مجموعات من الأجانب الذين اندسوا فى أوساط الشعب ووأرادوا ضرب استقرار البلاد، فإن طائراته لم ترحم الجموع الليبية الحاشدة التى خرجت فى بنغازى وطبرق والبيضا ودرنة، وظلت تلاحقها بوابل نيرانها المجنونة.
السيناريو نعرفه جيدا. فى الخلفية يستمر قمع الجماهير وتكميمها لسنوات طويلة، الأمر الذى يشيع بين الناس درجات عالية من الشعور بالمهانة والغضب. وإذ تستمر الضغوط ويتراكم الغضب، يصبح الانفجار هو الحل. وحين يحدث ذلك تطلق الدعاوى التى تتهم الغاضبين بكل نقيصه، ويبدأ الحديث عن المندسين والتآمر الذى تعده الجهات الأجنبية، ويتخذ القمع أشكالا عدة تتراوح بين الاعتقال والإبادة. وفى الوقت ذاته يعزل المجتمع عن العالم الخارجى، وتقطع الاتصالات حتى بين المواطنين بعضهم وبعض، ويجرى التشويش على الفضائيات التى تتابع ما يجرى (خصوصا قناة الجزيرة). غير أنه كلما سال الدم ارتفعت وتيرة الغضب واتسعت رقعة الثورة، الأمر الذى يعنى أن النظام فقد أعصابه وشرعيته، وصار على وشك السقوط.
علامات النهاية تلوح فى الأفق. فإصرار الجماهير على مواجهة التحدى واضح، وانحياز بعض وحدات القوات المسلحة إلى جانب الغاضبين، وكذلك استقالة بعض المسئولين فى الحكومة سواء كانوا وزراء أو سفراء، ذلك يعنى أن النظام بدأ فى التفكك الذى يسبق الانهيار. لكن من الواضح أن الأخ العقيد لم تتناه إلى سمعه أصوات الغاضبين، ولم يقرأ واقع بلاده، بالتالى فإنه بدوره «لم يفهم» ما يجرى. ولم يستوعب شيئا مما جرى حوله فى تونس ومصر، وكانت النتيجة أنه لم يتردد فى إحراق البلد كله تعلقا بأمل استمراره فى المنصب الذى يحتكره منذ أكثر من أربعة عقود.
إن مشكلة العقيد، وأمثاله فى العالم العربى، أنهم يرفضون فهم الواقع أو الإنصات لصوت الجماهير أو صوت التاريخ. إنهم يرفضون إدراك حقيقة أن الدنيا تغيرت، وأن المجتمعات التى يحكمونها منذ عدة عقود لم تعد كما كانت. فثمة أجيال تعلمت ووعت وتمكنت من الاتصال بالعالم وإدراك ما يجرى فيه. وهذه الأجيال لها تطلعاتها وأشواقها التى ترفض التنازل عنها. لا فرق فى ذلك بين دول نفطية وغير نفطية، أو دول غنية وأخرى فقيرة.
لقد كان يقال فى الماضى إن الثورة مستبعدة فى ليبيا، لأنها دولة نفطية يسهل على حاكمها أن يرشو شعبها صغير العدد. وترددت هذه الفكرة بعد الثورة التونسية، حيث كان يقال إن ثورة الفقراء فى تونس لا شبيه لها فى ليبيا. ونسى هؤلاء أن الشعوب لها كرامة تريد أن تحس بها وأن تمارسها. وأن الرخاء حتى إذا توافر فإنه لا يمكن أن يدفعها إلى التنازل عن كرامتها. وما يجرى فى ليبيا ينسحب على بقية الدول النفطية بطبيعة الحال. ولذلك لن نستغرب إذا شجعت الأجواء الراهنة شعوبا أخرى فى العالم العربى لكى تنتفض وتطالب بحقها فى إدارة شئونها وتقرير مصيرها.
إن الحاصل فى ليبيا يبعث بإنذار إلى الجميع منبها إلى أنه ما لم تشهد الأقطار العربية بما فيها الخليجية والنفطية إصلاحا سياسيا حقيقيا يرد إلى المجتمعات اعتبارها، فإن انفجار الجماهير قادم لا ريب. كما أن أساليب القمع لم تعد تجدى، وإذا كانت قد صلحت لبعض الوقت فإنها يقينا لا تصلح لكل الوقت.
صحيح أن ما يحدث فى ليبيا جريمة كبرى لكن ما يحدث فى أقطار عربية أخرى ليس مطمئنا ولا هو مبرأ من الاتهام، وإذا قيل إنه من قبيل الجرائم الصغرى، فإن ذلك يعنى أنه يختلف عنه فى الدرجة فقط وليس فى النوع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المدونة غير مسئولة عن أي تعليق يتم نشره على الموضوعات